المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(10) باب سبق فقراء المهاجرين إلى الجنة، ومن الفقير السابق - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - جـ ٧

[أبو العباس القرطبي]

فهرس الكتاب

- ‌(12) باب إقرار النبي صلى الله عليه وسلم حجة

- ‌(37) كتاب الأذكار والدعوات

- ‌(1) باب الترغيب في ذكر الله تعالى

- ‌(2) باب فضل مجالس الذكر والاستغفار

- ‌(3) باب فضل إحصاء أسماء الله تعالى

- ‌(4) باب فضل قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له

- ‌(5) باب فضل التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير

- ‌(6) باب يذكر الله تعالى بوقار وتعظيم وفضل لا حول ولا قوة إلا بالله

- ‌(7) باب تجديد الاستغفار والتوبة في اليوم مائة مرة

- ‌(8) باب ليحقق الداعي طلبته وليعزم في دعائه

- ‌(9) باب في أكثر ما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(10) باب ما يدعى به وما يتعوذ منه

- ‌(11) باب ما يقول إذا نزل منزلا وإذا أمسى

- ‌(12) باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع وما بعد ذلك

- ‌(13) باب مجموعة أدعية كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بها

- ‌(14) باب: ما يقال عند الصباح وعند المساء

- ‌(15) باب كثرة ثواب الدعوات الجوامع وما جاء في أن الداعي يستحضر معاني دعواته في قلبه

- ‌(16) باب التسلي عند الفاقات بالأذكار وما يدعى به عند الكرب

- ‌(17) باب ما يقال عند صراخ الديكة ونهيق الحمير

- ‌(18) باب أحب الكلام إلى الله تعالى

- ‌(19) باب ما يقال عند الأكل والشرب والدعاء للمسلم بظهر الغيب

- ‌(20) باب يستجاب للعبد ما لم يعجل أو يدعو بإثم

- ‌(21) باب الدعاء بصالح ما عمل من الأعمال

- ‌(22) باب فضل الدوام على الذكر

- ‌(38) كتاب الرقاق

- ‌(1) باب وجوب التوبة وفضلها

- ‌(2) باب ما يخاف من عقاب الله على المعاصي

- ‌(3) باب في رجاء مغفرة الله تعالى وسعة رحمته

- ‌(4) باب من عاد إلى الذنب فليعد إلى الاستغفار

- ‌(5) باب في قوله تعالى: {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذهِبنَ السَّيِّئَاتِ}

- ‌(6) باب لا ييأس من قبول التوبة ولو قتل مائة نفس

- ‌(7) باب يهجر من ظهرت معصيته حتى تتحقق توبته وقبول الله تعالى للتوبة الصادقة وكيف تكون أحوال التائب

- ‌(8) باب تقبل التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها

- ‌(39) كتاب الزهد

- ‌(1) باب هوان الدنيا على الله تعالى وأنها سجن المؤمن

- ‌(2) باب ما للعبد من ماله وما الذي يبقى عليه في قبره

- ‌(3) باب ما يحذر من بسط الدنيا ومن التنافس

- ‌(4) باب لا تنظر إلى من فضل الله عليك في الدنيا وانظر إلى من فضلت عليه

- ‌(5) باب في الابتلاء بالدنيا وكيف يعمل فيها

- ‌(6) باب الخمول في الدنيا والتقلل منها

- ‌(7) باب التزهيد في الدنيا والاجتزاء في الملبس والمطعم باليسير الخشن

- ‌(8) باب ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل الإصبع في اليم وما جاء أن المؤمن فيه كخامة الزرع

- ‌(9) باب شدة عيش النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا

- ‌(10) باب سبق فقراء المهاجرين إلى الجنة، ومن الفقير السابق

- ‌(11) باب كرامة من قنع بالكفاف وتصدق بالفضل

- ‌(12) باب الاجتهاد في العبادة والدوام على ذلك، ولن ينجي أحدا منكم عمله

- ‌(13) باب في التواضع

- ‌(40) كتاب ذكر الموت وما بعده

- ‌(1) باب الأمر بحسن الظن بالله عند الموت وما جاء: أن كل عبد يبعث على ما مات عليه

