الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(37) كتاب الأذكار والدعوات
(1) باب الترغيب في ذكر الله تعالى
[2613]
عَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَقُولُ اللَّهُ: أَنَا عِندَ ظَنِّ عَبدِي بِي،
ــ
(37)
كتاب الأذكار والدَّعوات
[(1) ومن باب: الترغيب في ذكر الله تعالى](1)
(قوله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي) قيل: معناه: ظن الإجابة عند الدعاء، وظن القبول عند التوبة، وظن المغفرة عند الاستغفار، وظن قبول الأعمال عند فعلها على شروطها؛ تمسكا بصادق وعده وجزيل فضله. قلت: ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة (2). وكذلك ينبغي للتائب والمستغفر، وللعامل أن يجتهد في القيام بما عليه من ذلك، موقنا أن الله تعالى يقبل عمله، ويغفر ذنبه،
(1) هذا العنوان لم يردْ في نسخ المفهم، واستدركناه من التلخيص.
(2)
رواه الترمذي (3474).
وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذكُرُنِي،
ــ
فإنَّ الله تعالى قد وعد بقبول التوبة الصادقة، والأعمال الصالحة، فأما لو عمل هذه الأعمال، وهو يعتقد، أو يظن أن الله تعالى لا يقبلها، وأنها لا تنفعه، فذلك هو القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، وهو من أعظم الكبائر، ومن مات على ذلك وصل إلى ما ظن منه، كما قد جاء في بعض ألفاظ هذا الحديث: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن عبدي بي ما شاء (1). فأمَّا ظن المغفرة والرحمة مع الإصرار على المعصية، فذلك محض الجهل والغرة، وهو يجر إلى مذهب المرجئة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله (2). والظن: تغليب أحد المجوزين بسبب يقتضي التغليب، فلو خلا عن السبب المغلب لم يكن ظنا بل غرة وتمنيا. وقد تقدَّم في الجنائز الكلام على قوله: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله (3).
و(قوله: وأنا معه حين يذكرني) أصل الذكر: التنبه بالقلب للمذكور، والتيقظ له، ومنه قوله:{اذكُرُوا نِعمَتِيَ الَّتِي أَنعَمتُ عَلَيكُم} أي: تذكروها. وقوله صلى الله عليه وسلم: من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها (4) أي: إذا تذكرها بقلبه. وهو في القرآن كثير. وسمي القول باللسان ذكرا؛ لأنَّه دلالة على الذكر القلبي، غير أنه قد كثر اسم الذكر على القول اللساني حتى صار هو السابق للفهم، وأصل مع الحضور والمشاهدة، كما قال تعالى:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسمَعُ وَأَرَى} وكما قال: {وَهُوَ مَعَكُم أَينَ مَا كُنتُم} أي: مطلع عليكم
(1) رواه أحمد (3/ 491 و 4/ 106)، وابن حبان في صحيحه (633)، (وابن المبارك في الزهد (909).
(2)
رواه الترمذي (2461).
(3)
رواه مسلم (2877)، وأبو داود (3113).
(4)
ذكره ابن عبد البر في التمهيد (3/ 289 و 5/ 216 و 251 و 6/ 397). وانظر: المصنف لابن أبي شيبة (2/ 64).
إِن ذَكَرَنِي فِي نَفسِهِ ذَكَرتُهُ فِي نَفسِي، وَإِن ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرتُهُ فِي مَلَأٍ خَير مِنهُم،
ــ
ومحيط بكم، وقد ينجر مع ذلك الحفظ والنصر. كما قيل في قوله تعالى:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسمَعُ وَأَرَى} أي: أحفظكما ممن يريد كيدكما.
