الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابنُ عَبَّاسٍ: {وَإِذ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكتُمُونَهُ} وَتَلَا: {لا تَحسَبَنَّ الَّذِينَ يَفرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَن يُحمَدُوا بِمَا لَم يَفعَلُوا} وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: سَأَلَهُم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَن شَيءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ وَأَخبَرُوهُ بِغَيرِهِ، فَخَرَجُوا قَد أَرَوهُ أَن قَد أَخبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُم عَنهُ، وَاستَحمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيهِ، وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوا مِن كِتمَانِهِم إِيَّاهُ مَا سَأَلَهُم عَنهُ.
رواه البخاريُّ (4568)، ومسلم (2778)، والترمذي (3018).
[2858]
وعن أنس بن مالك قال: يقال للكافر يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقال: كذبت! لقد سئلت أيسر من ذلك.
رواه أحمد (3/ 218)، والبخاريُّ (6538)، ومسلم (2805)(52).
* * *
(4) ومن سورة النساء
[2859]
عن عروة بن الزبير أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَن قَولِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِن خِفتُم أَلا تُقسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النِّسَاءِ مَثنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} قَالَت: يَا ابنَ أُختِي، هِيَ اليَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حَجرِ وَلِيِّهَا تُشَارِكُهُ
ــ
(4)
ومن سورة النساء
(قوله: {وَإِن خِفتُم أَلا تُقسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النِّسَاءِ} ، خفتم: فزعتم وفرقتم، وهو ضد الأمن، ثم قد يكون الخوف منه معلوم الوقوع
فِي مَالِهِ، فَيُعجِبُهُ مَالُهَا وَجَمَالُهَا، فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَن يَتَزَوَّجَهَا بِغَيرِ أَن يُقسِطَ فِي صَدَاقِهَا فَيُعطِيَهَا مِثلَ مَا يُعطِيهَا غَيرُهُ، فَنُهُوا أَن يَنكِحُوهُنَّ إِلَّا أَن يُقسِطُوا لَهُنَّ وَيَبلُغُوا بِهِنَّ أَعلَى سُنَّتِهِنَّ مِن الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا أَن يَنكِحُوا مَا طَابَ
ــ
وقد يكون مظنونا، فلذلك اختلف العلماء في تفسير هذا الحديث هل هو بمعنى العلم أو بمعنى الظن؛ فقال بعضهم: خفتم علمتم، وقال آخرون: خفتم ظننتم، وحقيقة الخوف ما ذكرناه أولا. {وَتُقسِطُوا} تعدلوا. وقد تقدَّم أن أقسط بمعنى عدل، وقسط بمعنى جار. وقد تقدم أن اليتم في بني آدم من قِبل فقد الأب، وفي غيرهم من قبل فقد الأم، وأن اليتيم إنما أصله أن يقال على من لم يبلغ، وقد أطلق في هذه الآية على المحجور عليها - صغيرة كانت أو كبيرة - استصحابا لإطلاق اسم اليتيم لبقاء الحجر عليها، وإنما قلنا إن اليتيمة الكبيرة قد دخلت في الآية لأنَّها قد أبيح العقد عليها في الآية، ولا تُنكح اليتيمة الصغيرة إذ لا إذن لها، فإذا بلغت جاز نكاحها لكن بإذنها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما خرج الدارقطني وغيره في بنت عثمان بن مظعون وأنها يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها (1)، وهذا مذهب الجمهور خلافا لأبي حنيفة فإنَّه قال: إذا بلغت لم تحتج إلى ولي، بناء على أصله في عدم اشتراط الولي في صحة النكاح - كما قدمناه في كتاب النكاح.
و(قوله {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النِّسَاءِ})، قد تقدَّم أن ما أصلها لما لا يعقل، وقد تجيء بمعنى الذي فتطلق على من يعقل، كما جاءت في هذه الآية فإنَّها فيها للنساء وهن ممن يعقل، ولا يُلتفت لقول من قال: إن المراد بها هنا العقد؛ لقوله تعالى بعد ذلك من النساء مبينا لمبهم ما.
و(قوله: {مَثنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ})، قد فَهِم مِن هذا مَن بَعُد فَهمُه للكتاب
(1) رواه الدارقطني (3/ 229 - 230).