- ‌(2) باب إذا مات المرء عرض عليه مقعده وما جاء في عذاب القبر

- ‌(3) باب سؤال الملكين للعبد حين يوضع في القبر وقوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَولِ الثَّابِتِ}

- ‌(4) باب في أرواح المؤمنين وأرواح الكافرين

- ‌(5) باب ما جاء أن الميت ليسمع ما يقال

- ‌(6) باب في الحشر وكيفيته

- ‌(7) باب دنو الشمس من الخلائق في المحشر وكونهم في العرق على قدر أعمالهم

- ‌(8) باب في المحاسبة ومن نوقش هلك

- ‌(9) باب حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات وصفة أهل الجنة وصفة أهل النار

- ‌(10) باب في صفة الجنة وما أعد الله فيها

- ‌(11) باب في غرف الجنة وتربتها وأسواقها

- ‌(12) باب في الجنة أكل وشرب ونكاح حقيقة ولا قذر فيها ولا نقص

- ‌(13) باب في حسن صورة أهل الجنة وطولهم وشبابهم وثيابهم وأن كل ما في الجنة دائم لا يفنى

- ‌(14) باب في خيام الجنة وما في الدنيا من أنهار الجنة

- ‌(15) باب في صفة جهنم وحرها وأهوالها وبعد قعرها، أعاذنا الله منها

- ‌(16) باب تعظيم جسد الكافر وتوزيع العذاب بحسب أعمال الأعضاء

- ‌(17) باب ذبح الموت وخلود أهل الجنة وأهل النار

- ‌(18) باب محاجة الجنة والنار

- ‌(19) باب شهادة أركان الكافر عليه يوم القيامة وكيف يحشر

- ‌(20) باب أكثر أهل الجنة وأكثر أهل النار

- ‌(21) باب لكل مسلم فداء من النار من الكفار

- ‌(22) باب آخر من يخرج من النار وآخر من يدخل الجنة وما لأدنى أهل الجنة منزلة وما لأعلاهم

- ‌(41) كتاب الفتن وأشراط الساعة

- ‌(1) باب إقبال الفتن ونزولها كمواقع القطر ومن أين تجيء

- ‌(2) باب الفرار من الفتن وكسر السلاح فيها وما جاء: أن القاتل والمقتول في النار

- ‌(3) باب لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، وحتى يكثر الهرج وجعل بأس هذه الأمة بينها

- ‌(4) باب إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بما يكون إلى قيام الساعة

- ‌(5) باب في الفتنة التي تموج موج البحر وفي ثلاث فتن لا يكدن يذرن شيئا

- ‌(6) باب ما فتح من ردم يأجوج ومأجوج، ويغزو البيت جيش فيخسف به

- ‌(7) باب لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب، وحتى يمنع أهل العراق ومصر والشام ما عليهم

- ‌(8) باب لا تقوم الساعة حتى تفتح قسطنطينية، وتكون ملحمة عظيمة، ويخرج الدجال ويقتله عيسى ابن مريم

- ‌(9) باب تقوم الساعة والروم أكثر الناس وما يفتح للمسلمين مع ذلك

- ‌(10) باب الآيات العشر التي تكون قبل الساعة وبيان أولها

- ‌(11) باب: أمور تكون بين يدي الساعة

- ‌(12) باب الخليفة الكائن في آخر الزمان وفيمن يهلك أمة النبي صلى الله عليه وسلم وتقتل عمارا الفئة الباغية وإخماد الفتنة الباغية ولتفنى كنوز كسرى في سبيل الله

- ‌(13) باب ما ذكر من أن ابن صياد: الدجال

- ‌(14) باب في صفة الدجال وما يجيء معه من الفتن

- ‌(15) باب: في هوان الدجال على الله تعالى وأنه لا يدخل مكة والمدينة ومن يتبعه من اليهود

- ‌(16) باب حديث الجساسة وما فيه من ذكر الدجال

- ‌(17) باب كيف يكون انقراض هذا الخلق وتقريب الساعة وكم بين النفختين

- ‌(18) باب المبادرة بالعمل الصالح والفتن وفضل العبادة في الهرج

- ‌(19) باب إغراء الشيطان بالفتن

- ‌(20) باب في قوله عليه الصلاة والسلام: لتتبعن سنن الذين من قبلكم، وهلك المتنطعون آخر الفتن

