المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(14) باب في صفة الدجال وما يجيء معه من الفتن - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - جـ ٧

[أبو العباس القرطبي]

فهرس الكتاب

- ‌(12) باب إقرار النبي صلى الله عليه وسلم حجة

- ‌(37) كتاب الأذكار والدعوات

- ‌(1) باب الترغيب في ذكر الله تعالى

- ‌(2) باب فضل مجالس الذكر والاستغفار

- ‌(3) باب فضل إحصاء أسماء الله تعالى

- ‌(4) باب فضل قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له

- ‌(5) باب فضل التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير

- ‌(6) باب يذكر الله تعالى بوقار وتعظيم وفضل لا حول ولا قوة إلا بالله

- ‌(7) باب تجديد الاستغفار والتوبة في اليوم مائة مرة

- ‌(8) باب ليحقق الداعي طلبته وليعزم في دعائه

- ‌(9) باب في أكثر ما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(10) باب ما يدعى به وما يتعوذ منه

- ‌(11) باب ما يقول إذا نزل منزلا وإذا أمسى

- ‌(12) باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع وما بعد ذلك

- ‌(13) باب مجموعة أدعية كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بها

- ‌(14) باب: ما يقال عند الصباح وعند المساء

- ‌(15) باب كثرة ثواب الدعوات الجوامع وما جاء في أن الداعي يستحضر معاني دعواته في قلبه

- ‌(16) باب التسلي عند الفاقات بالأذكار وما يدعى به عند الكرب

- ‌(17) باب ما يقال عند صراخ الديكة ونهيق الحمير

- ‌(18) باب أحب الكلام إلى الله تعالى

- ‌(19) باب ما يقال عند الأكل والشرب والدعاء للمسلم بظهر الغيب

- ‌(20) باب يستجاب للعبد ما لم يعجل أو يدعو بإثم

- ‌(21) باب الدعاء بصالح ما عمل من الأعمال

- ‌(22) باب فضل الدوام على الذكر

- ‌(38) كتاب الرقاق

- ‌(1) باب وجوب التوبة وفضلها

- ‌(2) باب ما يخاف من عقاب الله على المعاصي

- ‌(3) باب في رجاء مغفرة الله تعالى وسعة رحمته

- ‌(4) باب من عاد إلى الذنب فليعد إلى الاستغفار

- ‌(5) باب في قوله تعالى: {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذهِبنَ السَّيِّئَاتِ}

- ‌(6) باب لا ييأس من قبول التوبة ولو قتل مائة نفس

- ‌(7) باب يهجر من ظهرت معصيته حتى تتحقق توبته وقبول الله تعالى للتوبة الصادقة وكيف تكون أحوال التائب

- ‌(8) باب تقبل التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها

- ‌(39) كتاب الزهد

- ‌(1) باب هوان الدنيا على الله تعالى وأنها سجن المؤمن

- ‌(2) باب ما للعبد من ماله وما الذي يبقى عليه في قبره

- ‌(3) باب ما يحذر من بسط الدنيا ومن التنافس

- ‌(4) باب لا تنظر إلى من فضل الله عليك في الدنيا وانظر إلى من فضلت عليه

- ‌(5) باب في الابتلاء بالدنيا وكيف يعمل فيها

- ‌(6) باب الخمول في الدنيا والتقلل منها

- ‌(7) باب التزهيد في الدنيا والاجتزاء في الملبس والمطعم باليسير الخشن

- ‌(8) باب ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل الإصبع في اليم وما جاء أن المؤمن فيه كخامة الزرع

- ‌(9) باب شدة عيش النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا

- ‌(10) باب سبق فقراء المهاجرين إلى الجنة، ومن الفقير السابق

- ‌(11) باب كرامة من قنع بالكفاف وتصدق بالفضل

- ‌(12) باب الاجتهاد في العبادة والدوام على ذلك، ولن ينجي أحدا منكم عمله

- ‌(13) باب في التواضع

- ‌(40) كتاب ذكر الموت وما بعده

- ‌(1) باب الأمر بحسن الظن بالله عند الموت وما جاء: أن كل عبد يبعث على ما مات عليه

- ‌(2) باب إذا مات المرء عرض عليه مقعده وما جاء في عذاب القبر

- ‌(3) باب سؤال الملكين للعبد حين يوضع في القبر وقوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَولِ الثَّابِتِ}

- ‌(4) باب في أرواح المؤمنين وأرواح الكافرين

- ‌(5) باب ما جاء أن الميت ليسمع ما يقال

- ‌(6) باب في الحشر وكيفيته

- ‌(7) باب دنو الشمس من الخلائق في المحشر وكونهم في العرق على قدر أعمالهم

- ‌(8) باب في المحاسبة ومن نوقش هلك

- ‌(9) باب حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات وصفة أهل الجنة وصفة أهل النار

- ‌(10) باب في صفة الجنة وما أعد الله فيها

- ‌(11) باب في غرف الجنة وتربتها وأسواقها

- ‌(12) باب في الجنة أكل وشرب ونكاح حقيقة ولا قذر فيها ولا نقص

- ‌(13) باب في حسن صورة أهل الجنة وطولهم وشبابهم وثيابهم وأن كل ما في الجنة دائم لا يفنى

- ‌(14) باب في خيام الجنة وما في الدنيا من أنهار الجنة

- ‌(15) باب في صفة جهنم وحرها وأهوالها وبعد قعرها، أعاذنا الله منها

- ‌(16) باب تعظيم جسد الكافر وتوزيع العذاب بحسب أعمال الأعضاء

- ‌(17) باب ذبح الموت وخلود أهل الجنة وأهل النار

- ‌(18) باب محاجة الجنة والنار

- ‌(19) باب شهادة أركان الكافر عليه يوم القيامة وكيف يحشر

- ‌(20) باب أكثر أهل الجنة وأكثر أهل النار

- ‌(21) باب لكل مسلم فداء من النار من الكفار

- ‌(22) باب آخر من يخرج من النار وآخر من يدخل الجنة وما لأدنى أهل الجنة منزلة وما لأعلاهم

- ‌(41) كتاب الفتن وأشراط الساعة

- ‌(1) باب إقبال الفتن ونزولها كمواقع القطر ومن أين تجيء

- ‌(2) باب الفرار من الفتن وكسر السلاح فيها وما جاء: أن القاتل والمقتول في النار

- ‌(3) باب لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، وحتى يكثر الهرج وجعل بأس هذه الأمة بينها

- ‌(4) باب إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون إلى قيام الساعة

- ‌(5) باب في الفتنة التي تموج موج البحر وفي ثلاث فتن لا يكدن يذرن شيئا

- ‌(6) باب ما فتح من ردم يأجوج ومأجوج، ويغزو البيت جيش فيخسف به

- ‌(7) باب لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب، وحتى يمنع أهل العراق ومصر والشام ما عليهم

