المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(7) باب يهجر من ظهرت معصيته حتى تتحقق توبته وقبول الله تعالى للتوبة الصادقة وكيف تكون أحوال التائب - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - جـ ٧

[أبو العباس القرطبي]

فهرس الكتاب

- ‌(12) باب إقرار النبي صلى الله عليه وسلم حجة

- ‌(37) كتاب الأذكار والدعوات

- ‌(1) باب الترغيب في ذكر الله تعالى

- ‌(2) باب فضل مجالس الذكر والاستغفار

- ‌(3) باب فضل إحصاء أسماء الله تعالى

- ‌(4) باب فضل قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له

- ‌(5) باب فضل التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير

- ‌(6) باب يذكر الله تعالى بوقار وتعظيم وفضل لا حول ولا قوة إلا بالله

- ‌(7) باب تجديد الاستغفار والتوبة في اليوم مائة مرة

- ‌(8) باب ليحقق الداعي طلبته وليعزم في دعائه

- ‌(9) باب في أكثر ما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(10) باب ما يدعى به وما يتعوذ منه

- ‌(11) باب ما يقول إذا نزل منزلا وإذا أمسى

- ‌(12) باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع وما بعد ذلك

- ‌(13) باب مجموعة أدعية كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بها

- ‌(14) باب: ما يقال عند الصباح وعند المساء

- ‌(15) باب كثرة ثواب الدعوات الجوامع وما جاء في أن الداعي يستحضر معاني دعواته في قلبه

- ‌(16) باب التسلي عند الفاقات بالأذكار وما يدعى به عند الكرب

- ‌(17) باب ما يقال عند صراخ الديكة ونهيق الحمير

- ‌(18) باب أحب الكلام إلى الله تعالى

- ‌(19) باب ما يقال عند الأكل والشرب والدعاء للمسلم بظهر الغيب

- ‌(20) باب يستجاب للعبد ما لم يعجل أو يدعو بإثم

- ‌(21) باب الدعاء بصالح ما عمل من الأعمال

- ‌(22) باب فضل الدوام على الذكر

- ‌(38) كتاب الرقاق

- ‌(1) باب وجوب التوبة وفضلها

- ‌(2) باب ما يخاف من عقاب الله على المعاصي

- ‌(3) باب في رجاء مغفرة الله تعالى وسعة رحمته

- ‌(4) باب من عاد إلى الذنب فليعد إلى الاستغفار

- ‌(5) باب في قوله تعالى: {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذهِبنَ السَّيِّئَاتِ}

- ‌(6) باب لا ييأس من قبول التوبة ولو قتل مائة نفس

- ‌(7) باب يهجر من ظهرت معصيته حتى تتحقق توبته وقبول الله تعالى للتوبة الصادقة وكيف تكون أحوال التائب

- ‌(8) باب تقبل التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها

- ‌(39) كتاب الزهد

- ‌(1) باب هوان الدنيا على الله تعالى وأنها سجن المؤمن

- ‌(2) باب ما للعبد من ماله وما الذي يبقى عليه في قبره

- ‌(3) باب ما يحذر من بسط الدنيا ومن التنافس

- ‌(4) باب لا تنظر إلى من فضل الله عليك في الدنيا وانظر إلى من فضلت عليه

- ‌(5) باب في الابتلاء بالدنيا وكيف يعمل فيها

- ‌(6) باب الخمول في الدنيا والتقلل منها

- ‌(7) باب التزهيد في الدنيا والاجتزاء في الملبس والمطعم باليسير الخشن

- ‌(8) باب ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل الإصبع في اليم وما جاء أن المؤمن فيه كخامة الزرع

- ‌(9) باب شدة عيش النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا

- ‌(10) باب سبق فقراء المهاجرين إلى الجنة، ومن الفقير السابق

- ‌(11) باب كرامة من قنع بالكفاف وتصدق بالفضل

- ‌(12) باب الاجتهاد في العبادة والدوام على ذلك، ولن ينجي أحدا منكم عمله

- ‌(13) باب في التواضع

- ‌(40) كتاب ذكر الموت وما بعده

- ‌(1) باب الأمر بحسن الظن بالله عند الموت وما جاء: أن كل عبد يبعث على ما مات عليه

- ‌(2) باب إذا مات المرء عرض عليه مقعده وما جاء في عذاب القبر

- ‌(3) باب سؤال الملكين للعبد حين يوضع في القبر وقوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَولِ الثَّابِتِ}

- ‌(4) باب في أرواح المؤمنين وأرواح الكافرين

- ‌(5) باب ما جاء أن الميت ليسمع ما يقال

- ‌(6) باب في الحشر وكيفيته

- ‌(7) باب دنو الشمس من الخلائق في المحشر وكونهم في العرق على قدر أعمالهم

- ‌(8) باب في المحاسبة ومن نوقش هلك

- ‌(9) باب حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات وصفة أهل الجنة وصفة أهل النار