- ‌(42) كتاب التفسير

- ‌(1) باب من فاتحة الكتاب

- ‌(2) ومن سورة البقرة

- ‌(3) ومن سورة آل عمران

- ‌(4) ومن سورة النساء

- ‌(5) ومن سورة العقود

- ‌(6) ومن سورة الأنعام

- ‌(7) ومن سورة الأعراف

- ‌(8) ومن سورة الأنفال وبراءة

- ‌(9) ومن سورة إبراهيم

- ‌(10) ومن سورة الحجر

- ‌(11) ومن سورة الإسراء

- ‌(12) ومن سورة الكهف

- ‌(13) ومن سورة مريم

- ‌(14) ومن سورة الأنبياء

- ‌(15) ومن سورة الحج

- ‌(16) ومن سورة النور

- ‌(17) ومن سورة الفرقان

- ‌(18) ومن سورة الشعراء

- ‌(19) ومن سورة: الم السجدة

- ‌(20) ومن سورة الأحزاب

- ‌(21) ومن سورة تنزيل

- ‌(22) ومن سورة حم السجدة

- ‌(23) ومن سورة الدخان

- ‌(24) ومن سورة الحجرات

- ‌(25) ومن سورة ق

- ‌(26) ومن سورة القمر

- ‌(27) ومن سورة الحديد والحشر

- ‌(28) ومن سورة المنافقين

- ‌(29) باب: من أخبار المنافقين

- ‌(30) ومن سورة التحريم

- ‌(31) ومن سورة الجن

- ‌(32) ومن سورة المدثر

- ‌(33) ومن سورة القيامة

- ‌(34) ومن سورة الأخدود

- ‌(35) ومن سورة الشمس وضحاها

- ‌(36) ومن سورة الليل

- ‌(37) ومن سورة الضحى

- ‌(38) ومن سورة اقرأ باسم ربك

- ‌(39) ومن سورة النصر

الفصل: ‌(10) باب سبق فقراء المهاجرين إلى الجنة، ومن الفقير السابق

(10) باب سبق فقراء المهاجرين إلى الجنة، ومن الفقير السابق

[2711]

عن أبي عبد الرحمن الحبلي، قال: سَمِعتُ عَبدَ اللَّهِ بنَ

ــ

هذا الباب وغيرها، ألا ترى أنه يطوي الأيام، ولا يشبع يومين متواليين، ويشد على بطنه الحجر من الجوع والحجرين، ولم يكن له سوى ثوب واحد، فإذا غسله انتظره إلى أن يجف، وربما خرج وفيه بقع الماء، ومات ودرعه مرهونة في شعير لأهله، ولم يخلف دينارا ولا درهما، ولا شاة، ولا بعيرا، ولا حالة في الفقر أشد من هذه، وعلى هذا فلم يكن حاله الكفاف، بل: الفقر. فلم يجبه الله تعالى في الكفاف؛ لعلمه بأن الفقر أفضل له؛ لأنَّا نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع له حال الفقر والغنى والكفاف، فكانت أول أحواله الفقر؛ مبالغة في مجاهدة النفس وخطامها عن مألوفات عاداتها، فلما حصلت له ملكة ملكها وتخلص له خلاصة سبكها، خيره الله تعالى في أن يجعل له جبال تهامة ذهبا تسير معه حيث سار، فلم يلتفت إليها، وجاءته فتوحات الدنيا فلم يعرج عليها، بل صرفها وانصرف عنها، حتى قال: ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود فيكم (1). وهذه حالة الغني الشاكر، ثم اقتصر من ذلك كله على قدر ما يرد ضروراته وضرورات عياله، ويرد حاجتهم، فاقتنى أرضه بخيبر، وكان يأخذ منها قوت عياله ويدخره لهم سنة، فاندفع عنه الفقر المدقع، وحصل الكفاف الذي دعا به، ثم إنه لما احتضر وقف تلك الأرض على أهله ليدوم لهم ذلك الكفاف الذي ارتضاه لنفسه، ولتظهر إجابة دعوته حتى في أهله من بعده، وعلى ذلك المنهج نهج الخلفاء الراشدون على ما تدل عليه سيرهم وأخبارهم. وعلى هذا فأهل الكفاف هم صدر

(1) رواه مالك في الموطأ (2/ 457 - 458).