- ‌(8) باب لا تقوم الساعة حتى تفتح قسطنطينية، وتكون ملحمة عظيمة، ويخرج الدجال ويقتله عيسى ابن مريم

- ‌(9) باب تقوم الساعة والروم أكثر الناس وما يفتح للمسلمين مع ذلك

- ‌(10) باب الآيات العشر التي تكون قبل الساعة وبيان أولها

- ‌(11) باب: أمور تكون بين يدي الساعة

- ‌(12) باب الخليفة الكائن في آخر الزمان وفيمن يهلك أمة النبي صلى الله عليه وسلم وتقتل عمارا الفئة الباغية وإخماد الفتنة الباغية ولتفنى كنوز كسرى في سبيل الله

- ‌(13) باب ما ذكر من أن ابن صياد: الدجال

- ‌(14) باب في صفة الدجال وما يجيء معه من الفتن

- ‌(15) باب: في هوان الدجال على الله تعالى وأنه لا يدخل مكة والمدينة ومن يتبعه من اليهود

- ‌(16) باب حديث الجساسة وما فيه من ذكر الدجال

- ‌(17) باب كيف يكون انقراض هذا الخلق وتقريب الساعة وكم بين النفختين

- ‌(18) باب المبادرة بالعمل الصالح والفتن وفضل العبادة في الهرج

- ‌(19) باب إغراء الشيطان بالفتن

- ‌(20) باب في قوله عليه الصلاة والسلام: لتتبعن سنن الذين من قبلكم، وهلك المتنطعون آخر الفتن

- ‌(42) كتاب التفسير

- ‌(1) باب من فاتحة الكتاب

- ‌(2) ومن سورة البقرة

- ‌(3) ومن سورة آل عمران

- ‌(4) ومن سورة النساء

- ‌(5) ومن سورة العقود

- ‌(6) ومن سورة الأنعام

- ‌(7) ومن سورة الأعراف

- ‌(8) ومن سورة الأنفال وبراءة

- ‌(9) ومن سورة إبراهيم

- ‌(10) ومن سورة الحجر

- ‌(11) ومن سورة الإسراء

- ‌(12) ومن سورة الكهف

- ‌(13) ومن سورة مريم

- ‌(14) ومن سورة الأنبياء

- ‌(15) ومن سورة الحج

- ‌(16) ومن سورة النور

- ‌(17) ومن سورة الفرقان

- ‌(18) ومن سورة الشعراء

- ‌(19) ومن سورة: الم السجدة

- ‌(20) ومن سورة الأحزاب

- ‌(21) ومن سورة تنزيل

- ‌(22) ومن سورة حم السجدة

- ‌(23) ومن سورة الدخان

- ‌(24) ومن سورة الحجرات

- ‌(25) ومن سورة ق

- ‌(26) ومن سورة القمر

- ‌(27) ومن سورة الحديد والحشر

- ‌(28) ومن سورة المنافقين

- ‌(29) باب: من أخبار المنافقين

- ‌(30) ومن سورة التحريم

- ‌(31) ومن سورة الجن

- ‌(32) ومن سورة المدثر

- ‌(33) ومن سورة القيامة

- ‌(34) ومن سورة الأخدود

- ‌(35) ومن سورة الشمس وضحاها

- ‌(36) ومن سورة الليل

- ‌(37) ومن سورة الضحى

- ‌(38) ومن سورة اقرأ باسم ربك

- ‌(39) ومن سورة النصر

الفصل: ‌(14) باب في صفة الدجال وما يجيء معه من الفتن

(14) باب في صفة الدجال وما يجيء معه من الفتن

[2828]

عَن حُذَيفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَأَنَا أَعلَمُ بِمَا مَعَ الدَّجَّالِ مِنهُ، مَعَهُ نَهرَانِ يَجرِيَانِ، أَحَدُهُمَا رَأيَ العَينِ مَاءٌ أَبيَضُ، وَالآخَرُ رَأيَ العَينِ نَارٌ تَأَجَّجُ،

ــ

(14 و 15) ومن باب: صفة الدجال (1)

(قوله: لأنا أعلم بما مع الدجال منه) هذا جواب قسم محذوف؛ أي: والله لأنا أعلم؛ أي: أن الدجال لا يعلم حقيقة ما معه من الجنة والنار، ولا من النهرين؛ أي أنه يظنهما كما يراهما غيره، فيظن جنته جنة وماءه ماء، وحقيقة الأمر على الخلاف من ذلك، فيكون قد لبس عليه فيهما، والنبي صلى الله عليه وسلم قد علم حقيقة كل واحد منهما، ولذلك بينه، فقال: ناره ماء بارد. وفي اللفظ الآخر: فجنته نار وناره جنة وهذا الكلام رواه مسلم عن حذيفة من قول النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الطريق، وقد رواه من طريق أخرى موقوفا على حذيفة من قوله، وقد رواه أبو داود من حديث ربعي بن خراش قال: اجتمع حذيفة وأبو مسعود، فقال حذيفة: لأنا أعلم بما مع الدجال منه (2).

و(قوله: رأي العين) منصوب على الظرف؛ أي: حين رأي العين، أو في رأي العين، ويصح أن يقال فيه: إنه مصدر صدره محذوف، تقديره: تراه رأي العين. وكل ما يظهره الله على يدي الدجال من الخوارق للعادة محن امتحن الله بها عباده، وابتلاء ابتلاهم به، ليتميز أهل التنزيه والتوحيد بما يدل عليه العقل السديد

(1) شرح المؤلف رحمه الله تحت هذا العنوان هذا الباب والذي يليه، وهو باب: في هَوان الدجال على الله تعالى.

(2)

رواه أبو داود (4315).

ص: 273

فَإِمَّا أَدرَكَنَّ أَحَدٌ فَليَأتِ النَّهرَ الَّذِي يَرَاهُ نَارًا، وَليُغَمِّض ثُمَّ ليُطَأطِئ رَأسَهُ فَيَشرَبَ مِنهُ، فَإِنَّهُ مَاءٌ بَارِدٌ، وَإِنَّ الدَّجَّالَ مَمسُوحُ العَينِ، عَلَيهَا ظَفَرَةٌ غَلِيظَةٌ، مَكتُوبٌ بَينَ عَينَيهِ كَافِرٌ، يَقرَؤُهُ كُلُّ مُؤمِنٍ، كَاتِبٍ وَغَيرِ كَاتِبٍ.

وفي رواية: الدجال أعور العين اليسرى

ــ

من استحالة الإلهية على ذوي الأجسام، وإن أتوا على دعواهم بأمثال تلك الطوام، أو ليغتر أهل الجهل باعتقاد التجسيم، حتى يوردهم ذلك نار الجحيم. وفتنة الدجال من نحو فتنة أهل المحشر بالصورة الهائلة التي تأتيهم فتقول لهم: أنا ربكم، فيقول المؤمنون: نعوذ بالله منك، كما تقدَّم في الإيمان. ومقتضى روايتي حذيفة: أن معه نهرين وجنتين، وأنهما مختلفتان في المعنى واللفظ لأن النهر لا يقال عليه جنة، ولا الجنة يقال عليها نهر. هذا هو الظاهر، ويحتمل أن يقال: إن ذينك النهرين في جنة ونار، فحسن أن يعبر بأحدهما عن الآخر.