- ‌(10) باب في صفة الجنة وما أعد الله فيها

- ‌(11) باب في غرف الجنة وتربتها وأسواقها

- ‌(12) باب في الجنة أكل وشرب ونكاح حقيقة ولا قذر فيها ولا نقص

- ‌(13) باب في حسن صورة أهل الجنة وطولهم وشبابهم وثيابهم وأن كل ما في الجنة دائم لا يفنى

- ‌(14) باب في خيام الجنة وما في الدنيا من أنهار الجنة

- ‌(15) باب في صفة جهنم وحرها وأهوالها وبعد قعرها، أعاذنا الله منها

- ‌(16) باب تعظيم جسد الكافر وتوزيع العذاب بحسب أعمال الأعضاء

- ‌(17) باب ذبح الموت وخلود أهل الجنة وأهل النار

- ‌(18) باب محاجة الجنة والنار

- ‌(19) باب شهادة أركان الكافر عليه يوم القيامة وكيف يحشر

- ‌(20) باب أكثر أهل الجنة وأكثر أهل النار

- ‌(21) باب لكل مسلم فداء من النار من الكفار

- ‌(22) باب آخر من يخرج من النار وآخر من يدخل الجنة وما لأدنى أهل الجنة منزلة وما لأعلاهم

- ‌(41) كتاب الفتن وأشراط الساعة

- ‌(1) باب إقبال الفتن ونزولها كمواقع القطر ومن أين تجيء

- ‌(2) باب الفرار من الفتن وكسر السلاح فيها وما جاء: أن القاتل والمقتول في النار

- ‌(3) باب لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، وحتى يكثر الهرج وجعل بأس هذه الأمة بينها

- ‌(4) باب إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون إلى قيام الساعة

- ‌(5) باب في الفتنة التي تموج موج البحر وفي ثلاث فتن لا يكدن يذرن شيئا

- ‌(6) باب ما فتح من ردم يأجوج ومأجوج، ويغزو البيت جيش فيخسف به

- ‌(7) باب لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب، وحتى يمنع أهل العراق ومصر والشام ما عليهم

- ‌(8) باب لا تقوم الساعة حتى تفتح قسطنطينية، وتكون ملحمة عظيمة، ويخرج الدجال ويقتله عيسى ابن مريم

- ‌(9) باب تقوم الساعة والروم أكثر الناس وما يفتح للمسلمين مع ذلك

- ‌(10) باب الآيات العشر التي تكون قبل الساعة وبيان أولها

- ‌(11) باب: أمور تكون بين يدي الساعة

- ‌(12) باب الخليفة الكائن في آخر الزمان وفيمن يهلك أمة النبي صلى الله عليه وسلم وتقتل عمارا الفئة الباغية وإخماد الفتنة الباغية ولتفنى كنوز كسرى في سبيل الله

- ‌(13) باب ما ذكر من أن ابن صياد: الدجال

- ‌(14) باب في صفة الدجال وما يجيء معه من الفتن

- ‌(15) باب: في هوان الدجال على الله تعالى وأنه لا يدخل مكة والمدينة ومن يتبعه من اليهود

- ‌(16) باب حديث الجساسة وما فيه من ذكر الدجال

- ‌(17) باب كيف يكون انقراض هذا الخلق وتقريب الساعة وكم بين النفختين

- ‌(18) باب المبادرة بالعمل الصالح والفتن وفضل العبادة في الهرج

- ‌(19) باب إغراء الشيطان بالفتن

- ‌(20) باب في قوله عليه الصلاة والسلام: لتتبعن سنن الذين من قبلكم، وهلك المتنطعون آخر الفتن

- ‌(42) كتاب التفسير

- ‌(1) باب من فاتحة الكتاب

- ‌(2) ومن سورة البقرة

- ‌(3) ومن سورة آل عمران

- ‌(4) ومن سورة النساء

- ‌(5) ومن سورة العقود

- ‌(6) ومن سورة الأنعام

- ‌(7) ومن سورة الأعراف

- ‌(8) ومن سورة الأنفال وبراءة

- ‌(9) ومن سورة إبراهيم

- ‌(10) ومن سورة الحجر

- ‌(11) ومن سورة الإسراء

- ‌(12) ومن سورة الكهف

- ‌(13) ومن سورة مريم

- ‌(14) ومن سورة الأنبياء

- ‌(15) ومن سورة الحج

- ‌(16) ومن سورة النور

- ‌(17) ومن سورة الفرقان

- ‌(18) ومن سورة الشعراء

- ‌(19) ومن سورة: الم السجدة

- ‌(20) ومن سورة الأحزاب

- ‌(21) ومن سورة تنزيل

- ‌(22) ومن سورة حم السجدة

- ‌(23) ومن سورة الدخان

- ‌(24) ومن سورة الحجرات

- ‌(25) ومن سورة ق

- ‌(26) ومن سورة القمر

- ‌(27) ومن سورة الحديد والحشر

- ‌(28) ومن سورة المنافقين

- ‌(29) باب: من أخبار المنافقين

- ‌(30) ومن سورة التحريم

- ‌(31) ومن سورة الجن

- ‌(32) ومن سورة المدثر

- ‌(33) ومن سورة القيامة

- ‌(34) ومن سورة الأخدود

- ‌(35) ومن سورة الشمس وضحاها

- ‌(36) ومن سورة الليل

- ‌(37) ومن سورة الضحى

- ‌(38) ومن سورة اقرأ باسم ربك

- ‌(39) ومن سورة النصر

الفصل: ‌(7) باب يهجر من ظهرت معصيته حتى تتحقق توبته وقبول الله تعالى للتوبة الصادقة وكيف تكون أحوال التائب

