الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(9) باب حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات وصفة أهل الجنة وصفة أهل النار
[2739]
وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات.
رواه أحمد (3/ 153)، ومسلم (2822)، والترمذي (2559).
[2740]
وعن عياض بن حمار المجاشعي - وقد تقدم أول حديثه
ــ
(9)
ومن باب: قوله: حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات.
هذا من التمثيل الواقع موقعه، ومن الكلام البليغ الذي انتهى نهايته، وذلك أنه مثَّل المكارهَ بالحفاف، وهو الداء بالشيء المحيط به الذي لا يتوصل إلى ذلك الشيء إلا بعد أن يُتخطى، وفائدة هذا التمثيل: أن الجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره، وبالصبر عليها، وأن النار لا ينجى منها إلا بترك الشهوات وفطام النفس عنها. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه مثل طريق الجنة وطريق النار بتمثيل آخر، فقال: طريق الجنة حزن بربوة، وطريق النار سهل بسهوة (1). والحزن: هو الطريق الوعر المسلك، والربوة: المكان المرتفع، وأراد به أعلى ما يكون من الروابي. والسهوة، بالسين المهملة، وهي الموضع السهل الذي لا غلظ فيه، ولا وعورة، وهذا أيضًا تمثيل حسن واقع موقعه، وقد تقدَّم القول على أول حديث عياض في كتاب العلم.
(1) رواه أحمد (1/ 327).
في العلم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهلِ الأَرضِ فَمَقَتَهُم، عَرَبَهُم وَعَجَمَهُم، إِلَّا بَقَايَا مِن أَهلِ الكِتَابِ، وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثتُكَ لِأَبتَلِيَكَ وَأَبتَلِيَ بِكَ،
ــ
و(قوله: إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب) نظر: بمعنى أبصر، والمقت: أشد البغض، وأراد بالعجم هنا: كل من لا يتكلم بكلام العرب، ويعني بذلك قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن كلا الفريقين كان يعبد غير الله، أو يشرك معه غيره، فكان الكل ضلالا عن الحق، خارجين عن مقتضى العقول والشرائع، فأبغضهم الله لذلك أشد البغض، لكن لم يعاجلهم بالانتقام منهم حتى أعذر إليهم بأن أرسل إليهم رسولا، وأنزل عليهم كتابا قطعا لمعاذيرهم، وإظهارا للحجة عليهم. وإنما استثنى البقايا من أهل الكتاب؛ لأنَّهم كانوا متمسكين بالحق الذي جاءهم به نبيهم، ويعني بذلك - والله أعلم - من كان في ذلك الزمان متمسِّكًا بدين المسيح؛ لأنَّ من كفر من اليهود بالمسيح لم يبق على دين موسى، ولا متمسِّكًا بما في التوراة، ولا دخل في دين عيسى، فلم يبق أحد من اليهود متمسِّكًا بدين حق إلا من آمن بالمسيح واتبع الحق الذي كان عليه، وأما من لم يؤمن به، فلا تنفعه يهوديته ولا تمسكه بها؛ لأنَّه قد ترك أصلا عظيما مِمَّا فيها، وهو العهد الذي أخذ عليهم في الإيمان بعيسى عليه السلام وكذلك نقول: كل نصراني بلغه أمر نبينا وشرعنا، فلم يؤمن به، لم تنفعه نصرانيته؛ لأنَّه قد ترك ما أخذ عليه من العهد في شرعه. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت، إلا كان من أصحاب النار (1).
و(قوله: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك) أي: لأمتحنك بتبليغ الرسالة، والصبر على معاناة أهل الجاهلية، وأمتحن بك؛ أي: من آمن بك واتبعك أثبته،
(1) رواه مسلم (153).
وَأَنزَلتُ عَلَيكَ كِتَابًا لَا يَغسِلُهُ المَاءُ، تَقرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقظَانَ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَن أُحَرِّقَ قُرَيشًا،
ــ
ومن كذبك وخالفك انتقمت منه وعاقبته.
و(قوله: وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء) أي: يسرت تلاوته وحفظه، فخف على الألسنة، ووعته القلوب، فلو غسلت المصاحف لما انغسل من الصدور، ولما ذهب من الوجود، ويشهد لذلك قوله تعالى:{إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقوله: {وَلَقَد يَسَّرنَا القُرآنَ لِلذِّكرِ فَهَل مِن مُدَّكِرٍ}
وفي الإسرائيليات: أن موسى عليه السلام قال: يا رب إني أجد أمة تكون أناجيلها في صدورها فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة محمد.