و(قوله: فإما أدركن ذلك أحدكم) كذا الرواية عند جميع الشيوخ، والصواب: إسقاط النون، لأنه فعل ماض، وإنما تدخل هذه النون على الفعل المستقبل كقوله:{فَإِمَّا نَذهَبَنَّ بِكَ} و {فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى} ونحوه كثير.

و(قوله: الدجال ممسوح العين عليها ظفرة غليظة) هي بالظاء المعجمة والفاء، وهما مفتوحتان، وهي جلدة تغشي العين، إن لم تقطع غشيت العين. ومعنى ممسوح العين؛ أي: مطموس ضوؤها وإدراكها، فلا يبصر بها شيئًا.

و(قوله: الدجال أعور العين اليسرى) الأعور: هو الذي أصابه في عينه عور، وهو العيب الذي يذهب إدراكها، وهكذا صح في حديث حذيفة: اليسرى، وقد صح من حديت ابن عمر مرفوعا أنه أعور عينه اليمنى، كأنها عنبة

ص: 274

جفال الشعر، معه جنة ونار، فناره جنة وجنته نار.

رواه أحمد (2/ 383 و 386)، ومسلم (2934)(104 و 105).

[2829]

وعَن النَّوَّاسِ بنِ سَمعَانَ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الدَّجَّالَ

ــ

طافية، ورواه الترمذي (1) أيضًا وصححه، وهذا اختلاف يصعب الجمع فيه بينهما، وقد تكلف القاضي أبو الفضل الجمع بينهما، فقال: جمع الروايتين عندي صحيح، وهو أن كل واحدة منهما عوراء من وجه ما؛ إذ العور في كل شيء: العيب، والكلمة العوراء: هي المعيبة. فالواحدة عوراء بالحقيقة، وهي التي وصفت في الحديث بأنها ليست جحراء، ولا ناتئة، وممسوحة ومطموسة. وطافئة - على رواية الهمز - والأخرى عوراء لعيبها اللازم لها لكونها جاحظة، أو كأنها كوكب، أو كأنها عنبة طافية -بغير همز- وكل واحدة منهما يصح فيها الوصف بالعور بحقيقة العرف والاستعمال، أو بمعنى العور الأصلي الذي هو العيب.

قلت: وحاصل كلامه: أن كل واحدة من عيني الدجال عوراء. إحداهما بما أصابها حتى ذهب إدراكها، والثانية عوراء بأصل خلقتها معيبة. لكن يُبعد هذا التأويل: أن كل واحدة من عينيه قد جاء وصفها في الروايات بمثل ما وصفت به الأخرى من العور، فتأمله، فإنَّ تتبع تلك الألفاظ يطول.

و(قوله: جفال الشعر) أي: كثيره. قال ذو الرمة يصف شعر امرأة:

وأسود كالأساود مُسبَكِرًّا (2)

على المتنين مُنسدلا جُفالا

وشعر الدجال مع كثرته جعد قطط، وهو الشديد الجعودة، الذي لا يمتد إلا باليد، كشعور السودان، وفي القطط لغتان: الفتح والكسر في الطاء الأولى.

(1) رواه الترمذي (2241).

(2)

مُسْبَكِرًّا: منسدلًا مسترسلًا. والأساود: الحيَّات.

ص: 275

ذَاتَ غَدَاةٍ، فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخلِ، فَلَمَّا رُحنَا إِلَيهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا، فَقَالَ: مَا شَأنُكُم؟ قُلنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً فَخَفَّضتَ فِيهِ وَرَفَّعتَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخلِ، فَقَالَ: غَيرُ الدَّجَّالِ أَخوَفُنِي عَلَيكُم، إِن يَخرُج وَأَنَا فِيكُم فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُم، وَإِن يَخرُج وَلَستُ فِيكُم فَامرُؤٌ حَجِيجُ نَفسِهِ،

ــ

و(قوله: فخفض فيه ورفع) بتخفيف الفاء، أي: أكثر من الكلام فيه، فتارة يرفع صوته ليسمع من بعد، وتارة يخفض ليستريح من تعب الإعلان، وهذه حالة المكثر من الكلام. وقيل: معناه: فحقره وصغره، كما قال: هو أهون على الله من ذلك وتارة عظمه، كما قال: ليس بين يدي الساعة خلق أكبر من الدجال والأول أسبق إلى الفهم، وقد روي ذلك اللفظ: فخفض فيه ورفع مشدد الفاء، وهي للتضعيف والتكثير.

و(قوله: غير الدجال أخوفني عليكم) بنون الوقاية عند الجماعة، وهو وجه الكلام، وقد روي عن أبي بحر: أخوفي - بغير نون - وهي قليلة، حكاها ثابت، وقد وقع في الترمذي: أخوف لي.

قلت: وهو وجه الكلام، وفيه اختصار؛ أي: غير الدجال أخوف لي عليكم من الدجال، فحذف للعلم به.

و(قوله: إن يخرج وأنا فيكم، فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم، فامرؤ حجيج نفسه) هذا الكلام يدلّ: على أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يتبين له وقت خروجه، غير أنه كان يتوقعه ويقربه، وكذلك كان يقرب أمره حتى يظنوا أنه في النخل القريب منهم. وحجيجه: محاجه ومخاصمه، وقاطعه بالحجَّة بإظهار كذبه وإفساد قوله.

و(قوله: فامرؤ حجيج نفسه) أي: ليحتج كل امرئ عن نفسه بما أعلمته

ص: 276

وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ.

إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ، عَينُهُ طَافِئَةٌ، كَأَنِّي أُشَبِّهُهُ بِعَبدِ العُزَّى بنِ قَطَنٍ، فَمَن

ــ

من صفته، وبما يدلّ العقل عليه من كذبه في دعوى الإلهية، وهو خبر بمعنى الأمر، وفيه التنبيه على النظر عند المشكلات، والتمسك بالأدلة الواضحات.

و(قوله: والله خليفتي على كل مسلم) هذا منه صلى الله عليه وسلم تفويض إلى الله تعالى في كفاية كل مسلم من تلك الفتن العظيمة، وتوكل عليه في ذلك، ولا شك في أن من صح إسلامه في ذلك الوقت، أنه يُكفى تلك الفتن لصدق النبي صلى الله عليه وسلم في توكله وصحته، لضمان الله تعالى كفاية من توكل عليه، بقوله:{وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسبُهُ} أي: كافيه مشقة ما توكل عليه فيه، وموصله إلى ما يصلحه منه، ومع هذا فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يقرؤه على الدجال، فيؤمّن من فتنته، وذلك عشر آيات من أول سورة الكهف، أو من آخرها، على اختلاف الرواية في ذلك. والاحتياط والحزم يقتضي: أن يقرأ عشرا من أولها، وعشرا من آخرها، على أنه قد روى أبو داود من حديث النواس: فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف فإنَّها جوار لكم من فتنته (1).