(7) باب يهجر من ظهرت معصيته حتى تتحقق توبته وقبول الله تعالى للتوبة الصادقة وكيف تكون أحوال التائب

[2684]

عن كعب بن مالك، يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلَّفَ عَن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزوَةِ تَبُوكَ، وَهُوَ يُرِيدُ الرُّومَ، وَنَصَارَى العَرَبِ بِالشَّامِ، قَالَ كَعبُ بنُ مَالِكٍ: لَم أَتَخَلَّف عَن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ، إِلَّا فِي غَزوَةِ تَبُوكَ، غَيرَ أَنِّي قَد تَخَلَّفتُ فِي غَزوَةِ بَدرٍ، وَلَم يُعَاتِب أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنهُ، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالمُسلِمُونَ يُرِيدُونَ عِيرَ قُرَيشٍ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَينَهُم وَبَينَ عَدُوِّهِم عَلَى غَيرِ مِيعَادٍ، وَلَقَد شَهِدتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيلَةَ العَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقنَا عَلَى الإِسلَامِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشهَدَ بَدرٍ، وَإِن كَانَت بَدرٌ أَذكَرَ فِي النَّاسِ مِنهَا، وَكَانَ مِن خَبَرِي حِينَ تَخَلَّفتُ عَن رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزوَةِ تَبُوكَ، أَنِّي لَم أَكُن قَطُّ أَقوَى وَلَا أَيسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفتُ عَنهُ تِلكَ الغَزوَةِ، وَاللَّهِ مَا جَمَعتُ قَبلَهَا رَاحِلَتَينِ قَطُّ حَتَّى جَمَعتُهُمَا فِي تِلكَ الغَزوَةِ، فَغَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاستَقبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا، وَاستَقبَلَ عَدُوًّا كَثِيرًا فَجَلَّى لِلمُسلِمِينَ أَمرَهُم لِيَتَأَهَّبُوا أُهبَةَ

ــ

(7)

ومن باب: يُهجَر مَن ظهرت معصيته حتى تتحقق توبته، وقبول الله تعالى للتوبة الصادقة، وكيف تكون أحوال التائب

العير: الإبل التي عليها أحمالها. وقد جلى للناس أمرهم؛ أي: كشفه وأوضحه. يعني: أنه بين لهم وجهه.

ص: 94

غَزوِهِم، فَأَخبَرَهُم بِوَجهِهِم الَّذِي يُرِيدُ، وَالمُسلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثِيرٌ، وَلَا يَجمَعُهُم كِتَابُ حَافِظٍ (يُرِيدُ بِذَلِكَ: الدِّيوَانَ).

قَالَ كَعبٌ: فَقَلَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَتَغَيَّبَ، يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ سَيَخفَى لَهُ مَا لَم يَنزِل فِيهِ وَحيٌ مِن اللَّهِ عز وجل، وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تِلكَ الغَزوَةَ حِينَ طَابَت الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ، فَأَنَا إِلَيهَا أَصعَرُ. فَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالمُسلِمُونَ مَعَهُ، وَطَفِقتُ أَغدُو لِكَي أَتَجَهَّزَ مَعَهُم، فَأَرجِعُ وَلَم أَقضِ شَيئًا، وَأَقُولُ فِي نَفسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَرَدتُ، فَلَم يَزَل ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتَّى استَمَرَّ بِالنَّاسِ الجِدُّ، فَأَصبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَادِيًا وَالمُسلِمُونَ مَعَهُ، وَلَم أَقضِ مِن جَهَازِي شَيئًا، ثُمَّ غَدَوتُ فَرَجَعتُ وَلَم أَقضِ شَيئًا، فَلَم يَزَل ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتَّى أَسرَعُوا وَتَفَارَطَ الغَزوُ، فَهَمَمتُ أَن أَرتَحِلَ فَأُدرِكَهُم - فَيَا لَيتَنِي فَعَلتُ - ثُمَّ لَم يُقَدَّر ذَلِكَ لِي، فَطَفِقتُ إِذَا خَرَجتُ فِي النَّاسِ بَعدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَحزُنُنِي أَنِّي لَا أَرَى لِي أُسوَةً إِلَّا رَجُلًا مَغمُوصًا عَلَيهِ فِي النِّفَاقِ، أَو رَجُلًا مِمَّن عَذَرَ اللَّهُ مِن الضُّعَفَاءِ.