لَهُم مِن النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ. قَالَ عُروَةُ: قَالَت عَائِشَةُ: ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ استَفتَوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعدَ هَذِهِ الآيَةِ فِيهِنَّ، فَأَنزَلَ اللَّهُ:{وَيَستَفتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفتِيكُم فِيهِنَّ} إلى قوله: {وَتَرغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} قَالَت: وَالَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يُتلَى عَلَيكُم فِي الكِتَابِ الآيَةُ الأُولَى الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا: {وَإِن خِفتُم أَلا تُقسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا} قَالَت: وَقَولُ اللَّهِ فِي الآيَةِ الأُخرَى: {وَتَرغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} رَغبَةَ أَحَدِكُم عَن يتيمته الَّتِي
ــ
والسنة وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة وقل علمه باللسان واللغة أنه يجوز لنا أن ننكح تسعا ونجمع بينهن في عصمة واحدة من هذه الآية، وزعم أن الواو جامعة، وعضد ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم نكح تسعا وجمع بينهن في عصمة، والذي صار إلى هذه الجهالة الرافضة وطائفة من أهل الظاهر، فجعلوا مثنى وثلاث ورباع مثل اثنين وثلاث وأربع، وبينهما من الفرقان ما بين الجماد والإنسان، فإنَّ أهل اللغة مطبقون على الفرق بينهما، ولا نعلم بينهم خلافا في ذلك، وبيان الفرق أن العرب إذا قالت جاءت الخيل مثنى مثنى إنما تعني بذلك اثنين اثنين؛ أي جاءت مزدوجة. قال الجوهري: وكذلك جميع معدول العدد.
قلت: وعلى هذا جاء قوله تعالى في وصف الملائكة: {أُولِي أَجنِحَةٍ مَثنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} ، ويعلم على القطع والبتات أنه لم يرد هنا توزيع هذه الأعداد على الملائكة حتى يكونوا هم أولي تسعة أجنحة يشتركون فيها ولا أنه جمع كل واحد من آحاد الملائكة تسعة أجنحة، وتلزم هذه الفضائح من قال بالجمع في آية النكاح، إذ لا فرق بين هاتين الآيتين في هذا اللفظ في العدل (1)
(1) في (م 4): العدول. وانظر في هذا بحثًا قيِّمًا للقرطبي في تفسيره. الجامع لأحكام القرآن (5/ 15).
تَكُونُ فِي حَجرِهِ حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ المَالِ وَالجَمَالِ، فَنُهُوا أَن يَنكِحُوا مَا رَغِبُوا فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا مِن يَتَامَى النِّسَاءِ إِلَّا بِالقِسطِ مِن أَجلِ رَغبَتِهِم عَنهُنَّ.
ــ
والعطف بالواو الجامعة، وإنما المراد أن الله تعالى خلق الملائكة أصنافا؛ فمنهم صنف جعل لكل واحد منهم جناحين، ومنهم صنف جعل لكل واحد منهم ثلاثة، ومنهم صنف جعل لكل واحد منهم أربعة، وكذلك آية النكاح معناها أن الله تعالى أباح لكل واحد منهم من الزوجات ما يقدر على العدول فيه، فمن يقدر على العدل في اثنتين أبيح له ذلك، ومن يقدر على العدل في أكثر أبيح له ذلك، فإن خاف ألا يعدل فواحدة كما قال تعالى، وغاية الإباحة أربع؛ لأنَّه انتهى إليهن في العدد، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لغيلان بن أمية: أمسك أربعا، وفارق سائرهن (1)، ولأنه لم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته بين أكثر من أربع، وما أبيح للنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فذلك من خصوصياته بدليل أن أصحابه قد علموا ذلك وتحققوه، فلو علموا أن ذلك مسوَّغ لهم لاقتدوا به في ذلك فكانوا يجمعون بين تسع، فإنَّهم كانوا لا يعدلون عن الاقتداء به في جميع أفعاله وأحواله ويبادرون إلى ذلك مبادرة من علم أن التوفيق والفلاح والحصول على خير الدنيا والآخرة في الاقتداء به، فلولا أنهم علموا خصوصيته بذلك لما امتنعوا منه، وما يروي الرافضة في ذلك عن علي أو غيره من السلف فغير معروف عند أهل السنة ولا مأخوذ عن أحد من علماء الأمة، وكيف لا وقوله لغيلان قد بين القدر المباح غاية البيان، وهو من الأحاديث المعروفة المشهورة عند كل أحد بحيث لا يحتاج فيه إلى إقامة سند. وقد ذهب بعض أهل الظاهر إلى إباحة الجمع بين ثماني عشرة تمسُّكًا بأن العدل في تلك الصيغ يفيد التكرار لما لم يمكنه لذلك إنكار، لكنه لما حمل الواو على الجمع جمع بين هذه الأعداد وقصر كل صيغة
(1) رواه ابن حبان (4157 و 4158)، والبيهقي (7/ 181).