و(قوله: عنبة طافئة) رويناه بالهمز، وصححناه على من يوثق بعلمه، وقد سمعناه بغير همز، وبالوجهين ذكره القاضي أبو الفضل، فقال: هو اسم فاعل من طُفئت النار، تُطفأ، فهي طافئة، وانطفأت فهي منطفئة، وأطفأتها أنا: فهي مطفأة. فكأن عينه كانت تنير كالسراج فانطفأت؛ أي: ذهب نورها، وهذا المعنى في هذه الرواية التي لم يذكر فيها عنبة واضح، ويبعد فيها ترك الهمز، وأما الرواية التي فيها: كأنها عنبة طافية فالأولى ترك الهمز، فإنَّه شبهها في استدارتها وبروزها كحبة العنب، وهو اسم فاعل من طفا يطفو: إذا علا، غير مهموز، فهي طافية،

(1) رواه أبو داود (4321).

ص: 277

أَدرَكَهُ مِنكُم فَليَقرَأ عَلَيهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الكَهفِ؛ إِنَّهُ خَارِجٌ حَلَّةً بَينَ الشَّامِ وَالعِرَاقِ،

ــ

أي: قائمة جاحظة، كما جاء في بعض ألفاظ الحديث. وقد روى أبو داود من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إني قد حدثتكم عن الدجال حتى خشيت ألا تغفلوا، إن المسيح الدجال رجل قصير أفحج، جعد أعور مطموس العين، ليست بناتئة، ولا جحراء (1). وهذا الحديث يقتضي أن عينه ليست بالفاحشة النتوء والجحوظ، ولا غائرة حتى كأنها في جحر؛ بل: متوسطة بحيث يصدق عليها أنها قائمة وجاحظة، والله تعالى أعلم. وقد زاد عبادة في هذا الحديث من أوصافه أنه قصير أفحج، والفحج: تباعد ما بين الساقين.

و(قوله: إنه خارج حلة بين الشام والعراق) رويته وقيدته بفتح الحاء المهملة، وتشديد اللام، وهي رواية السجزي، وقيل معنى ذلك: قبالة وسمت. وفي كتاب العين: والحلة: موضع حزن وضمور، وسقطت هذه الكلمة من رواية العذري. وروي عن ابن الحذاء: حلُّه بضم اللام وهاء الضمير، أي: نزوله وحلوله، وكذا في كتاب التميمي، وهكذا ذكره الحميدي، ورواه الهروي في غريبه: خَلّة: بالخاء المعجمة مفتوحة، وتشديد اللام، وفسره بأنه ما بين البلدتين، قال غيره: هو الطريق في الرمل، ويجمع: خلٌّ.

قلت: وقد روى الترمذي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها: خراسان، يتبعه أفواج (2)، كأن وجوههم المجان المطرقة (3). قال: وفي الباب عن

(1) رواه أبو داود (4320).

(2)

في (ز): أقوام.

(3)

رواه الترمذي (2237).

ص: 278

فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا، يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثبُتُوا، قُلنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا لَبثُهُ فِي الأَرضِ؟ قَالَ: أَربَعُونَ يَومًا، يَومٌ كَسَنَةٍ وَيَومٌ كَشَهرٍ وَيَومٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُم، قُلنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَلِكَ

ــ

أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما وهذا حديث حسن غريب، ووجه الجمع بين هذا وبين الذي قبله: أن مبتدأ خروج الدجال من خراسان، ثم يخرج إلى الحجاز فيما بين العراق والشام، والله تعالى أعلم.

و(قوله: عاث يمينا وعاث شمالا) رويناه بالعين المهملة والثاء المثلثة مفتوحة غير منونة على أنه فعل ماض، وبكسرها وتنوينها على أنه اسم فاعل. وهو بمعنى الفساد. يقال: عثا في الأرض يعثو: أفسد، وكذلك عَثِي - بالكسر- يعثي. قال الله تعالى:{وَلا تَعثَوا فِي الأَرضِ مُفسِدِينَ}

و(قوله: يا عباد الله اثبتوا) هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم يأمر من لقي الدجال أن يثبت ويصبر؛ فإنَّ لبثه في الأرض قليل على ما يأتي، وأما من سمع به ولم يلقه فليبعد عنه، وليفر بنفسه، كما خرجه أبو داود من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات، أو: لما يبعث به من الشبهات (1).

و(قوله: يا رسول الله، وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم) ظاهر هذا: أن الله تعالى يخرق العادة في تلك الأيام، فيبطئ بالشمس عن حركتها المعتادة في أول يوم من تلك الأيام، حتى يكون أول يوم كمقدار سنة معتادة، ويبطئ بالشمس حتى يكون كمقدار شهر، والثالث حتى يكون كمقدار جمعة، وهذا ممكن، لا سيما وذلك

(1) رواه أبو داود (4319).

ص: 279

اليَومُ الَّذِي كَسَنَةٍ أَتَكفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَومٍ؟ قَالَ: لَا، اقدُرُوا لَهُ قَدرَهُ، قُلنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا إِسرَاعُهُ فِي الأَرضِ؟ قَالَ: كَالغَيثِ استَدبَرَتهُ الرِّيحُ،

ــ

الزمان تنخرق فيه العوائد كثيرا، لا سيما على يدي الدجال. وقد تأوله أبو الحسين ابن المنادي على ما حكاه أبو الفرج الجوزي فقال: المعنى: يهجم عليكم غم عظيم لشدة البلاء، وأيام البلاء طوال، ثم يتناقص ذلك الغم في اليوم الثاني، ثم يتناقص في الثالث، ثم يعتاد البلاء، كما يقول الرجل: اليوم عندي سنة، كما قال:

وليل المحب بلا آخر

قال أبو الفرج: وهذا التأويل يرده قولهم: أتكفينا فيه صلاة يوم وليلة؟ قال: لا، اقدروا له قدره والمعنى: قدروا الأوقات للصلاة، غير أن أبا الحسين بن المنادي قد طعن في صحة هذه اللفظات. أعني قولهم: أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره فقال: هذا عندنا من الدسائس التي كادنا بها ذوو الخلاف علينا قديما، ولو كان ذلك صحيحا لاشتهر على ألسنة الرواة، كحديث الدجال؛ فإنَّه قد رواه ابن عباس، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وحذيفة، وعبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، وسمرة بن جندب، وأبو هريرة، وأبو الدرداء، وأبو مسعود البدري، وأنس بن مالك، وعمران بن حصين، ومعاذ بن جبل، ومجمع بن جارية رضي الله عنهم في آخرين، ولو كان ذلك لقوي اشتهاره، ولكان أعظم وأقطع من طلوع الشمس من مغربها.