و(قوله: تقرؤه نائما ويقظان) يحتمل أن يريد بذلك: أنه يوحى إليه القرآن في اليقظة والمنام، وقد تقدَّم أن رؤيا الأنبياء وحي. ويحتمل أن يكون معنى نائم هنا: مضطجعا، يعني في صلاة المريض، قالهما القاضي، وفيهما بعد، وأشبه منهما - إن شاء الله - أن الله يسره على لسان نبيه، وذكره، بحيث كان يقرؤه نائما كما كان يقرؤه منتبها. لا يخل منه بحرف، لا سيما وقد كان صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه (1). وقد شاهدنا المديمين على تكرار القرآن يقرؤون منه الكثير وهم نيام، وذلك قبل استحكام غلبة النوم عليهم.
و(قوله: إن الله أمرني أن أحرق قريشا) أي: أغيظهم بما أسمعهم من الحق الذي يخالف أهواءهم، وأؤلم قلوبهم بعيب آلهتهم، وتسفيه أحلام آبائهم، وقتالهم، ومغالبتهم حتى كأني أحرق قلوبهم بالنار. ولا يصح أن يحمل ذلك على حقيقته؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصح عنه أنه حرق أحدا من قريش بالنار، بل قد نهى عن التعذيب بالنار، وقال: لا يعذب بالنار إلا الله (2).
(1) رواه الحاكم (2/ 431).
(2)
رواه البخاري (3016)، وأبو داود (2674)، والترمذي (1571).
فَقُلتُ: رَبِّ إِذن يَثلَغُوا رَأسِي فَيَدَعُوهُ خُبزَةً،
ــ
و(قوله: فقلت إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة) الرواية الصحيحة المشهورة بالثاء المثلثة والعين المعجمة، ومعناه: يشدخوا. قاله الهروي، وقال شمر: الثلغ: فضخك الشيء الرطب باليابس، وقد رواه العذري: فقلعوا - بالقاف والعين المهملة - ولا يصح مع قوله: فيدعوه خبزة ومعنى هذا أنه شبه الرأس إذا شدخ بالخبزة إذا شدخت لتثرد.
قلت: وهذا الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم من نحو ما قاله موسى عليه السلام حين أمر بتبليغ الرسالة إلى فرعون فـ: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدرِي وَلا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرسِل إِلَى هَارُونَ * وَلَهُم عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقتُلُونِ} فهذا صريح في أنهما خافا غير الله، وحينئذ يعارضه قوله تعالى في صفة الرسل {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخشَونَهُ وَلا يَخشَونَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ} وهذا نص في أن الرسل لا تخشى إلا الله، وهذا هو المناسب لمعرفتهم بالله، وأنه ليس في الوجود فاعل، ولا خالق إلا هو، وخصوصا لأولي العزم من الرسل، وخصوصا لمحمد وموسى - صلى الله عليهما - ويرتفع التعارض من وجهين:
أحدهما: أن ذلك الخوف كان منهما في بدايتهم قبل تمكنهم وإعلامهم بحميد عواقب أحوالهم، وقبل تأمينهم، فلما مكنوا وأمنوا لم يخشوا إلا الله، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمره يحرس وهو في منزله، فلما أنزل الله تعالى:{وَاللَّهُ يَعصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} أخرج رأسه إليهم فقال: اذهبوا فقد عصمني ربي (1).
وثانيهما: على تسليم أن يكون ذلك منهم في غير بدايتهم، لكن ذلك الخوف هو الذي لا ينفك البشر عن فجأته ووقوع بادرته، حتى إذا راجع الإنسان عقله، وتدبر أمره اضمحل ذلك الخوف أي اضمحلال، وحصل له من
(1) رواه الترمذي (3046).
قَالَ: استَخرِجهُم كَمَا استَخرَجُوكَ، وَاغزُهُم نُغزِكَ، وَأَنفِق فَسَنُنفِقَ عَلَيكَ، وَابعَث جَيشًا نَبعَث خَمسَةً مِثلَهُ، وَقَاتِل بِمَن أَطَاعَكَ مَن عَصَاكَ، وقَالَ: أَهلُ الجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلطَانٍ مُقسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ القَلبِ لِكُلِّ ذِي قُربَى وَمُسلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ، قَالَ: وَأَهلُ النَّارِ
ــ
معرفة الله وخشيته ما يستحقر معه رسوخ الجبال، والله تعالى أعلم.