وفي رواية قَالَت: أُنزِلَت فِي الرَّجُلِ تَكُونُ لَهُ اليَتِيمَةُ وَهُوَ وَلِيُّهَا وَوَارِثُهَا، ولَهَا مَالٌ وَلَيسَ لَهَا أَحَدٌ يُخَاصِمُ دُونَهَا، فَلَا يُنكِحُهَا لِمَالِهَا فَيَضُرُّ بِهَا وَيُسِيءُ صُحبَتَهَا، فَقَالَ:{وَإِن خِفتُم أَلا تُقسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النِّسَاءِ}
يَقُولُ: مَا أَحلَلتُ لَكُم، وَدَع هَذِهِ الَّتِي تَضُرُّ بِهَا.
ــ
من العدد المعدود على أقله، فجعل مثنى بمعنى اثنين واثنين، وثلاث بمعنى ثلاث وثلاث، ورباع بمعنى أربع وأربع. وهذا القائل أعور بأي عينيه شاء، فإنَّ كل ما ذكرناه يبطل دعواه، ونزيد هنا نكتة تضمنها الكلام المتقدِّم، وهي أن قصره كل صيغة على أقل ما تقتضيه بزعمه تحكم بما لا يوافقه أهل اللسان عليه، ولا يرشد معنى الاثنين إليه لأنَّ مقصود الآية إباحة نكاح اثنتين لمن أراد ونكاح ثلاث لمن أراد ونكاح أربع لمن أراد، وكل واحد من آحاد كل نوع من هذه الثلاثة لا ينحصر، فكل اثنين وثلاث وأربع لا ينحصر، فقصره على بعض أعداد ما تضمنه ذلك مخالف لمقصود الآية، فتفهم ذلك فإنَّه من لطيف الفهم، وللكلام في هذه الآية متسع، وفيما ذكرناه تنبيه ومقنع.
وبعد أن فهمت أفراد تلك الكلمات فاعلم أن العلماء اختلفوا في سبب نزول هذه الآية وفي معناها؛ فذهبت عائشة رضي الله عنها إلى ما ذُكر في الأصل عنها، وحاصل الروايات المذكورة عنها أنها نزلت في ولي اليتيمة التي لها مال فأراد وليها أن يتزوجها فأمر بأن يوفيها صداق أمثالها، أو يكون لها مال عنده بمشاركة أو غيرها وهو لا حاجة له لتزويجها لنفسه ويكره أن يزوجها غيره مخافة أخذ مالها من عنده، فأمر الله الأولياء بالقسط وهو العدل، بحيث إن تزوجها بذل لها مهر مثلها، وإن لم تكن له رغبة فيها زوجها من غيره وأوصلها إلى مالها على الوجه المشروع، وتكميل معنى الآية أن الله تعالى قال للأولياء: إن خفتم ألا تقوموا بالعدل فتزوجوا غيرهن ممن طاب لكم من النساء اثنتين اثنتين إن شئتم، وثلاثا ثلاثا لمن شاء، وأربعا أربعا لمن شاء - هذا قول عائشة في
وفي أخرى: أُنزِلَت فِي اليَتِيمَةِ تَكُونُ عِندَ الرَّجُلِ فَتَشرَكُهُ فِي مَالِهِ، فَيَرغَبُ عَنهَا أَن يَتَزَوَّجَهَا، وَيَكرَهُ أَن يُزَوِّجَهَا غَيرَهُ فَيَشرَكُهُ فِي مَالِهِ، فَيَعضِلُهَا فَلَا يَتَزَوَّجُهَا وَلَا يُزَوِّجُهَا غَيرَهُ.
رواه البخاري (4574)، ومسلم (3018)(6 و 8)، وأبو داود (2068)، والنسائي (6/ 115).
ــ
الآية.