وَلَم يَذكُرنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي القَومِ بِتَبُوكَ: مَا فَعَلَ كَعبُ بنُ مَالِكٍ؟ قَالَ رَجُلٌ مِن بَنِي

ــ

و(قوله: فقلَّ رجل يريد أن يتغيب يظن أن ذلك سيخفى له) كذا وقع هذا الكلام في سائر روايات مسلم، وفي نسخه، وسقط من الكلام (إلا) قبل (يظن) وبه يستقيم الكلام. وهي إيجاب بعدما تضمنه (َلّ) من معنى النفي؛ لأن معنى قوله: قل رجل، بمعنى: ما رجل، فكأنه قال: ما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له.

و(قوله: فأنا إليها أصعر) هو بالعين المهملة، ومعناه: أميل.

و(قوله: وتفارط الغزو) أي: تقدَّم الغزاة. والفرط والفارط: المتقدم. وجمعه: فراط. والأسوة: القدوة. والمغموص عليه: المعيب، المتهم، المحتقر.

ص: 95

سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ حَبَسَهُ بُردَاهُ وَالنَّظَرُ فِي عِطفَيهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ: بِئسَ مَا قُلتَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمنَا عَلَيهِ إِلَّا خَيرًا، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَينَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ رَأَى رَجُلًا مُبَيِّضًا، يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُن أَبَا خَيثَمَةَ، فَإِذَا هُوَ أَبُو خَيثَمَةَ الأَنصَارِيُّ، وَهُوَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِصَاعِ التَّمرِ حِينَ لَمَزَهُ المُنَافِقُونَ.

فَقَالَ كَعبُ بنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَد تَوَجَّهَ قَافِلًا مِن

ــ

و(قوله: حبسه برداه والنظر في عطفيه) البردان: يعني به: الرداء والإزار، والرداء والقميص، وسماهما بردين؛ لأنَّ القميص والإزار قد يكونان من برود، والبرود: ثياب من اليمن فيها خطوط. ويحتمل أن تسميتها بردين على طريقة: العمرين، والبكرين، والقمرين. والعِطف: الجانب. وكأن هذا القائل كان في نفسه حقد، ولعله كان منافقا، فنسب كعبا إلى الزهو والكبر، وكانت نسبة باطلة بدليل شهادة العدل الفاضل معاذ بن جبل، إذ قال: بئس ما قلت، والله يا رسول الله، ما علمنا عليه إلا خيرا. فيه جواز الذم والتقبيح للمتكلم في حق المسلم بالعيب والقبيح، ونصرة المسلم في حال غيبته، والرد عن عرضه.

و(قوله: إذ رأى رجلا مبيضا يزول به السراب)، هو بكسر الياء: اسم فاعل، من: بيض فهو مبيض؛ أي: أظهر بياض نفسه في السراب. ويزول: يتحرك ويضطرب. والسراب: ما يرى نصف النهار كأنه ماء.

و(قوله: كن أبا خيثمة) هذه صيغة أمر، ومعناها الخبر، أي: هو أبو خيثمة، وقيل معناها: لتوجد أبا خيثمة، واسمه عبد الله، وقيل: مالك بن قيس. ولمزه المنافقون: عابوه، واللمز: الطعن والعيب. وقافلا: راجعا. والبث: أشد الحزن. وطفقت: أخذت، وهي من أفعال المقاربة على ما تقدم. وأظل قادما: أقبل، وهو رباعي. وزاح: ذهب وزال. وأجمعت صدقه: عزمت عليه.

ص: 96

تَبُوكَ، حَضَرَنِي بَثِّي، فَطَفِقتُ أَتَذَكَّرُ الكَذِبَ، وَأَقُولُ: بِمَ أَخرُجُ مِن سَخَطِهِ غَدًا؟ وَأَستَعِينُ عَلَى ذَلِكَ كُلَّ ذِي رَأيٍ مِن أَهلِي، فَلَمَّا قِيلَ لِي: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَد أَظَلَّ قَادِمًا، زَاحَ عَنِّي البَاطِلُ حَتَّى عَرَفتُ أَنِّي لَن أَنجُوَ مِنهُ بِشَيءٍ أَبَدًا، فَأَجمَعتُ صِدقَهُ، وَصَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَادِمًا، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِن سَفَرٍ بَدَأَ بِالمَسجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكعَتَينِ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ المُخَلَّفُونَ، فَطَفِقُوا يَعتَذِرُونَ إِلَيهِ، وَيَحلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا، فَقَبِلَ مِنهُم رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَانِيَتَهُم وَبَايَعَهُم وَاستَغفَرَ لَهُم، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُم إِلَى اللَّهِ، حَتَّى جِئتُ، فَلَمَّا سَلَّمتُ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغضَبِ، ثُمَّ قَالَ: تَعَالَ، فَجِئتُ أَمشِي حَتَّى جَلَستُ بَينَ يَدَيهِ، فَقَالَ لِي: مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَم تَكُن قَد ابتَعتَ ظَهرَكَ؟ قَالَ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَاللَّهِ لَو جَلَستُ عِندَ غَيرِكَ مِن أَهلِ الدُّنيَا لَرَأَيتُ أَنِّي سَأَخرُجُ مِن سَخَطِهِ بِعُذرٍ، وَلَقَد أُعطِيتُ جَدَلًا، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ، لَقَد عَلِمتُ لَئِن حَدَّثتُكَ اليَومَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَن يُسخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِن حَدَّثتُكَ حَدِيثَ صِدقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إِنِّي لَأَرجُو فِيهِ عُقبَى اللَّهِ، وَاللَّهِ، مَا كَانَ لِي عُذرٌ، وَاللَّهِ، مَا كُنتُ قَطُّ أَقوَى وَلَا أَيسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفتُ عَنكَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا هَذَا فَقَد صَدَقَ،

