الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(21) ومن سورة تنزيل
[2901]
عن عبد الله بن مسعود قال: جاء رجل من أهل الكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم، إن الله يمسك السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والشجر والثرى على إصبع.
ــ
و(قوله: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}) أي: تشكون في الوعد بالنصر، يخبر عن المنافقين. أو يكون معناه: أنهم خافوا من أن يخذلوا في ذلك الوقت، فإنَّ وقت وقوع النصر الموعود غير معين. وهذا أحسن من الأول، ويؤيده قوله تعالى:{هُنَالِكَ ابتُلِيَ المُؤمِنُونَ وَزُلزِلُوا زِلزَالا شَدِيدًا} امتحنوا بالصبر على الحصار وشدة الجوع، وزلزلوا بالخوف من أن يخذلهم الله في ذلك الوقت، ويديل عدوهم عليهم، كما فعل يوم أحد. وقد تقدَّم الخلاف في غزوة الخندق متى كانت.
(21)
ومن سورة تنزيل (1)
(قول اليهودي: إن الله يمسك السماوات على إصبع. . . الحديث إلى آخره). هذا كله قول اليهودي، لا قول النبي صلى الله عليه وسلم، والغالب على اليهود أنهم يعتقدون الجسمية، وأن الله تعالى شخص ذو جوارح، كما تعتقده غلاة الحشوية في هذه الملة، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم منه، إنما هو تعجب من جهله، ألا ترى أنه قرأ عند ذلك:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدرِهِ} أي: ما عرفوه حق معرفته، ولا عظموه حق تعظيمه. وهذه الرواية هي الرواية الصحيحة المحققة، فأمَّا رواية من زاد في هذا اللفظ: تصديقا له، فليست بشيء؛ لأنَّها من قول الراوي، وهي باطلة؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يصدق الكاذب ولا المحال، وهذه الأوصاف في حق الله تعالى محال، بدليل
(1) هي سورة الزمر.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ما قدمناه غير مرة، وحاصله أنه لو كان تعالى ذا يد (1) وأصابع وجوارح على نحو ما هو المعروف عندنا، لكان كواحد منا، ويجب له من الافتقار والحدث والنقص والعجز ما يجب لنا، وحينئذ تستحيل عليه الإلهية، ولو جازت الإلهية لمن كان على هذه الأوصاف لجاز أن يكون كل واحد منا إلها، ولصحت الإلهية للدجال، ولصدق في دعواه إياها، وكل ذلك كذب ومحال، والمفضي إليه كذب ومحال، فقول اليهودي كذب ومحال، ولذلك أنزل الله تعالى في الرد عليه {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدرِهِ} . وإنما تعجب النبي صلى الله عليه وسلم من جهله، فوهم الراوي وظن أن ذلك التعجب تصديق، وليس كذلك. فإن قيل: فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن (2)، فقد أخبر بأن له أصابع. فالجواب: أنه إذا جاءنا مثل هذا في كلام الصادق تأولناه، أو توقفنا فيه إلى أن يتبين وجهه، مع القطع باستحالة ظاهره، لضرورة صدق من دلت المعجزة على صدقه. فأمَّا إذا جاءنا مثل هذا على لسان من يجوز عليه الكذب، بل من أخبرنا الصادق عن نوعه بالكذب والتحريف كذبناه، وقبحناه، ثم لو سلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صدقه، وقال له: صدقت، لما كان تصديقا له في المعنى، بل في النقل، أي في نقل ذلك عن كتابه أو عن نبيه، وحينئذ نقطع بأن ظاهره غير مراد، ثم هل نتوقف في تعيين تأويل ونسلم، أو نبدي تأويلا له وجه في اللسان وصحة في العقل على الرأيين اللذين لأئمتنا، وقد تقدما. وقد قلنا: إن الأصبع يصح أن يراد به القدرة على الشيء ويسارة تقليبه، كما يقول من استسهل شيئًا واستخفه مخاطبا لمن استثقله: أنا أحمله على أصبعي، أو أرفعه بأصبعي وأمسكه بخنصري. وكما يقول من طاع بحمل شيء: أنا
(1) الأوْلى أن نثبتَ لله تعالى ما أثبته لنفسه في قرآنه، من غير تشبيه ولا تجسيم ولا تعطيل ولا تأويل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
(2)
رواه أحمد (2/ 168)، ومسلم (2654).
في رواية: ثم يهزهن ثم يقول: أنا الملك، أنا الملك، قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه.