وقال ابن عباس في معنى الآية: إنه قصر الرجال على أربع لأجل أموال اليتامى، فنزلت جوابا لتحرجهم عن القيام بإصلاح أموال اليتامى. وفسر عكرمة قول ابن عباس هذا بألا تُكثروا من النساء فتحتاجوا إلى أخذ أموال اليتامى.
وقال السدي وقتادة: معنى الآية إن خفتم الجور في أموال اليتامى فخافوا مثله في النساء، فإنَّهن كاليتامى في الضعف، فلا تنكحوا أكثر مما يمكنكم إمساكهن بالمعروف.
قلت: وأقرب هذه الأقوال وأصحها قول عائشة إن شاء الله تعالى، وقد اتفق كل من يعاني العلوم على أن قوله تعالى {وَإِن خِفتُم أَلا تُقسِطُوا فِي اليَتَامَى} ليس له مفهوم؛ إذ قد أجمع المسلمون على أن من لم يخف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة: اثنتين، أو ثلاثا، أو أربعا - كمن خاف، فدل ذلك على أن الآية نزلت جوابا لمن خاف وأن حكمها أعم من ذلك، وفي الآية مباحث تسكت الناقث (1). والمعدولة عن أسماء العدد صفات، وقيل: للعدل والتأنيث؛ لأنَّ أسماء العدد مؤنثة، وقيل: لتكرار العدد في اللفظ، والمعنى: لأنه عدل عن لفظ اثنين إلى لفظ مثنى وإلى معنى اثنين اثنين، ومبدأ العدل آحاد ومنتهاه رباع، ولم يسمع فيما فوق ذلك إلا في عشار في قول الكميت:
ولم يستريثوك حتى رميـ
…
ـت فوق الرجال خصالا عشارا
(1)"الناقث": نَقَث حديثه: إذا خلطه كخلط الطعام. ونَقَث العظم: استخرج مُخَّه. ونَقَث عن الشيء: إذا حَفَر عنه.
[2860]
وعنها في قوله تعالى: {وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَليَأكُل بِالمَعرُوفِ} قالت: أنزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه، إذا كان محتاجا أن يأكل منه.
في أخرى: بقدر ماله بالمعروف.
رواه البخاري (4575)، ومسلم (3019)(10 و 11).
ــ
وتختلف صيغ المعدول عن العدد، فيقال: موحد وآحاد وأحد، ومثنى وثنا وثناي، ومثلث وثلاث وثلث، ومربع ورباع وربع. وقرأ النخعي ثلث وربع.
و(قول عائشة في قوله تعالى: {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَليَستَعفِف وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَليَأكُل بِالمَعرُوفِ} أُنزلت في والي اليتيم)، فعلى هذا: المراد بها أولياء الأيتام، وهو قول الجمهور. وقال بعضهم: المراد به اليتيم؛ إن كان غنيا وسع عليه وأعف من ماله، وإن كان فقيرا أنفق عليه بقدره، وهذا في غاية البعد؛ لأنَّ اليتيم لا يخاطب بالتصرف في ماله لصغره ولسفهه، ولأنه إنما يأكل من ماله بالمعروف على الحالين، فيضيع التنويع والتقسيم المذكور في الآية، وعلى قول الجمهور فالولي الغني لا يأخذ من مال يتيمه شيئا ولا يستحق على قيامه عليه أجرا دنيويا؛ بل ثوابا أخرويا. وأما الفقير فاختلف فيه هل يأخذ من مال يتيمه شيئًا أم لا؟ فذهب زيد بن أسلم إلى أنه لا يأخذ منه شيئًا وإن كان فقيرا، وحكي ذلك عن ابن عباس بناء على أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَموَالَ اليَتَامَى ظُلمًا} الآية، وقيل: بقوله {وَلا تَأكُلُوا أَموَالَكُم بَينَكُم بِالبَاطِلِ}
قلت: وهذا لا يصح النسخ فيه لعدم شرطه؛ إذ الجمع ممكن، إذ الأخذ الذي أباحه الله تعالى ليس ظلما ولا أكل مال بالباطل فلم تتناوله الآيتان، وهذا هو القول بالموجب. وذهب جمهور المجوزين إلى إباحة الأخذ، لكنهم اختلفوا
[2861]
وعن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد، فرجع ناس ممن كان معه، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين، قال بعضهم: نقتلهم. وقال بعضهم: لا. فنزلت: {فَمَا لَكُم فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَينِ}
رواه البخاريُّ (4050)، ومسلم (2776)، والترمذيُّ (3031).