ــ

و(قوله: وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه) إنما كان يفعل ذلك ليبدأ بتعظيم بيت الله قبل بيته، وليقوم بشكر نعمة الله تعالى عليه في سلامته، ويسلم عليه الناس، وليسن ذلك في شرعه. والجدل: الخصومة المحكمة. والظهر هنا: الإبل التي يحمل على ظهورها. ومرارة بن ربيعة، كذا وقع في كتاب مسلم، وذكره البخاري: ابن الربيع. وذكره أبو عمر بالوجهين، ونسبه مسلم فقال: العامري. والصواب: العمري، وكذا ذكره البخاري، وابن إسحاق، وأبو عمر بن عبد البر، وهو منسوب لعمرو بن عوف.

ص: 97

فَقُم حَتَّى يَقضِيَ اللَّهُ فِيكَ.

فَقُمتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِن بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي، فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ مَا عَلِمنَاكَ أَذنَبتَ ذَنبًا قَبلَ هَذَا، لَقَد عَجَزتَ فِي أَلَّا تَكُونَ اعتَذَرتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا اعتَذَرَ بِهِ المُخَلَّفُونَ، فَقَد كَانَ كَافِيَكَ ذَنبَكَ استِغفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكَ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِي حَتَّى أَرَدتُ أَن أَرجِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُكَذِّبَ نَفسِي، قَالَ: ثُمَّ قُلتُ لَهُم: هَل لَقِيَ هَذَا مَعِي مِن أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَم، لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلَانِ قَالَا مِثلَ مَا قُلتَ فَقِيلَ لَهُمَا مِثلَ مَا قِيلَ لَكَ، قَالَ: قُلتُ: مَن هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بنُ رَبِيعَةَ العَامِرِيُّ، وَهِلَالُ بنُ أُمَيَّةَ الوَاقِفِيُّ، قَالَ: فَذَكَرُوا لِي رَجُلَينِ صَالِحَينِ قَد شَهِدَا بَدرًا فِيهِمَا أُسوَةٌ.

قَالَ: فَمَضَيتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي، قَالَ: وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المُسلِمِينَ عَن كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ مِن بَينِ مَن تَخَلَّفَ عَنهُ، قَالَ: فَاجتَنَبَنَا النَّاسُ، وَقَالَ: تَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَت لِي فِي نَفسِيَ الأَرضُ، فَمَا هِيَ بِالأَرضِ الَّتِي أَعرِفُ، فَلَبِثنَا عَلَى ذَلِكَ خَمسِينَ لَيلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاستَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبكِيَانِ، وَأَمَّا أَنَا فَكُنتُ أَشَبَّ القَومِ وَأَجلَدَهُم، فَكُنتُ أَخرُجُ فَأَشهَدُ الصَّلَاةَ وَأَطُوفُ فِي الأَسوَاقِ، وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ.

وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُسَلِّمُ عَلَيهِ وَهُوَ فِي مَجلِسِهِ بَعدَ الصَّلَاةِ، فَأَقُولُ فِي

ــ

و(قوله: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا - أيها الثلاثة -) هو دليل على وجوب هجران من ظهرت معصيته، فلا يسلم عليه إلا أن يقلع وتظهر توبته. والثلاثة مرفوع على الصفة لـ (أي)، ويجوز نصبه على الاختصاص، وحكى سيبويه: اللهم اغفر لنا أيتها العصابةَ. وتنكرت: تغيرت. واستكانا: سكنا، أي: خضعا وذلا، وأشب القوم: أصغرهم. وأجلدهم: أقواهم. وأسارقه النظر: أي أنظر إليه بطرف خفي. وتسورت الجدار؛ أي: علوت سوره. وأنشدك الله؛ أي: أسالك بالله، ومنه النشيد، وهو: رفع الصوت بالشعر وغيره.