و(قوله: استخرجهم كما استخرجوك) أي: أخرجهم كما أخرجوك. والسين والتاء زائدتان كما يقال: استجاب، بمعنى أجاب. وقد رواه العذري: كما أخرجوك. وهذا يدل على أن هذا القول صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد الهجرة؛ فإنَّ أهل مكة هم الذين أخرجوه من مكة حتى هاجر إلى المدينة.
و(قوله: واغزهم نغزك) أي: اعزم على غزوهم، واشرع فيه نعنك على غزوهم، وننصرك عليهم.
و(قوله: وابعث جيشا نبعث خمسة مثله) هذا يدل على أن هذا كان قبل غزوة بدر؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم بدر في ثلاثمائة من أصحابه ونيف، وقيل: ثلاثة عشر، وقيل: سبعة عشر، فأمده الله تعالى بخمسة آلاف من الملائكة، كما نطق القرآن به.
و(قوله: أهل الجنة ثلاثة) أي: المتأهلون لدخولها، الصالحون له.
و(قوله: ذو سلطان مقسط، متصدق، موفق) مقسط وما بعده مرفوع على أنها صفات لـ (ذو) وهي بمعنى صاحب. والمقسط: العادل. والمتصدق: المعطي للصدقات. والموفق: المسدد لفعل الخيرات.
و(قوله: رحيم، رقيق القلب لكل ذي قربى ومسكين (1)) رحيم: كثير
(1) في التلخيص ومسلم: مسلم.
خَمسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبرَ لَهُ، والَّذِينَ هُم فِيكُم تَبَعًا لَا يَبتَغُونَ أَهلًا وَلَا مَالًا
ــ
الرحمة. والقربى: القرابة. ورقيق القلب: لينه عند التذكر والموعظة، ويصح أن يكون بمعنى الشفيق.
و(قوله: وضعيف متضعف) يعني: ضعيفا في أمور الدنيا، قويا في أمر دينه، كما قال: المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير (1). وكما قد ذم الضعف في أمور الدين، جعله من صفات أهل النار كما قال: وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له. والزبر هنا: العقل. قاله الهروي. وفي الصحاح: يقال: ما له زبر، أي: عقل وتماسك.
قلت: وسمي العقل زبرا؛ لأنَّ الزبر في أصله هو المنع والزجر. يقال: زبره يزبره - بالضم - زبرا: إذا انتهره ومنعه. ولما كان العقل هو المانع لمن اتصف به من المفاسد والزاجر عنها، سمي بذلك. وقد قيل في الزبر في هذا الحديث: أنه المال، وليس بشيء.
و(قوله: الذين هم فيكم تبعا لا يبتغون أهلا ولا مالا) هذا تفسير من النبي صلى الله عليه وسلم لقوله أولا: الضعيف الذي لا زبر له) فيعني بذلك: أن هؤلاء القوم ضعفاء العقول، فلا يسعون في تحصيل مصلحة دنيوية، ولا فضيلة نفسية ولا دينية، بل: يهملون أنفسهم إهمال الأنعام، ولا يبالون بما يثبون عليه من الحلال والحرام، وهذه الأوصاف الخبيثة الدنيئة هي أوصاف هذه الطائفة المسماة بالقلندرية (2).
(1) رواه أحمد (2/ 366)، وابن ماجه (4168).
(2)
طريقة صوفية، أسَّسها قلندر يوسف العربي الإسباني.
(وزاد هنا في رواية: ويكون ذلك يا أبا عبد الله؟ قال: نعم، والله، لقد أدركتهم في الجاهلية، وإن الرجل ليرعى على الحي ما به إلا وليدة يطؤها) وَالخَائِنُ الَّذِي لَا يَخفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِن دَقَّ إِلَّا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لَا يُصبِحُ وَلَا يُمسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَن أَهلِكَ وَمَالِكَ - وَذَكَرَ البُخلَ والكَذِبَ - وَالشِّنظِيرُ الفَحَّاشُ.
رواه مسلم (2865)(63 و 64).
ــ
و(قوله: قلت: ويكون ذلك يا أبا عبد الله؟ قال: نعم! والله لقد أدركتهم في الجاهلية، وإن الرجل ليرعى على الحي ما به إلا وليدتهم يطؤها) هذا القائل هو قتادة. وأبو عبد الله هو مطرف بن الشخير الذي روى عن عياض بن حمار. ويدل هذا على أن مطرفا أدرك الجاهلية، وأنَّه صحابي وإن لم يذكره أبو عمر في الصحابة، وكان حقه أن يذكره؛ لأنَّ من شرطه أن يذكر من ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ومطرف ولد في زمانه صلى الله عليه وسلم، على ما قاله ابن قتيبة وغيره. والحي: القبيل. والوليدة: الأمة، ووجدت مقيدا في أصل أبي الصبر، معتنى به، مصححا عليه: إلا وليدتهم بفتح التاء، ووجهه أنه استثناء من مستثنى محذوف، تقديره: ما به شيء أو حاجة إلا وليدتهم. ووقع في بعض النسخ: إلا وليدة، غير مضاف.