وإذا تقرر هذا فيمكن أن يكون معنى: وأنا معه إذا ذكرني أن من ذكر الله في نفسه مفرغة مما سواه، رفع الله عن قلبه الغفلات والموانع، وصار كأنه يرى الله ويشاهده - وهي الحالة العليا التي هي: أن تذكر الله كأنك تراه، فإن لم تصل إلى هذه الحالة، فلا أقل من أن يذكره، وهو عالم بأن الله يسمعه ويراه. ومن كان هكذا كان الله له أنيسا إذا ناجاه، ومجيبا إذا دعاه، وحافظا له من كل ما يتوقعه ويخشاه، ورفيقا به يوم يتوفاه، ومحلا له من الفردوس أعلاه.
و(قوله: فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي) النفس: اسم مشترك يطلق على نفس الحيوان، وهي المتوفاة بالموت والنوم، ويطلق ويراد به: الدم، والله تعالى منزه عن ذينك المعنيين، ويطلق ويراد به ذات الشيء وحقيقته، كما يقال: رأيت زيدا نفسه عينه، أي: ذاته. وقد يطلق ويراد به الغيب، كما قد قيل في قوله تعالى:{تَعلَمُ مَا فِي نَفسِي وَلا أَعلَمُ مَا فِي نَفسِكَ} أي: ما في غيبك.
والأليق بهذا الحديث: أن يكون معناه: أن من ذكر الله تعالى خاليا منفردا بحيث لا يطلع أحد من الخليقة على ذكره، جازاه الله على ذلك بأن يذكره بما أعد له من كرامته التي أخفاها عن خليقته. حتى لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون. وقد قلنا: إن التسليم هو الطريق المستقيم.
و(قوله: وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه) يعني: أن من يذكره في ملأ من الناس ذكره الله في ملأ من الملائكة، أي: أثنى عليه، ونوه باسمه في الملائكة، وأمر جبريل أن ينادي بذكره في ملائكة السماوات كما تقدَّم، وهو ظاهر
وَإِن تَقَرَّبَ مِنِّي شِبرًا تَقَرَّبتُ منه ذِرَاعًا، وَإِن تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبتُ مِنهُ بَاعًا، وَإِن أَتَانِي يَمشِي أَتَيتُهُ هَروَلَةً.
وفي رواية: إن الله يقول: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني.
رواه أحمد (2/ 251)، والبخاريُّ (7405)، ومسلم (2675)(2 و 19)، والترمذيُّ (3603)، وابن ماجه (3822).
ــ
في تفضيل الملائكة على بني آدم، وهو أحد القولين للعلماء. وللمسألة غور ليس هذا موضع ذكره.
و(قوله: وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا. . . إلى قوله: أتيته هرولة) هذه كلها أمثال ضربت لمن عمل عملا من أعمال الطاعات، وقصد به التقرب إلى الله تعالى، يدلّ على أن الله تعالى لا يضيع عمل عامل وإن قل، بل يقبله ويجعل له ثوابه مضاعفا. ولا يفهم من هذا الحديث: الخُطا: نقل الأقدام؛ إلا من ساوى الحمر في الأفهام. فإن قيل: مقتضى ظاهر هذا الخطاب: أن من عمل حسنة جوزي بمثليها، فإنَّ الذراع: شبران، والباع: ذراعان. وقد تقرر في الكتاب والسنة: أن أقل ما يجازى على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة لا تحصى، فكيف وجه الجمع؟ قلنا: هذا الحديث ما سيق لبيان مقدار الأجور، وعدد تضاعيفها، وإنما سيق لتحقيق أن الله تعالى لا يضيع عمل عامل - قليلا كان أو كثيرا - وأن الله تعالى يسرع إلى قبوله، وإلى مضاعفة الثواب عليه، إسراع من جيء إليه بشيء فبادر لأخذه، وتبشبش له بشبشة من سر به، ووقع منه الموقع، ألا ترى قوله: من (1) أتاني يمشي أتيته هرولة، وفي لفظ آخر: أسرعت إليه. ولا تتقدر الهرولة والإسراع بضعفي المشي، وأما عدد الأضعاف،
(1) في التلخيص: "وإن".