ص: 98

نَفسِي: هَل حَرَّكَ شَفَتَيهِ بِرَدِّ السَّلَامِ أَم لَا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنهُ وَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقبَلتُ عَلَى صَلَاتِي نَظَرَ إِلَيَّ، وَإِذَا التَفَتُّ نَحوَهُ أَعرَضَ عَنِّي حَتَّى إِذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيَّ مِن جَفوَةِ المُسلِمِينَ مَشَيتُ حَتَّى تَسَوَّرتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ - وَهُوَ ابنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ - فَسَلَّمتُ عَلَيهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، فَقُلتُ لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أَنشُدُكَ بِاللَّهِ، هَل تَعلَمَنَّ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ قَالَ: فَسَكَتَ، فَعُدتُ فَنَاشَدتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدتُ فَنَاشَدتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعلَمُ، فَفَاضَت عَينَايَ، وَتَوَلَّيتُ حَتَّى تَسَوَّرتُ الجِدَارَ، فَبَينَا أَنَا أَمشِي فِي سُوقِ المَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِن نَبَطِ أَهلِ الشَّامِ، مِمَّن قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالمَدِينَةِ يَقُولُ: مَن يَدُلُّ عَلَى كَعبِ بنِ مَالِكٍ؟ قَالَ: فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ حَتَّى جَاءَنِي، فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِن مَلِكِ غَسَّانَ - وَكُنتُ كَاتِبًا - فَقَرَأتُهُ فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعدُ، فَإِنَّهُ قَد بَلَغَنَا أَنَّ صَاحِبَكَ قَد جَفَاكَ، وَلَم يَجعَلكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضيَعَةٍ، فَالحَق بِنَا نُوَاسِكَ. قَالَ: فَقُلتُ حِينَ قَرَأتُهَا: وَهَذِهِ أَيضَا مِن البَلَاءِ، فَتَأممتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرتُهَا بِهَا.

حَتَّى إِذَا

ــ

و(قول أبي قتادة: الله ورسوله أعلم) ظاهره: أنه أجابه عند إلحاحه عليه بالسؤال، فيكون قد كلمه، فيكون مخالفا للنهي. وقد تؤول بأن أبا قتادة قال ذلك لنفسه مخبرا عن اعتقاده، ولم يقصد كلامه ولا إسماعه.

قلت: ويحتمل أن يقال: إن أبا قتادة فهم أن الكلام الذي نهي عنه إنما هو الحديث معه والمباسطة، وإفادة المعاني، فأمَّا مثل هذا الكلام الذي يقتضي الإبعاد والمنافرة، فلا، والله أعلم. ألا ترى أنه لم يرد عليه السلام، ولا التفت لحديثه؟ .

والنبطي: واحد النبط، وهم العامرون لتلك الأراضي، وسموا بذلك لأنهم ينبطون المياه؛ أي: يستخرجونها. وتأممت بها التنور فسجرتها؛ أي: قصدت بالصحيفة التنور فرميتها فيه، وأحرقتها، ويقال: تيمم، بالياء وبالهمزة. والمضيعة: بفتح

ص: 99

مَضَت أَربَعُونَ مِن الخَمسِينَ، وَاستَلبَثَ الوَحيُ، إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأتِينِي، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأمُرُكَ أَن تَعتَزِلَ امرَأَتَكَ، قَالَ: فَقُلتُ: أُطَلِّقُهَا أَم مَاذَا أَفعَلُ؟ قَالَ: لَا، بَل اعتَزِلهَا فَلَا تَقرَبَنَّهَا، قَالَ: فَأَرسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثلِ ذَلِكَ، قَالَ: فَقُلتُ لِامرَأَتِي: الحَقِي بِأَهلِكِ فَكُونِي عِندَهُم حَتَّى يَقضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الأَمرِ، قَالَ: فَجَاءَت امرَأَةُ هِلَالِ بنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَت لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هِلَالَ بنَ أُمَيَّةَ شَيخٌ ضَائِعٌ لَيسَ لَهُ خَادِمٌ، فَهَل تَكرَهُ أَن أَخدُمَهُ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن لَا يَقرَبَنَّكِ، فَقَالَت: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيءٍ، وَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَبكِي مُنذُ كَانَ مِن أَمرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَومِهِ هَذَا.

قَالَ: فَقَالَ لِي بَعضُ أَهلِي: لَو استَأذَنتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي امرَأَتِكَ، فَقَد أَذِنَ لِامرَأَةِ هِلَالِ بنِ أُمَيَّةَ أَن تَخدُمَهُ، قَالَ: فَقُلتُ: لَا أَستَأذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا يُدرِينِي مَاذَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا استَأذَنتُهُ فِيهَا، وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ، قَالَ: فَلَبِثتُ بِذَلِكَ عَشرَ لَيَالٍ، فَكَمُلَ لَنَا خَمسُونَ لَيلَةً مِن حِينَ نُهِيَ عَن كَلَامِنَا.

قَالَ: ثُمَّ صَلَّيتُ صَلَاةَ الفَجرِ صَبَاحَ خَمسِينَ لَيلَةً عَلَى ظَهرِ بَيتٍ مِن بُيُوتِنَا، فَبَينَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ عز وجل مِنَّا قَد ضَاقَت عَلَيَّ نَفسِي، وَضَاقَت عَلَيَّ الأَرضُ بِمَا رَحُبَت، سَمِعتُ صَوتَ صَارِخٍ أَوفَى عَلَى سَلعٍ يَقُولُ بِأَعلَى صَوتِهِ: يَا كَعبُ بنَ مَالِكٍ أَبشِر، قَالَ:

ــ

الميم وكسر الضاد، وسكونها: الضياع، وهو الإهمال، وترك المبالاة به حتى يضيع.