قلت: هذه الألفاظ التي أنكرها هذا الرجل صحيحة في حديث النواس، خرجها الترمذي من حديث النواس، وذكر الحديث بطوله نحوا مِمَّا خرجه مسلم، وقال في الحديث: حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وقد خرجه أبو داود، وأيضًا من حديث عبد الرحمن بن يزيد المذكور، وذكر طرفا من الحديث ولم يذكره بطوله، فصح الحديث عند هؤلاء الأئمة، وانفراد الثقة بالحديث لا يخرم الثقة به؛ لأنَّه قد يسمع

ص: 280

فَيَأتِي عَلَى القَومِ فَيَدعُوهُم فَيُؤمِنُونَ بِهِ وَيَستَجِيبُونَ لَهُ، فَيَأمُرُ السَّمَاءَ فَتُمطِرُ وَالأَرضَ فَتُنبِتُ، فَتَرُوحُ عَلَيهِم سَارِحَتُهُم أَطوَلَ مَا كَانَت ذُرًا وَأَسبَغَهُ ضُرُوعًا وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ، ثُمَّ يَأتِي القَومَ فَيَدعُوهُم فَيَرُدُّونَ عَلَيهِ قَولَهُ، فَيَنصَرِفُ عَنهُم فَيُصبِحُونَ مُمحِلِينَ لَيسَ بِأَيدِيهِم شَيءٌ مِن أَموَالِهِم،

ــ

ما لا تسمعه الجماعة في وقت لا يحضر غيره، وكم يوجد من ذلك في الأحاديث، وقد رواه قاسم بن أصبغ (1) من حديث جابر بن عبد الله على ما يأتي. وتطريق إدخال المخالفين الدسائس على أهل العلم والتحرز والثقة، بعيد لا يلتفت إليه؛ لأنَّه يؤدي إلى القدح في أخبار الآحاد، وإلى خرم الثقة بها، مع أن ما تضمنته هذه الألفاظ أمور ممكنة الوقوع في زمان خرق العادات، كسائر ما جاء مما قد صح وثبت من خوارق العادات التي تظهر على يدي الدجال، مما تضمنه هذا الحديث وغيره، فلا معنى لتخصيص هذه الألفاظ بالإنكار، والكل ظنون مستندة إلى أخبار العدول، والله أعلم بحقائق الأمور.

قال القاضي في قوله: اقدروا له هذا حكم مخصوص بذلك اليوم شرعه لنا صاحب الشرع، ولو وكلنا فيه لاجتهادنا لكانت الصلاة فيه عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام.

و(قوله: فتغدو عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا، وأسبغه ضروعا) تغدو: تبكر. والسارحة: المواشي التي تخرج للسرح، وهو الرعي، كالإبل والبقر والغنم. والذرا: جمع ذروة، وهي الأسنمة، وأسبغه: أطوله ضروعا لكثرة اللبن. وأمده خواصر: لكثرة أكلها، وخصب مرعاها.

و(قوله: فيصبحون ممحلين) وفي بعض الروايات: آزلين، والمحل والأزل، والقحط، والجدب، كلها واحد، والله تعالى أعلم. ويعاسيب النحل:

(1) قاسم بن أصبَغ: هو مُحدث الأندلس، سكن قرطبة ومات فيها سنة (340 هـ).

ص: 281

وَيَمُرُّ بِالخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا: أَخرِجِي كُنُوزَكِ، فَتَتبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحلِ، ثُمَّ يَدعُو رَجُلًا مُمتَلِئًا شَبَابًا فَيَضرِبُهُ بِالسَّيفِ فَيَقطَعُهُ جَزلَتَينِ رَميَةَ الغَرَضِ، ثُمَّ يَدعُوهُ فَيُقبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجهُهُ يَضحَكُ، فَبَينَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذ بَعَثَ اللَّهُ المَسِيحَ ابنَ مَريَمَ فَيَنزِلُ عِندَ المَنَارَةِ البَيضَاءِ شَرقِيَّ دِمَشقَ بَينَ مَهرُودَتَينِ، وَاضِعًا كَفَّيهِ عَلَى أَجنِحَةِ مَلَكَينِ،

ــ

فُحولها، واحدها: يعسوب، وقيل: أمراؤها، ووجه التشبيه أن يعاسيب النحل يتبع كل واحد منهم طائفة من النحل، فتراها جماعات في تفرقة، فالكنوز تتبع الدجال كذلك.

و(قوله: فيقطعه جزلتين رمية الغرض) هو بفتح الجيم، وحكاه ابن دريد بكسرها.

قلت: والأولى الفتح؛ لأن جزلتين هنا مصدر ملاق في المعنى ليقطعه، فكأنه قال: قطعه قطعتين، أو جزله جزلتين، وجزلة مصدر محدود بجزل جزلا وجزلة، ويجوز الكسر على أنه اسم. يعني قسمه قطعتين وفرقتين، رمية الغرض، منصوب نصب المصدر؛ أي: كرمية الغرض في السرعة والإصابة. وقيل: جعل بين القطعتين مثل رمية الغرض، وفيه بعد. والأول أشبه.

و(قوله: بين مهرودتين) الرواية الصحيحة بالدال المهملة والتاء، باثنتين من فوقها، وبعض المحدثين يقولها بالذال المعجمة، وحكى ابن الأنباري أنها تقال بهما، والمعروف الأول. في الصحاح: هردت الثوب: شققته، والهِردى على وزن فِعلى، بكسر الهاء: نبت يصبغ به، وثوب مهرود؛ أي: صُبغ أصفر.

ولما كان هذا هو المعروف في اللغة اختلف الشارحون لهذا اللفظ في هذا الحديث، فقيل: إن عيسى عليه السلام ينزل في شقتي ثوب، والشقة نصف الملاءة، أو في حلتين، مأخوذ من الهرد، وهو القطع والشق. وقال أكثرهم: في

ص: 282

إِذَا طَأطَأَ رَأسَهُ قَطَرَ

ــ

ثوبين مصبوغين بالصفرة، وكأنه الذي صبغ بالهردى. وقد اجترأ القتبي، وخطأ النَّقَلة في هذا اللفظ، وقال: هو عندي خطأ من النَّقَلة، وأراه مهرُوَّتَين، يقال: هريت العمامة: إذا لبستها صفراء، وكأن فعلت منه: هروت، وأنشدوا عليه:

رأيتك هريت العمامة بعدما

أراك زمانا حاسرا لم تعصب

قال: إنما أراد أنك لبست العمامة صفراء كما يلبسها السادة، وكان السيد يعتم بعمامة صفراء، ولا يكون ذلك لغيره.