ــ
في القدر المأخوذ وفي قضاء المأخوذ وفي وجه الأخذ؛ فروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إن أكلتَ قضيتَ. وبه قال عبيدة السلماني وأبو العالية، وهو أحد قولي ابن عباس وعكرمة، وقال من عدا هؤلاء: إن له الأخذ ولا قضاء عليه، لكنهم اختلفوا في وجه الأخذ، فذهب عطاء إلى أنه يأخذ بقدر الحاجة (1)، وقال الضحاك: يضارب بماله ويأكل من ربحه. الحسن: يسد الجوعة ويستر العورة. الشعبي: من التمر واللبن. وقد روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما فقال: يأكل ويشرب ويركب الظهر غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب. قال القاضي أبو بكر بن العربي: وعليه مذهب مالك.
قلت: والصحيح من هذه الأقوال - إن شاء الله - أن مال اليتيم إن كان كثيرا يحتاج إلى كثير قيام عليه بحيث يشغل الولي عن حاجاته ومهماته فُرض له فيه أجرة عمله، وإن كان قليلا مما لا يشغله عن حاجاته فلا يأكل منه شيئا، غير أنه يُستحب له شرب قليل اللبن وأكل القليل من الطعام والتمر غير مضر به ولا مستكثر له، بل ما جرت به العادة بالمسامحة فيه. وما ذكرته من الأجرة ونيل القليل من الثمر واللبن كل واحد منهما معروف، فصلح حمل الآية على ذلك، والله أعلم.
و(قوله: {فَمَا لَكُم فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَينِ})؛ أي فريقين
(1) في (ز): الخدمة.
[2862]
وعن قيس بن عباد قال: قلنا لعمار: أرأيت قتالكم؛ أرأيا رأيتموه؟ فإن الرأي يخطئ ويصيب! أو عهدا عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة. وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن من أمتي - أو في أمتي - اثني عشر منافقا لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم
ــ
مختلفين في قتلهم، ويعني بالمنافقين عبد الله بن أُبي وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ورجعوا بعسكرهم بعد أن خرجوا معه إلى أحد، فلم يأمر الله بقتلهم لما علم من المفسدة الناشئة عن ذلك، وهي التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه (1). ثم قال بعد هذا: {وَاللَّهُ أَركَسَهُم بِمَا كَسَبُوا} ؛ أي بكسبهم - عن الزجاج. ابن عباس: أي ردهم إلى كفرهم. قتادة: أهلكهم. السدي: أضلهم - وكلها قريب بعضه من بعض. وقيس بن عباد: هو بضم العين وفتح الباء الموحدة وتخفيفها.
و(قول عمار ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة) تكذيب من عمار للشيعة فيما يدعونه ويكذبون به على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى علي رضي الله عنه في يوم غدير خم وغيره، وقد تقدَّم هذا المعنى. والدبيلة: الداهية. يقال: دبلتهم الدبيلة؛ أي: أصابتهم الداهية - حكاها أبو عبيد، وصيغتها صيغة التصغير يراد به التكثير، كما يقال:
. . . . . . . . . . . .
…
دويهية تصفر منها الأنامل (2)
(1) رواه أحمد (3/ 393)، والبخاري (4907)، ومسلم (2584)(63).
(2)
عجز بيت للبيد، وصدره:
وكلُّ أناسٍ سوفَ تدخُلُ بينهم
الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة سراج من نار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم.
رواه أحمد (4/ 320)، ومسلم (2779)(10).
[2863]
وعن عائشة: {وَإِنِ امرَأَةٌ خَافَت مِن بَعلِهَا نُشُوزًا أَو إِعرَاضًا} الآية، قالت: أنزلت في المرأة تكون عند الرجل، فلعله ألا يستكثر منها، ويكون لها صحبة وولد فتكره أن يفارقها، فتقول له: أنت في حل من شأني.
رواه البخاريُّ (4600)، ومسلم (3021)(14).
ــ
والأظهر أنه اسم سُمي به مصغرا، كما قالوا: كميت. وأراد به هنا الورم المهلك الذي يخرج بين الكتفين، والظاهر أن المراد بالحديث أن الله تعالى يهلك هؤلاء الثمانية من المنافقين بهذا الداء في الدنيا، ولذلك قال: تكفيكهم الدبيلة؛ أي: يميتهم الله بها.