ص: 131

عَمرِو بنِ العَاصِ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَلَسنَا مِن فُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ؟ فَقَالَ لَهُ عَبدُ اللَّهِ: أَلَكَ امرَأَةٌ تَأوِي إِلَيهَا؟ قَالَ: نَعَم، قَالَ: أَلَكَ مَسكَنٌ تَسكُنُهُ؟

ــ

كتيبة الفقراء الداخلين الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام؛ لأنَّهم وسطهم، والوسط: العدل. وليسوا من الأغنياء كما قررناه، فاقتضى ذلك ما ذكرناه، والله تعالى أعلم.

و(قول الرجل لعبد الله بن عمرو: ألسنا من الفقراء؟ ) سؤال تقرير، وكأنه سأل شيئًا من الفيء الذي قال الله تعالى فيه:{لِلفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخرِجُوا مِن دِيَارِهِم وَأَموَالِهِم يَبتَغُونَ فَضلا مِنَ اللَّهِ وَرِضوَانًا} وكأن ذلك الرجل قال: ألسنا من الفقراء الذين يستحقون من الفيء سهما بنص القرآن؟ وكأنه أنجز له مع ذلك الالتفات إلى الفقراء المهاجرين، وتبجح به، فأجابه عبد الله بما يكسر ذلك منه، ويزيل آفة الالتفات إلى الأعمال بما يقتضي: أن الأحق باسم الفقر من المهاجرين من كان متجردا عن الأهل والمسكن، كما كان حال أهل الصفة في أول الأمر. وصار معنى هذا الحديث إلى نحو قوله صلى الله عليه وسلم: ليس الشديد بالصرعة (1) وليس المسكين بالطواف (2)، فكأن عبد الله قال له: ليس الفقير المهاجر الذي تكون له زوجة ومسكن، وإنما الفقير المتجرد عن ذلك، ولم يرد أن من كان فقيرا مهاجريا، له زوجة ومسكن، أنه لا يستحق من الفيء شيئا؛ لأنَّ صاحب العيال الفقير أشد فاقة وبلاء؟ ولأنه خلاف ما وقع لهم، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطيهم بحسب فاقتهم وحاجتهم، ويفضل في العطاء من له عيال على من ليس كذلك، وكذلك فعل الخليفتان بعده، على ما هو المعلوم من حالهما، وإن حمل قول عبد الله على ظاهره لزم عليه: أن من كان له زوجة ومسكن لا غير ذلك، لم يُعدّ من الفقراء المهاجرين الذين وصفهم الله تعالى، والذين يسبقون إلى الجنة، فيلزم ألا يكون أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي من الفقراء من السابقين إلى الجنة، وذلك باطل قطعا.

(1) رواه البخاري (6114)، ومسلم (2609).

(2)

رواه أحمد (2/ 260)، والبخاري (4539)، ومسلم (1039)(102).

ص: 132

قَالَ: نَعَم، قَالَ: فَأَنتَ مِن الأَغنِيَاءِ، قَالَ: فَإِنَّ لِي خَادِمًا، قَالَ: فَأَنتَ مِن المُلُوكِ.

قَالَ أَبُو عَبدِ الرَّحمَنِ: وَجَاءَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ إِلَى عَبدِ اللَّهِ بنِ عَمرِو بنِ العَاصِ وَأَنَا عِندَهُ فَقَالُوا: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنَّا وَاللَّهِ مَا نَقدِرُ عَلَى شَيءٍ، لَا نَفَقَةٍ وَلَا دَابَّةٍ وَلَا مَتَاعٍ، فَقَالَ لَهُم: مَا شِئتُم، إِن شِئتُم رَجَعتُم إِلَينَا فَأَعطَينَاكُم مَا يَسَّرَ الَّهُ لَكُم، وَإِن شِئتُم ذَكَرنَا أَمرَكُم لِلسُّلطَانِ، وَإِن شِئتُم صَبَرتُم فَإِنِّي سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ فُقَرَاءَ المُهَاجِرِينَ يَسبِقُونَ الأَغنِيَاءَ يَومَ

ــ

و(قوله: أنت من الملوك) لما أخبره أن له خادما على جهة الإغياء والمبالغة، لا أنه ألحقه بالملوك حقيقة، ولا بالأغنياء، ولا سلبه ذلك اسم الفقراء، إذ لم يكن له غير ما ذكر، والله تعالى أعلم.