و(قوله: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر) هذا يدل على أن: الحقي بأهلك، ليس من ألفاظ الطلاق، لا من صرائحه، ولا من كناياته الظاهرة، وغايته: أن يكون مما يحتمل أن يراد به الطلاق إذا نوى ذلك.

و(قوله: وضاقت علي الأرض بما رحبت) أي: برحبها، و (ما) مصدرية،

ص: 100

فَخَرَرتُ سَاجِدًا، وَعَرَفتُ أَن قَد جَاءَ فَرَجٌ.

قَالَ: فَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ بِتَوبَةِ اللَّهِ عَلَينَا حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الفَجرِ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَسًا، وَسَعَى سَاعٍ مِن أَسلَمَ قِبَلِي وَأَوفَى الجَبَلَ، فَكَانَ الصَّوتُ أَسرَعَ مِن الفَرَسِ، فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعتُ صَوتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعتُ ثَوبَيَّ، فَكَسَوتُهُمَا إِيَّاهُ بِبِشَارَتِهِ، وَاللَّهِ مَا أَملِكُ غَيرَهُمَا يَومَئِذٍ، وَاستَعَرتُ ثَوبَينِ فَلَبِستُهُمَا، وَانطَلَقتُ أَتَأَمَّمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوجًا فَوجًا، يُهَنِّئُونِي بِالتَّوبَةِ وَيَقُولُونَ: لِتَهنِئكَ تَوبَةُ اللَّهِ عَلَيكَ، حَتَّى دَخَلتُ المَسجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فِي المَسجِدِ وَحَولَهُ النَّاسُ، فَقَامَ طَلحَةُ بنُ عُبَيدِ اللَّهِ يُهَروِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، وَاللَّهِ مَا قَامَ رَجُلٌ

ــ

والرحب - بضم الراء -: السعة. وأوفى: أطل وأشرف. وسلع: - بفتح السين وسكون اللام -: جبل بالمدينة معروف.

و(قوله: فخررت ساجدا) هذه سجدة الشكر، وظاهر هذا أنها كانت معلومة عندهم، معمولا بها فيما بينهم، وقال بها الشافعي ومالك في أحد قوليه، ومشهور مذهبه الكراهة. وركض الفرس: إجراؤه الجري الشديد. وكسوته للبشير ثوبيه مع كونه ليس له غيرهما، دليل على جواز مثل ذلك إذا ارتجى حصول ما يستبشر به، وهو دليل على جواز إظهار الفرح بأمور الخير والدين، وجواز البذل والهبات عندها، وقد نحر عمر لما حفظ سورة البقرة جزورا.

و(قوله: فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة) أي: زمرة زمرة، وجماعة بعد جماعة. وفيه دليل على جواز التهنئة بأمور الخير، بل على ندبيتها إذا كانت دينية؛ فإنه إظهار السرور بما يسر به أخوه المسلم، وإظهار المحبة، وتصفية القلب بالمودة.

و(قوله: فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني) دليل لمن

ص: 101

مِن المُهَاجِرِينَ غَيرُهُ، قَالَ: فَكَانَ كَعبٌ لَا يَنسَاهَا لِطَلحَةَ. قَالَ كَعبٌ: فَلَمَّا سَلَّمتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَهُوَ يَبرُقُ وَجهُهُ مِن السُّرُورِ، وَيَقُولُ: أَبشِر بِخَيرِ يَومٍ مَرَّ عَلَيكَ مُنذُ وَلَدَتكَ أُمُّكَ، قَالَ: فَقُلتُ: أَمِن عِندِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَم مِن عِندِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: لَا، بَل مِن عِندِ اللَّهِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سُرَّ استَنَارَ وَجهُهُ كَأَنَّ وَجهَهُ قِطعَةُ قَمَرٍ، قَالَ: وَكُنَّا نَعرِفُ ذَلِكَ.

قَالَ: فَلَمَّا جَلَستُ بَينَ يَدَيهِ قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِن تَوبَتِي أَن أَنخَلِعَ مِن مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمسِك بَعضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيرٌ لَكَ، قَالَ: فَقُلتُ: فَإِنِّي أُمسِكُ سَهمِيَ الَّذِي بِخَيبَرَ، قَالَ: وَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدقِ، وَإِنَّ مِن

ــ

قال بجواز القيام للداخل والمصافحة. وقد بينا الخلاف في ذلك في الجهاد.

و(قوله: وكان كعب لا ينساها لطلحة) أي: تلك القومة والبشاشة التي صدرت له منه. ومعناه: أن تلك الفعلة أكدت في قلبه محبته، وألزمته حرمته حتى عدها من الأيدي الجسيمة، والمنن العظيمة.