قلت: لقد صدق من قال في ابن قتيبة: هَجوم وَلاج على ما لا يحسن. وقد خطئ ابنُ قتيبة فيما خطّأ فيه الثقاتِ وأهلَ التقييد والتثبت والعلم من وجهين:

أحدهما: حكمه بالخطأ وجرأته (1) به على الأئمة الحفاظ الثقات العلماء، فكان حقه أن يتوقف إذ لم يجد محملا لتلك اللفظة على النحو المروي.

وثانيهما: إن ما استدل به لا حجَّة فيه، لوجهين قد أشار إليهما أبو بكر فيما حكاه الإمام أبو عبد الله عنه. فقال: ما قاله خطأ؛ لأنَّ العرب لا تقول: هروت الثوب، لكن هريت، ولا يقال أيضًا: هريت، إلا في العمامة خاصة، فليس له أن يقيس على العمامة؛ لأنَّ اللغة رواية.

قلت: والأصح: قول الأكثر، ويشهد له ما قد وقع في بعض الروايات بدل مهرودتين: ممصرتين والممصرة من الثياب هي المصبوغة بالصفرة، والله تعالى أعلم.

و(قوله: إذا طأطأ رأسه قطر) أي: إذا خفض رأسه سال منه ما يعني به العرق. وهذا نحو مما قال في الحديث الذي تقدم: يقطر رأسه ماء، كأنما خرج من ديماس (2) يعني: الحمام.

(1) في (م 4): وجزمه.

(2)

رواه مسلم (168).

ص: 283

وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنهُ جُمَانٌ كَاللُّؤلُؤِ، فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنتَهِي حَيثُ يَنتَهِي طَرفُهُ، فَيَطلُبُهُ حَتَّى يُدرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقتُلُهُ، ثُمَّ يَأتِي عِيسَى ابنَ مَريَمَ قَومٌ قَد عَصَمَهُم اللَّهُ مِنهُ فَيَمسَحُ عَن وُجُوهِهِم وَيُحَدِّثُهُم بِدَرَجَاتِهِم فِي الجَنَّةِ، فَبَينَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذ أَوحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى:

ــ

و(قوله: إذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ) الجمان: ما استدار من اللؤلؤ والدر، ويستعار لكل ما استدار من الحلي، قاله أبو الفرج الجوزي. شبه قطرات العرق بمستدير الجوهر، وهو تشبيه واقع.

و(قوله: فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات) الرواية: لا يحل، بكسر الحاء، معناه: يحق ويجب، وهو من نحو قوله تعالى:{وَحَرَامٌ عَلَى قَريَةٍ أَهلَكنَاهَا أَنَّهُم لا يَرجِعُونَ} أي: واجب ذلك ولازم، وقيل: معناه: لا يمكن، وفي بعض الروايات عن ابن الحذاء: فلا يحل لكافر يجد نفس ريحه، ووجهه بين، وأما من رواه يحُل - بضم الحاء - فليس بشيء، إلا أن يكون بعده: بكافر، بالباء، فيكون له وجه.

و(قوله: ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه) نفسه - بفتح الفاء - وطرفه - بسكون الراء - وهو عينه، ويعني بذلك أن الله تعالى قوّى نفس عيسى عليه السلام حتى يصل إلى المحل الذي يصل إليه إدراك بصره، فمعناه: أن الكفار لا يقربونه، وإنَّما يهلكون عند رؤيته ووصول نفسه إليهم، تأييد من الله له وعصمة، وإظهار كرامة ونعمة.

و(قوله: فيمسح عن وجوههم) يعني التي بالنون، لا التي باللام؛ أي: يزيل عن وجوههم بمسحه ما أصابها من غبار سفر الغزو ووعثائه؛ مبالغة في إكرامهم وفي اللطف بهم، والتحفي بهم. وقيل: معناه يكشف ما نزل بهم من الخوف والمشقات، والأولى: الحقيقة، وهذا توسع.

ص: 284

إِنِّي قَد أَخرَجتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِم، فَحَرِّز عِبَادِي إِلَى الطُّورِ، وَيَبعَثُ اللَّهُ يَأجُوجَ وَمَأجُوجَ وَهُم مِن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ، فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُم عَلَى بُحَيرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُم فَيَقُولُونَ: لَقَد كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ، وَيُحصَرُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأسُ الثَّورِ لِأَحَدِهِم خَيرًا مِن مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُم اليَومَ، فَيَرغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصحَابُهُ، فَيُرسِلُ اللَّهُ عَلَيهِم النَّغَفَ فِي رِقَابِهِم فَيُصبِحُونَ فَرسَى كَمَوتِ نَفسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهبِطُ

ــ

و(قوله: إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم) أي: لا قدرة لأحد على قتال يأجوج ومأجوج. يقال: لا يد لفلان بهذا الأمر؛ أي: لا قوة.

و(قوله: فحرز عبادي إلى الطور) هذه الرواية الصحيحة بالزاي؛ أي ارتحل بهم إلى جبل يحرزون فيه أنفسهم، والطور: الجبل بالسريانية. ويحتمل أن يكون ذلك هو طور سيناء، وقد رواه بعضهم: حوز، بالواو، ولم تقع لنا هذه الرواية، ومعناها واضح، وهو بمعنى الأولى.

و(قوله: ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون) قد تقدم القول في يأجوج ومأجوج في أول كتاب الفتن. والحدب: النشز من الأرض، وهي الآكام والكداء. وينسلون: من النسلان، وهي مقاربة الخطو مع الإسراع، كمشي الذئب إذا بادر، قاله القتبي. وقال الزجاج: ينسلون: يسرعون. والنغف - جمع نغفة - وهو بفتح النون والغين المعجمة، وهي دود يكون في أنوف الإبل والغنم، وهي وإن كانت محتقرة، فإتلافها شديد، ويقال للرجل الحقير: ما أنت إلا نغفة.

و(قوله: فيصبحون فرسى) أي هلكى قتلى، مِن فَرَسَ الذئبُ الشاةَ: إذا قتلها. والفريسة منه. والزهم، بفتح الهاء: النتن والرائحة الكريهة. وأصله: ما يعلق باليد من ريح اللحم. والبخت: إبل غلاظ الأعناق، عظام الأسنام.

ص: 285

نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصحَابُهُ إِلَى الأَرضِ فَلَا يَجِدُونَ فِي الأَرضِ مَوضِعَ شِبرٍ إِلَّا مَلَأَهُ زَهَمُهُم وَنَتنُهُم، فَيَرغَبُ عِيسَى وَأَصحَابُهُ إِلَى اللَّهِ، فَيُرسِلُ اللَّهُ طَيرًا كَأَعنَاقِ البُختِ، فَتَحمِلُهُم فَتَطرَحُهُم حَيثُ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُرسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لَا يَكُنُّ مِنهُ بَيتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ، فَيَغسِلُ الأَرضَ حَتَّى يَترُكَهَا كَالزَّلَفَةِ، ثُمَّ يُقَالُ

ــ

و(قوله: لا يكن منه بيت مدر، ولا وبر) أي: لا يستر من ذلك المطر لكثرته بيت مبني بالطين، ولا بيت شعر ولا وبر.