و(قوله حتى ينجم من صدورهم)؛ أي: تبلغ إلى قلوبهم وتنفذ في صدورهم، والله أعلم.
وسم الخياط: ثقب الإبرة. والسم: الثقب في كل شيء، يقال في فتح السين وضمها، وكذلك السم القاتل، ويجمعان على سموم وسمام. ومسام الجسد: ثقبه. والجمل: واحد الجمال، ودخول الجمل في ثقب الإبرة محال، والمعلق على المحال محال، فدخول المنافقين الجنة محال، وهذا من نحو قول العرب:
إذا شاب الغراب رجعت أهـ
…
ـلي وصار القار كاللبن الحليب
أي: شيب الغراب وبياض القار لا يكونان، فرجوعه إلى أهله لا يكون.
و(قوله: {وَإِنِ امرَأَةٌ خَافَت مِن بَعلِهَا نُشُوزًا أَو إِعرَاضًا} ، البعل: الزوج. والنشوز: البغض. والإعراض: الميل عنها إلى غيرها. والجناح: الإثم
[2864]
وعَن سَعِيدِ بنِ جُبَيرٍ قَالَ: قُلتُ لِابنِ عَبَّاسٍ: أَلِمَن قَتَلَ مُؤمِنًا مُتَعَمِّدًا مِن تَوبَةٍ؟ قَالَ: لَا. فَتَلَوتُ عَلَيهِ هَذِهِ الآيَةَ الَّتِي فِي الفُرقَانِ:
ــ
والحرج. ويصّالحا - بتشديد الصاد - أي: يتصالحا؛ أي: يعقدان بينهما صلحا على ما يجوز كإسقاط مهر أو قسم أو غير ذلك. وعن علي رضي الله عنه: يعطيها مالا ليحول قسمها. وقرأه الكوفيون: أَن يُصلِحَا بَينَهُمَا صُلحًا من أصلح، ويكون صلحا مفعولا لا مصدرا، ويكون المعنى: أن يعقدا بينهما عقد صلح أو يفعلا صلحا.
و(قوله: {وَالصُّلحُ خَيرٌ} ؛ أي: من النشوز - قاله الزجاج. من الفرقة: ابن عباس.
وقول سعيد بن جبير لابن عباس ألمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ قال: لا. . الحديث، هذا هو المشهور عن ابن عباس، وقد روي عنه أن توبته تقبل، وهذا هو قول أهل السنة والذي دل عليه الكتاب والسنة، كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيَغفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} وكقوله: {وَالَّذِينَ لا يَدعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقتُلُونَ النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالحَقِّ وَلا يَزنُونَ وَمَن يَفعَل ذَلِكَ يَلقَ أَثَامًا * يُضَاعَف لَهُ العَذَابُ يَومَ القِيَامَةِ وَيَخلُد فِيهِ مُهَانًا * إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِم حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} وكقوله: {وَمَن يَعمَل سُوءًا أَو يَظلِم نَفسَهُ ثُمَّ يَستَغفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}
وأما السنة فكثيرة؛ كحديث عبادة بن الصامت الذي قال فيه: تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن أصاب شيئًا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب شيئًا من ذلك فستره الله عليه فهو إلى الله؛ إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه (1)، وكحديث
(1) رواه البخاري (7213)، ومسلم (1709)، والترمذي (1439)، والنسائي (7/ 148).
{وَالَّذِينَ لا يَدعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقتُلُونَ النَّفسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالحَقِّ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ. قَالَ: هَذِهِ آيَةٌ مَكِّيَّةٌ نَسَخَتهَا آيَةٌ مَدَنِيَّةٌ: {وَمَن يَقتُل مُؤمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}
ــ
أبي هريرة رضي الله عنه في الذي قتل مائة نفس، وكحديث جابر في الذي قتل نفسه بقطعه براجمه، وقد تقدَّم كل ذلك.