[2614]
وعنه؛ قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ جُمدَانُ. فَقَالَ: سِيرُوا، هَذَا جُمدَانُ، سَبَقَ المُفَرِّدُونَ، قَالُوا: وَمَا المُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ.
رواه أحمد (2/ 323)، ومسلم (2676)، والترمذيُّ (3596).
* * *
ــ
فيؤخذ من موضع آخر، لا من هذا الحديث. والله أعلم.
و(قوله: هذا جمدان) هو بضم الجيم وسكون الميم، وهو جبل بين قديد وعسفان من منازل أسلم.
و(قوله: سبق المفردون) قال القاضي: ضبطته عن متقني شيوخنا بفتح الفاء وكسر الراء. قال الهروي: قال أبو العباس عن ابن الأعرابي: فرد الرجل: إذا تفقه واعتزل الناس، وخلا بمراعاة الأمر والنهي. وقال الأزهري: هم المتخلقون (1) من الناس بذكر الله تعالى. وقد فسرهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هم الذاكرون الله كثيرا والذاكرات. وقال في غير كتاب مسلم: هم المستهترون بذكر الله تعالى، يضع عنهم الذكر أوزارهم، فيردون يوم القيامة خفافا (2). وإنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول عقيب قوله: هذا جمدان، لأن جمدان جبل منفرد بنفسه هنالك، ليس بحذائه جبل مثله، فكأنه تفرد هناك فذكره بهؤلاء المفردين. والله أعلم. وهؤلاء القوم سبقوا في الدنيا إلى الأحوال السنية، وفي الآخرة إلى المنازل العلية.
و(قوله: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات) هذه الكثرة المذكورة هنا هي
(1) في (ز) و (م 4): المتحلَّون.
(2)
رواه الترمذي (3596).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
المأمور بها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذكُرُوا اللَّهَ ذِكرًا كَثِيرًا} وهذا المساق يدلّ على أن هذا الذكر الكثير واجب، ولذلك لم يكتف بالأمر حتى أكده بالمصدر، ولم يكتف بالمصدر حتى أكده بالصفة، ومثل هذا لا يكون في المندوب. وظهر أنه ذكر كثير واجب، ولا يقول أحد بوجوب الذكر باللسان دائما، وعلى كل حال، كما هو ظاهر هذا الأمر، فتعين أن يكون ذكر القلب، كما قاله مجاهد. وقاله ابن عباس رضي الله عنهما: ليس شيء من الفرائض إلا وله حد ينتهي إليه، إلا ذكر الله ولم يقل هو ولا غيره - فيما علمناه - أن ذكر الله باللسان، يجب على الدوام، فلزم أنه ذكر القلب، وإذا ثبت ذلك، فذكر القلب لله تعالى، إما على جهة الإيمان والتصديق بوجوده، وصفات كماله وأسمائه، فهذا يجب استدامته بالقلب ذكرا أو حكما في حال الغفلة؛ لأنَّه لا ينفك عنه إلا بنقيضه، وهو الكفر. والذكر الذي ليس راجعا إلى الإيمان: هو ذكر الله عند الأخذ في الأفعال، فيجب على كل مكلف ألا يقدم على فعل من الأفعال، ولا قول من الأقوال - ظاهرا ولا باطنا - إلا حتى يعرف حكم الله في ذلك الفعل؛ لإمكان أن يكون الشرع منعه منه، فإمَّا على طريق الاجتهاد إن كان مجتهدا، أو على طريق التقليد إن كان غير مجتهد، ولا ينفك المكلف عن فعل أو قول دائما، فذكر الله يجب عليه دائما، ولذلك قال بعض السلف: اذكر الله عند همك إذا هممت، وحكمك إذا حكمت، وقسمك إذا قسمت، وما عدا هذين الذكرين لا يجب استدامته ولا كثرته. والله أعلم.
* * *