و(قوله: حتى يتركها كالزلفة) الرواية بفتح الزاي واللام، وقيدته بالفاء والقاف معا، وكذلك روي عن الأسدي، وزاد فتح اللام وسكونها، فبالقاف: هي الأرض الملساء التي لا شيء فيها، ومنه قوله:{فَتُصبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} وبالفاء: هي المصنعة الممتلئة، والجمع زلف، ومنه قول الراجز:

من بعد ما كانت ملاء كالزلف

وهي المصانع، والمعروف فيها فتح اللام. غير أن أبا زيد الأنصاري قال: يقال للمرآة: زلفة وزلقة بالقاف: الجماعة. والقحف: أعلى الجمجمة، وهي المحتوية على الدماغ. هذا أصله، واستعارة هنا للرمانة للشبه الذي بينهما. واللقحة - بفتح اللام - التي تحتلب من النوق. هذا أصلها، وقد قيلت هنا على التي تحتلب من البقر والغنم. والفئام: الجماعة من الناس، وهو بكسر الفاء. والفخذ دون القبيلة وفوق البطن. قال الزبير بن بكار: العرب على ست طبقات: شعب، وقبيلة، وعمارة، وبطن، وفخذ، وفصيلة، وما بينهما من الآباء، فإنَّها يعرفها أهلها، وسميت بالشعوب؛ لأنَّ القبائل تتشعب منها وسميت القبائل بذلك؛ لأنَّ العمائر تقابلت عليها، فالشعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطون تجمع الأفخاذ. قال ابن فارس: لا يقال في فخذ النسب إلا بسكون الخاء، بخلاف الجارحة، تلك يقال بكسر الخاء وسكونها، وبكسر الفاء أيضًا. وجبل الخمَر، بفتح الميم، وهو جبل بيت المقدس. والخمر:

ص: 286

لِلأَرضِ: أَنبِتِي ثَمَرَتَكِ وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَومَئِذٍ تَأكُلُ العِصَابَةُ مِن الرُّمَّانَةِ وَيَستَظِلُّونَ بِقِحفِهَا، وَيُبَارَكُ فِي الرِّسلِ حَتَّى أَنَّ اللِّقحَةَ مِن الإِبِلِ لَتَكفِي الفِئَامَ مِن النَّاسِ، وَاللِّقحَةَ مِن البَقَرِ لَتَكفِي القَبِيلَةَ مِن النَّاسِ، وَاللِّقحَةَ مِن الغَنَمِ لَتَكفِي الفَخِذَ مِن النَّاسِ، فَبَينَمَا هُم كَذَلِكَ إِذ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأخُذُهُم تَحتَ آبَاطِهِم، فَتَقبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤمِنٍ وَكُلِّ مُسلِمٍ، وَيَبقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الحُمُرِ، فَعَلَيهِم تَقُومُ السَّاعَةُ.

زاد في أخرى بعد قوله: مرة ماء: ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخَمَر - وهو جبل بيت المقدس - فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض، هلم فلنقتل من في السماء، فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما.

رواه مسلم (2937) الفتن (110 و 111)، وأبو داود (4321 و 4322)، والترمذي (2241)، وابن ماجه (4075).

[2830]

وعن أبي سَعِيدٍ الخُدرِيَّ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَومًا حَدِيثًا طَوِيلًا عَن الدَّجَّالِ، فَكَانَ فِيمَا حَدَّثَنَا قَالَ: يَأتِي وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيهِ أَن يَدخُلَ نِقَابَ المَدِينَةِ، فَيَنتَهِي إِلَى بَعضِ السِّبَاخِ الَّتِي تَلِي المَدِينَةَ، فَيَخرُجُ

ــ

الشجر الملتف، وأنقاب المدينة: طرقها وفجاجها. وفي كتاب العين: النُّقب والنَّقب: الطريق في رأس الجبل، والنقب في الحائط وغيره: ثقب يخلص به إلى ما وراءه.

و(قوله: يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل المدينة ومكة) أي: هو ممنوع من دخول المدينة ومكة بالملائكة التي تحرسها على ما يأتي في حديث أنس المذكور بعد هذا.

ص: 287

إِلَيهِ يَومَئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيرُ النَّاسِ - أَو: مِن خَيرِ النَّاسِ - فَيَقُولُ لَهُ: أَشهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَهُ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيتُم إِن قَتَلتُ هَذَا ثُمَّ أَحيَيتُهُ أَتَشُكُّونَ فِي الأَمرِ؟ فَيَقُولُونَ: لَا، قَالَ: فَيَقتُلُهُ ثُمَّ يُحيِيهِ فَيَقُولُ حِينَ يُحيِيهِ: وَاللَّهِ مَا كُنتُ فِيكَ قَطُّ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الآنَ، قَالَ: فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَن يَقتُلَهُ فَلَا يُسَلَّطُ عَلَيهِ.

ــ

و(قول الدجال: أرأيتم إن قتلت ثم أحييته أتشكون في الأمر) أي: في دعواه الإلهية والربوبية، كما روى قاسم بن أصبغ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخرج الدجال في خفقة من الدين وإدبار من العلم، أربعون ليلة يسيحها في الأرض، يوم منها كالسنة، واليوم منها كالشهر، واليوم منها كالجمعة، ثم سائر أيامه كأيامكم هذه، وله حمار يركبه، عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعا، فيقول للناس: أنا ربكم، وهو أعور، وإن ربكم ليس بأعور، ومكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب، يرد كل ماء ومنهل إلا مكة والمدينة، وقامت الملائكة بأبوابها (1). فهذا نص في أن الدجال إنما يدعي الربوبية لا النبوة، ولو ادعاها لما صدقه الله بإبداء خارق للعادة على يديه، لاستحالة تصديق الكاذب على الله؛ لأنَّه يلزم منه تكذيب الباري تعالى، والكذب محال على الله تعالى قطعا، عقلا ونقلا، فإن قيل: فيلزم مثل هذا في دعوى الربوبية ووقوع الخارق مقرونا بدعوى المدعي للإلهية، فيكون قد صدقه بذلك كما صدق النبي إذا جاء بمثل ذلك. فالجواب: أن اقتران الخارق بدعوة الربوبية محال أن يشهد بتصديقه في دعوى الإلهية لقيام الأدلة العقلية القطعية على استحالة الإلهية عليه، التي هي: حدثه، وافتقاره، ونقصه، فهذه الأدلة العقلية دلت على كذبه في دعوى الإلهية، فلم يبق معها دلالة للأدلة الاقترانية؛ لأنَّ اقتران المعجزة بالتحدي في حق النبي إنما دل على صدقه من حيث تنزلت منزلة التصديق بالقول،

(1) رواه أحمد (3/ 367)، والحاكم (4/ 530).