و(قول ابن عباس رضي الله عنهما هذه آية مكية نسختها آية مدنية) قول لا يليق بعلم ابن عباس ولا بفهمه؛ لأنَّه إن أراد به حقيقة النسخ كان غير صحيح، لأن الآية خبر عن وقوع العذاب بمن فعل تلك الأمور المذكورة في الآية، والنسخ لا يدخل الأخبار كما قررناه في الأصول، سلمنا أنه يدخلها النسخ، لكن الجمع بين الآيتين ممكن بحيث لا يبقى بينهما تعارض، وذلك بأن يُحمل مطلق آية النساء على مقيد آية الفرقان، فيكون معناها: فجزاؤه جهنم إلا من تاب، لا سيما وقد اتحد الموجِب وهو القتل والموجَب وهو المتوعد بالعقاب، وقد قلنا في أصول الفقه: إن مثل هذه الصورة متفق عليها.
وقد تأول جمهور العلماء آية سورة النساء تأويلات:
أحدها: أن المتعمد المعنى فيها هو المستحل لقتل المسلم، ومن كان كذلك كان كافرا.
وثانيها: أن قوله {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} لا يلزم منه دخوله في جهنم ولا بد؛ لأنَّ معناه: إن جازاه، وقد رُفع هذا التقييد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: وتحري هذا القول أن قوله {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} هو خبر عن استحقاقه لذلك لا عن وقوع ذلك، ويجوز العفو عن المستحق، وحاصله راجع إلى القول بموجب الآية، فلا دلالة فيها.
وثالثها: أن الخلود ليس نصا في التأبيد الذي لا انقطاع له، بل مقتضاه
وفي رواية: فنزلت {إِلا مَن تَابَ}
رواه مسلم (3023)(19 و 20).
[2865]
وعن ابن عباس قال: لقي ناس من المسلمين رجلا في غنيمة له فقال: السلام عليكم! فأخذوه فقتلوه، وأخذوا تلك الغنيمة، فنزلت: وَلَا تَقُولُوا لِمَن أَلقَى إِلَيكُمُ السَّلَمَ (1) لَستَ مُؤمِنًا. وقرأها ابن عباس: السلام (2).
رواه البخاري (4591)، ومسلم (3025)، وأبو داود (3974)، والترمذيُّ (3033).
ــ
تطويل الآماد وتكرير الأزمان ما لم يرد معه من القرائن ما يقتضي التأبيد، كما ورد في وعيد الكفار، فيجوز أن يدخل القاتل في جهنم ويعذب فيها ما شاء الله من الأزمان ثم يلحقه ما يلحق الموحدين من الشفاعة والغفران، والله تعالى أعلم.
و(قوله: {فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَن أَلقَى إِلَيكُمُ السَّلامَ لَستَ مُؤمِنًا} ، هذه قراءة ابن عباس وجماعة من القراء؛ السلام بألف، يعنون به التحية، وقرأه جماعة أخرى السلم بغير ألف يعنون بذلك الصلح، والقراءتان في السبع، وقرأ ابن وثاب السِّلم بكسر السين وسكون اللام، وهي لغة في السَّلَم الذي هو الصلح.
و(قوله: {تَبتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنيَا} ؛ أي: تريدون المال وما يعرض من الأعراض الدنيوية.
(1) وهي قراءة نافع وابن عامر وحمزة وأبي جعفر وخلف ووافقهم الحسن والأعمش.
(2)
وهي قراءة الباقين.
[2866]
وعن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين؛ تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه أخرى.
وفي رواية تكر بدل تعير.
رواه أحمد (2/ 68)، ومسلم (2784)(17)، والنسائي (8/ 124).
* * *
ــ
و(قوله: {فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} ؛ أي: إن اتقيتم الله وكففتم عما ينهاكم عنه سلمكم وغنمكم.
و(قوله: {كَذَلِكَ كُنتُم مِن قَبلُ} ؛ أي: قبل الهجرة حين كنتم تُخفون الشهادة. وقيل: من قبل أن تعرفوا الشهادة.
{فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيكُم} ؛ أي بالإسلام وبإعزازكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فَتَبَيَّنُوا: من البيان، وتثبتوا: من التثبت. والقراءتان في السبع، وتفيدان وجوب التوقف والتبين عند إرادة الأفعال إلى أن يتضح الحق ويرتفع الإشكال.
و(قوله مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين؛ تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة)، العائرة: المترددة، وتعير: ترجع وتكر - وإنما ثنّى الغنم وإن كانت اسم جنس لأنَّه أراد قطعتين منها.
وهذا الحديث مناسب لقوله تعالى: {مُذَبذَبِينَ بَينَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ}
* * *