و(قوله: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله) أي: إن من علامات صدق توبتي، أو من شكر توبتي أن أتصدق بمالي، أي إن علي ذلك، فهي صيغة نذر والتزام، خرج مخرج الشكر وابتغاء الثواب. أقر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فكان ذلك جائزا، ولم يدخل في عموم النذر المنهي عنه بقوله: لا تنذروا (1) وقد بينا ذلك فيما تقدَّم. وعلى مقتضى هذا اللفظ فقد وجب عليه إخراج كل ماله، لكن لما كان ذلك يؤدي إلى أن يبقى فقيرا محتاجا، وربما يفضي

(1) رواه أحمد (2/ 412)، والبخاري (6694)، ومسلم (1640)(5 و 6).

ص: 102

تَوبَتِي أَلَّا أُحَدِّثَ إِلَّا صِدقًا مَا بَقِيتُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا عَلِمتُ أَنَّ أَحَدًا مِن المُسلِمِينَ أَبلَاهُ اللَّهُ فِي صِدقِ الحَدِيثِ مُنذُ ذَكَرتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحسَنَ مِمَّا أَبلَانِي اللَّهُ بِهِ، وَاللَّهِ مَا تَعَمَّدتُ كَذِبَةً مُنذُ قُلتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَومِي هَذَا، وَإِنِّي لَأَرجُو أَن يَحفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيَ.

قَالَ: فَأَنزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَد تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسرَةِ مِن بَعدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنهُم ثُمَّ تَابَ عَلَيهِم إِنَّهُ بِهِم رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَت عَلَيهِمُ الأَرضُ بِمَا رَحُبَت وَضَاقَت عَلَيهِم أَنفُسُهُم} حَتَّى بَلَغَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

ــ

به ذلك إلى سؤال الناس، والى الدخول في مفاسد، اكتفى الشرع منه ببعضه فقال: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك وهذا البعض الذي أمره بإمساكه هو الأكثر، والمتصدق به هو الأقل، كما قال في حديث سعد: الثلث والثلث كثير (1) كما تقدم.

و(قوله: فما أعلم أحدا أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني) أي: أنعم، ومنه قوله تعالى:{وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِن رَبِّكُم عَظِيمٌ} أي: نعمة. ويقال في الخير والشر، ثلاثيا ورباعيا، وقد جمع بينهما زهير فقال:

. . . . . . . . . . . . .

وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو (2)

وأصله من الابتلاء، وهو الامتحان والاختبار. ويمتحن بالخير والشر، كما قال تعالى:{وَنَبلُوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً} والعسرة: الشدة وسوء الحال، وهو العسر أيضًا، وتزيغ: تميل وتذهب {ثُمَّ تَابَ عَلَيهِم}

(1) رواه أحمد (1/ 179)، والبخاري (6733)، ومسلم (1628)(5).

(2)

هذا عجز بيت، وصدره:

جَزَى اللهُ بالإحسانِ ما فَعَلا بكم

ص: 103

اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

قَالَ كَعبٌ: وَاللَّهِ مَا أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِن نِعمَةٍ قَطُّ بَعدَ أن هَدَانِي اللَّهُ لِلإِسلَامِ أَعظَمَ فِي نَفسِي مِن صِدقِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَلَّا أَكُونَ كَذَبتُهُ فَأَهلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا، إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنزَلَ الوَحيَ شَرَّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ، وَقَالَ سبحانه:{سَيَحلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُم إِذَا انقَلَبتُم إِلَيهِم لِتُعرِضُوا عَنهُم فَأَعرِضُوا عَنهُم إِنَّهُم رِجسٌ وَمَأوَاهُم جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ * يَحلِفُونَ لَكُم لِتَرضَوا عَنهُم فَإِن تَرضَوا عَنهُم فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرضَى عَنِ القَومِ الفَاسِقِينَ}

قَالَ كَعبٌ: كُنَّا خُلِّفنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ عَن أَمرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنهُم رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حَلَفُوا لَهُ، فَبَايَعَهُم وَاستَغفَرَ لَهُم، وَأَرجَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمرَنَا حَتَّى قَضَى اللَّهُ فِيهِ، فَبِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ عز وجل:{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} وَلَيسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خُلِّفنَا تَخَلُّفَنَا

ــ

أي: ألهمهم أسباب التوبة، وأعانهم عليها، ليتوبوا، أي: ليقبلها منهم. وقيل: تاب عليهم قبل توبتهم، وليتوبوا: أي: ليدوموا عليها.

و(قوله: ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون كذبته فأهلك) كذا عند جميع رواة مسلم والبخاري: ألا أكون، وهي زائدة، وتقدير الكلام: أن أكون، وكما قال:{مَا مَنَعَكَ أَلا تَسجُدَ} معناه: أن تسجد، وقد رواه الأصيلي عن البخاري: إلا أن أكون كذبته، وليست بشيء، والأولى الصواب. والرجس: المستخبث المستقذر المذموم.

و(قوله: كنا خلفنا أيها الثلاثة) أي: أخروا عن المنافقين، ولم يقض فيهم بشيء، وقد بين ذلك في بقية الحديث.

ص: 104