ص: 288

وفي رواية: قال: فَيَأمُرُ بِهِ الدَّجَّالُ فَيُشَبَّحُ فَيَقُولُ: خُذُوهُ وَشُجُّوهُ، فَيُوسَعُ ظَهرُهُ وَبَطنُهُ ضَربًا، قَالَ: فَيَقُولُ: أَمَا تُؤمِنُ بِي؟ قَالَ: فَيَقُولُ: أَنتَ المَسِيحُ الكَذَّابُ، قَالَ: فَيُؤمَرُ بِهِ فَيُؤشَرُ بِالمِئشَارِ مِن مَفرِقِهِ حَتَّى يُفَرَّقَ بَينَ

ــ

أو منزلة قرائن الأحوال على اختلاف العلماء في ذلك. وذلك لا يحصل إلا إذا سلمت عما يشهد بنقيضها، ولم يسلم في حق الدجال؛ إذ المكذب لدعواه ملازم له عقلا، فلا دلالة لذلك الاقتران على صدقه؛ إذ لا يمكن مع وجود ما يدل على كذبه قطعا أن نقول: إن تلك الخوارق التي ظهرت على يديه تنزلت منزلة قول الله له: صدقت، كما أمكن ذلك في حق النبي الذي يسلم عما يكذبه، وحاصل هذا البحث: أن ما يدل بذاته لا يعارضه ما يدل بغير عينه. ولتفصيل هذا علم الكلام. وبما ذكرنا يُعلم قطعا: أن إظهار هذه الخوارق على يدي الدجال لم يقصد بها تصديقه، وإنما قصد بها أمر آخر، وهذا ما أخبرنا به (ل ادق صلى الله عليه وسلم أنها فتن ومحن امتحن الله بها عباده ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين. وذلك على ما سبق به علمه ونفذ به حكمه، لا يسأل عما يفعل.

و(قوله: فيأمر به الدجال فيشبح) أي: يمد، ومنه قولهم: الحرباء تشبح على الأعواد أي: تمتد. ومشهور الرواية هكذا، وقد روى السمرقندي وابن ماهان: فشجوه في رأسه بشجاج، وليس هذا بشيء؛ لأنَّه قد جاء بعده ما يبعده ويبين أن المراد خلاف ذلك.

و(قوله: فيؤمر به فيوسع ظهره وبطنه ضربا) أي: يعمم جميعه حتى لا يترك منه موضع إلا يُضربه، وهو مأخوذ من السعة والاتساع.

و(قوله: فيؤمر به فيؤشر بالمئشار) والرواية: يؤشر، بالياء، والمئشار بالهمز، وهو الصحيح المعروف، ويقال بالنون فيهما، وهذا يدلّ على أن هذا الرجل المكذب للدجال نشره الدجال بالمنشار، وقد تقدَّم في حديث النواس: أنه قطعه بالسيف جزلتين كرمية الغرض، فيحتمل أن يكون كل واحد منهما غير

ص: 289

رِجلَيهِ، قَالَ: ثُمَّ يَمشِي الدَّجَّالُ بَينَ القِطعَتَينِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: قُم، فَيَستَوِي قَائِمًا، قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: أَتُؤمِنُ بِي؟ فَيَقُولُ: مَا ازدَدتُ فِيكَ إِلَّا بَصِيرَةً، قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا يَفعَلُ بَعدِي بِأَحَدٍ مِن النَّاسِ، قَالَ: فَيَأخُذُهُ الدَّجَّالُ لِيَذبَحَهُ فَيُجعَلَ مَا بَينَ رَقَبَتِهِ إِلَى تَرقُوَتِهِ نُحَاسًا، فَلَا يَستَطِيعُ إِلَيهِ سَبِيلًا، قَالَ: فَيَأخُذُ بِيَدَيهِ وَرِجلَيهِ فَيَقذِفُ بِهِ، فَيَحسِبُ النَّاسُ أَنَّمَا قَذَفَهُ إِلَى النَّارِ، وَإِنَّمَا أُلقِيَ فِي الجَنَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَذَا أَعظَمُ النَّاسِ شَهَادَةً عِندَ رَبِّ العَالَمِينَ.

قال أبو إسحاق: إن هذا الرجل هو الخضر.

رواه أحمد (3/ 36)، والبخاريُّ (1882 و 7132)، ومسلم (2938)(112 و 113).

[2831]

وعن أبي قتادة، قال: كنا نمر على هشام بن عامر، نأتي عمران بن حصين، فقال ذات يوم: إنكم لتجاوزوني إلى رجال ما كانوا بأحضر لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا أعلم بحديثه مني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

ــ

الآخر، ويحتمل أن يكون جمعهما عليه، والأول أمكن وأظهر. والترقوة، بفتح التاء وضم القاف وتخفيف الواو: هي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق، وتجمع تراقي. ويقذفه: يرميه. ووقع في الأم: المسالح، وهم القوم الحاملون للسلاح، المستعدون للقتال، سموا بذلك لحملهم إياها، قال القاضي في آخر هذا الحديث من رواية السمرقندي: قال أبو إسحاق - يعني ابن سفيان -: يقال: إن هذا الرجل هو الخضر عليه السلام، وكذلك قال معمر في جامعه بإثر هذا الحديث.

قلت: وقد تقدَّم القول في الخضر، وفي الخلاف في طول حياته في كتاب الأنبياء.

ص: 290

يقول: ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال.

وفي رواية: أمر بدل: خلق.

رواه مسلم (2946)(126).

* * *

ــ

و(قوله: ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال) ظاهر هذا كبر الخلقة والجسم، وقد تقدَّم أنَّه يركب حمارا عرض ما بين أذنيه أربعون ذراعا، وهذا يقتضي أن يكون هذا الحمار أكبر حمار في الدنيا، فراكبه ينبغي أن يكون أكبر إنسان في الدنيا، وكذا قال تميم رضي الله عنه في خبر الجساسة: فإذا أعظم إنسان رأيناه، وسيأتي، غير أنه قد تقدَّم من حديث أبي داود في وصف الدجال: أنه قصير أفحج (1) وإنما يكون قصيرا بالنسبة إلى نوع الإنسان، فمقتضى ذلك: أن يكون فيهم من هو أطول منه، ولهذا قيل: إن وصفه بالأكبرية إنما يعني بذلك عظم فتنته، وكبر محنته؛ إذ ليس بين يدي الساعة أعظم ولا أكبر منها، ويحتمل أن يريد به: أنه ينتفخ أحيانا حتى يكون في عين الناظر إليه أكبر من كل نوع الإنسان، كما تقدَّم في شأن ابن صياد أنه انتفخ عن غضبه حتى ملأ الطريق، والله أعلم بحقيقة ذلك.

* * *

(1) رواه أبو داود (4320).

ص: 291