و(قوله: والخائن الذي لا يخفى له طمع - وإن دق - إلا خانه) الخائن: هو الذي يأخذ مما اؤتمن عليه بغير إذن مالكه، ويخفى له - هنا - بمعنى يظهر، كما قال (1):
خفاهن من أنفاقهن كأنما
…
خفاهن ودق من عشي مجلب
أي: أظهرهن. وخفي من الأضداد. يقال: خفيت الشيء؛ أي: أظهرته وسترته. قاله أبو عبيد.
و(قوله: وذكر البخل والكذب) هكذا الرواية المشهورة فيه بالواو
(1) هو الشاعر: امرؤ القيس.
[2741]
وعن حارثة بن وهب الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟ كل جواظ زنيم متكبر.
ــ
الجامعة، وقد رواه ابن أبي جعفر عن الطبري بـ (أو) التي للشك. قال القاضي: ولعله الصواب. وبه وتصح القسمة؛ لأنَّه ذكر أن أصحاب النار خمسة: الضعيف الذي وصف، والخائن الذي وصف، والرجل المخادع الذي وصف. قال: وذكر البخل والكذب، ثم ذكر الشنظير الفحاش، فرأى هذا القائل أن الرابع هو صاحب أحد الوصفين، وقد يحتمل أن يكون الرابع من جمعهما على رواية واو العطف، كما جمعهما في الشنظير الفحاش. وكذلك قوله: أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسكين، وعفيف متعفف ذو عيال. قال: كذا قيدناه بخفض (مسلم) عطفا على ما قبله، وفي رواية أخرى: ومسلم عفيف بالرفع وحذف الواو.
قلت: العفيف: الكثير العفة، وهي الانكفاف عن الفواحش، وعما لا يليق. والمتعفف: المتكلف للعفة. والشنظير: السيئ الخلق، في الصحاح: رجل شنظير وشنظيرة، أي: سيئ الخلق. قالت امرأة من العرب:
شنظيرة زوجنيه أهلي
من حمقه يحسب رأسي
رجلي كأنه لم ير أنثى قبلي
وربما قالوا: شنذيرة - بالذال المعجمة - لقربها من الظاء لغة، أو لثغة. والفحاش: الكثير الفحش. وقيل: الشنظير: هو الفحاش. قال صاحب العين: يقال: شنظر بالقوم: شتم أعراضهم. والشنظير: الفحاش من الرجال الغلق، وكذلك من الإبل.
و(قوله: ألا أخبركم بأهل الجنة: كل ضعيف متضعف) الصحيح في
وفي رواية: عتل، ولم يذكر (زنيم)
رواه البخاريُّ (6071)، ومسلم (2853)(46 و 47)، والترمذيُّ (2608).
ــ
متضعف: فتح العين، على أنه اسم مفعول، وكذا وجدته في كتاب الشيخ أبي الصبر، ويعني بذلك: أن الغالب على صفة أهل الجنة الضعيف عن نيل الدنيا، ومالها، وجاهها، ومناصبها، وإيثار الخمول والتواضع فيها، يلبسون زري الملابس، ولا يلتفتون إلى فاخر المراكب، ولا إلى صدور المجالس، علما منهم بأنهم على جادة سفر، وأن الدنيا ليست بمقر، فأحوالهم أحوال المسافرين المرملين. فهم كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره (1). والأشعث: المتلبد الشعر، والأغبر: الذي علته غبرة الغبار. والأطمار: الثياب الرثة. ولا يؤبه له: لا يلتفت إليه. يقال: فلان لا يؤبه، ولا يؤبه له؛ أي: لا يبالى به. ابن السكيت: ما وبهت به، وما وبهت له؛ أي: ما فطنت له. وأنت تيبه، بكسر التاء مثل تيجل؛ أي: تبالي. فإن قيل: كيف تكون هذه أوصاف أهل الجنة، وكيف تحمد هذه الأوصاف وقد أمر الشرع بالنظافة والزينة في الجمع والأعياد والتطيب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتطيب ويتنظف، ويتزين للوفود وللجمع والأعياد؟ قلنا: لا تناقض بين هذا وبين ما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم أهل الجنة، فإنه صلى الله عليه وسلم إنما وصف هؤلاء القوم بأغلب أحوالهم. وغالب أحوالهم: ملازمة الأسفار الشرعية من الحج والجهاد، والسياحة في الأرض، والفرار بأديانهم من الفتن. ومع ذلك كله فيتنظفون النظافة الشرعية، ويتزينون التزين الشرعي إذا حضر وقته وأمكنهم ذلك، ويحضرون جماعات المسلمين وجمعاتهم. فهم مع الناس كائنون، وعنهم بائنون، داخلون في غمارهم، ومستترون بخمولهم وأطمارهم، وقد توجهوا إلى الحق وأعرضوا عن الخلق. وعلى الجملة فمقصود هذا الحديث أن أحوال أهل الجنة على النقيض من أحوال أهل النار، ألا ترى أنه
(1) رواه أحمد (3/ 145)، والترمذي (3854) عن أنس رضي الله عنه.