ــ
أحمله على عيني وأرفعه على رأسي. يعني به: الطواعية، وما أشبه ذلك مما في معناه، وهو كثير، ولما كان ذلك معروفا عند العقلاء متداولا بينهم، خوطبوا بذلك جريا على منهاجهم، وتوسعا معلوما عندهم. وعلى هذا فيمكن حمل الحديث وما في معناه على نحو من هذا، وبيان ذلك أن السماوات والأرض، وهذه الموجودات عظيمة أقدارها في إدراكنا، وكبير خلقها في حقنا، فقد يسبق الوهم الغالب على الإنسان، أن خلقها وإمساكها على الله تعالى كبير، وتكلفها عسير، فنفى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوهم بهذا الحديث، وبينه على طريق التمثيل بما تعارفناه، فكأنه قال: خلق بيده المذكورات العظيمة، وإمساكها في قدرة الله تعالى كالشيء الحقير الذي تجعلونه بين أصابعكم، وتهزونه بين أيديكم، وتتصرفون فيه كيف شئتم، ولهذا أشار بقوله: ثم يقبض أصابعه ويبسطها. وبقوله: ثم يهزهن أي: هن في قدرته كالحبة مثلا في حق أحدنا؛ أي: لا يبالي بإمساكها، ولا بهزها، ولا تحريكها، ولا القبض والبسط عليها، ولا يجد في ذلك صعوبة، ولا مشقة، ومن لا يقنعه هذا التفهيم فليس له إلا سلامة التسليم، والله بحقائق الأمور عليم.
و(قوله تعالى: أنا الملك) أي: الحقيق بالمُلك والمِلك، إذ لو اجتمع ملوك الدنيا من أولها إلى آخرها وجميع المخلوقات، لما استطاعوا على إمساك مقدار ذرة من الأرضين، ولا من السماوات، وهذا معنى قوله: أنا الملك، في حديث اليهودي.
فأمَّا قوله: أنا الملك في حديث ابن عمر، فمقصوده إظهار انفراده تعالى بالملك عند انقطاع دعاوى المدعين، وانتساب المنتسبين، إذ قد ذهب كل ملك وملكه، وكل جبار ومتكبر وملكه، وانقطعت نِسَبهم ودعاويهم، وهو نحو قوله تعالى:{لِمَنِ المُلكُ اليَومَ لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ} والإمساك المذكور في حديث اليهودي خلاف الطي والقبض الذي في حديث ابن عمر؛ فإنَّ
وفي أخرى: تصديقا له وتعجبا لما قال، ثم قال:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدرِهِ}
رواه البخاريُّ (7415)، ومسلم (2786)(21 و 22)، والترمذيُّ (3238).
[2902]
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟
رواه أحمد (2/ 374)، والبخاريُّ (4812)، ومسلم (2787).
[2903]
وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ .
رواه مسلم (2788)(24)، وأبو داود (4778).
ــ
ذلك الإمساك هو استدامة وجود السماوات والأرض إلى يوم يطويها ويقبضها ويبدّلها، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُمسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِن أَمسَكَهُمَا مِن أَحَدٍ مِن بَعدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} وقد بينا القبض والطي في الأنعام.
و(قوله في حديث ابن عمر: ثم يطوي الأرض بشماله) كذا جاء في هذه الرواية بإطلاق لفظ الشمال على يد الله تعالى، ولا يكاد يوجد في غير هذه الرواية، وإنما الذي اشتهر في الأحاديث: وبيده الأخرى كما جاء في حديث أبي موسى الأشعري المتقدِّم، وقد تحرز النبي صلى الله عليه وسلم من إطلاق لفظ الشمال على الله تعالى
[2904]
عن عبد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يأخذ الله سماواته وأراضيه بيديه، فيقول: أنا الله - ويقبض أصابعه ويبسطها - أنا الملك، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم.
رواه البخاري (7413)، ومسلم (2788)(25)، وأبو داود (4732)، وابن ماجه (198).
* * *
ــ
فقال: وكلتا يديه يمين لئلا يُتَوهم نقص في صفة الله تعالى، فإن الشمال في حقنا أضعف من اليمين وأنقص، كما تقدَّم، فنفى النبي صلى الله عليه وسلم عن الله ذلك، لكنه جاء في هذا الحديث كما ترى على المقابلة المتعارفة في حقوقنا، والله تعالى أعلم.
و(قوله: ويقبض أصابعه ويبسطها) ظاهره: أنه خبر عن الله تعالى، ووجهه ما ذكرناه، وقال بعض علمائنا: هو خبر عما فعله النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّه قبض أصابعه وبسطها، فيخف الإشكال، ويكون ذلك إشارة بالحواس إلى المعاني، والله تعالى أعلم.
و(قوله في المنبر: أنه تحرك من أسفل شيء منه) أي: أنه تحرك من أسفله إلى أعلاه. أو تحرك الأسفل بتحريك الأعلى. وظاهر حركة المنبر أنها إنما كانت لحركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن تكون حركة المنبر مساعدة لحركة النبي صلى الله عليه وسلم، كرامة وزيادة في دلالة صدقه، كحنين الجذع، وتسبيح الحصى وما أشبه ذلك.
* * *