[2742]
وعن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره.
رواه مسلم (2854).
ــ
قابل صفات أهل الجنة وذكر نقائضها في أهل النار؟ فقال: وأهل النار كل جواظ، زنيم، متكبر، عتل. فالجواظ: الجموع المنوع. حكاه الهروي. وقال غيره: الكثير اللحم المختال، يقال: جاظ يجوظ جوظا: إذا كان كذلك. وقال ابن دريد: هو الجافي القلب. والعتل، قيل: الجافي الشديد الخصومة. وقيل: هو الأكول الشروب الظلوم. والعَتل: هو العُنف. ومنه سميت القسي الفارسية: عُتلا لشدتها، والزنيم هنا: هو الذي يعرف بالشر، كما تعرف الشاة بزنمتها. وقيل: هو اللئيم، وأما الزنيم المذكور في الآية، فقيل: إنه رجل بعينه له زنمة كزنمة التيس، وهي الغديرة المتعلقة بعنقه. وقيل: هو الوليد، وكان له زنمة تحت أذنه، وقيل: هو الملصق بالقوم وليس منهم، وقيل: هو الأخنس بن شريق. وكان حليفا ملحقا. والمتكبر: الموصوف بالكبر المستعمل له، وقد بينا الكبر فيما تقدَّم.
و(قوله: رب أشعث مدفوع بالأبواب) أصل (رب) للتقليل وقد تأتي للتكثير. وقد جاءت كذلك في شعر امرئ القيس كثيرا. قال:
فيا رب مكروب كررت وراءه
…
وعان فككت الغل عنه ففداني
وقال:
ويا رب يوم قد لهوت وليلة
…
بآنسة كأنها خط تمثال
ومثله كثير قصد به مدح نفسه، ولا يتمدح بالقليل النادر، بل: بالكثير المتكرر، وتصلح رب في هذا الحديث أن تحمل على الكثير، فكأنه قال: كثير ممن يكون هذا حاله لو أقسم على الله لأبره.
و(قوله: مدفوع بالأبواب) أي: عن أبواب الملوك والكبراء، فلا يسمع له
[2743]
وعنه؛ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير.
رواه أحمد (2/ 331)، ومسلم (2840).
* * *
ــ
قول، ولا تقضى له حاجة؛ لكونه لا يُعرف، ورث الهيئة؛ أي: زريها بحيث تحتقره العين.
و(قوله: لو أقسم على الله لأبره) قيل فيه: لو دعا لأجابه.
قلت: وهذا عدول عن أصل وضع الكلام من غير ضرورة، بل هو على أصله، وقد دل على هذا ما تقدَّم من حديث أم الربيع حيث قال أنس بن النضر: والله لا تكسر ثنية الرُّبَيِّع، ثم لما رضي الطالب بالدية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره (1).
و(قوله: يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير) يحتمل أن يقال: إنما شبهها بها لضعفها ورقتها، كما قال في أهل اليمن: هم أرق قلوبا، وأضعف أفئدة (2) ويحتمل أنه أراد بها أنها مثلها في الخوف والهيبة، والطير على الجملة أكثر الحيوانات خوفا وحذرا، حتى قيل: أحذر من غراب. وقد غلب الخوف على كثير من السلف حتى انصدعت قلوبهم فماتوا.
* * *
(1) رواه أحمد (3/ 284)، ومسلم (1675)، والنسائي (8/ 26).
(2)
رواه أحمد (3/ 235)، والبخاري (4390)، ومسلم (52)، والترمذي (2244).