و(قوله: جاء ثلاثة نفر إلى عبد الله بن عمرو) هذه قضية أخرى غير القضية المتقدمة، وإن اتفق راوياهما، فإنَّهما من رواية أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص؛ لأنَّ هؤلاء ثلاثة وذلك واحد، ولأن مقصوده من هذا الحديث غير مقصوده من الأول، وذلك أن هؤلاء الثلاثة شكوا إليه شدة فاقتهم، وأنهم لا شيء لهم، فخيرهم بين الصبر على ما هم فيه حتى يلقوا الله، فيحصلون على ما وعدهم الله به على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من السبق إلى الجنة قبل الناس كلهم، وبين أن يرفع أمرهم إلى السلطان، فيدفع إليهم ما يغنيهم، وبين أن يواسيهم من ماله، فاختار القوم البقاء على الحالة الأولى، والصبر على مضض الفقر وشدته. ويفهم من هذا الحديث: أن مذهب عبد الله، وهؤلاء الثلاثة: أن الفقر المدقع والتجرد عن المكتسبات كلها أفضل، وقد بينا آنفا: أن المسألة مسالة خلاف، وأن الكفاف أفضل على ما ذكرناه آنفا.

و(قوله صلى الله عليه وسلم: إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة

ص: 133

القِيَامَةِ إِلَى الجَنَّةِ بِأَربَعِينَ خَرِيفًا، قَالُوا: فَإِنَّا نَصبِرُ لَا نَسأَلُ شَيئًا.

رواه أحمد (2/ 169)، ومسلم (2979).

* * *

ــ

بأربعين خريفا) هذا الحديث اختلفت ألفاظ الرواة فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فروى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الحديث المتقدم، وروى الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام (1). قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. ويروى أيضًا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدخل الفقراء الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام، نصف يوم (2)، قال: هذا حديث حسن صحيح. وفي طريق أخرى: يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، وهو خمسمائة عام (3). وقال: حديث حسن صحيح، وروي أيضًا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا (4). قال: هذا حديث حسن صحيح، فاختلفت هذه الأحاديث في أي الفقراء هم السابقون، وفي مقدار المدة التي بها يسبقون، فهذان موضعان، ويرتفع الخلاف عن الموضع الأول بأن يرد مطلق حديث أبي هريرة إلى مقيد روايته الأخرى، ورواية جابر رضي الله عنه فيعني بالفقراء: فقراء المسلمين، وحينئذ يكون حديث عبد الله بن عمرو وحديث أبي سعيد، مخصوصا بفقراء المهاجرين، وحديث أبي هريرة وجابر يعم جميع فقراء قرون المسلمين، فيدخل الجنة فقراء كل قرن قبل أغنيائهم بالمقدار المذكور، وهذه طريقة حسنة، ونزيدها وضوحا بما

(1) رواه الترمذي (2351).

(2)

رواه الترمذي (2353).

(3)

رواه الترمذي (2354).

(4)

رواه الترمذي (2355).

ص: 134

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: أصحاب الجد محبوسون على قنطرة بين الجنة والنار، يُسألون عن فضول أموال كانت بأيديهم (1)، وهذا واضح. وأما الموضع الثاني فقد تقدَّم: أن الخريف هو العام هنا، وأصل الخريف: فصل من فصول السنة، وهو الفصل الذي تخترف فيه الثمار، أي: تُجتنى، فسمي العام بذلك، ويمكن الجمع بين الأربعين وحديث الخمسمائة عام؛ بأن سباق الفقراء يدخلون (2) قبل سباق الأغنياء بأربعين عاما، وغير سباق الأغنياء بخمسمائة عام؛ إذ في كل صنف من الفريقين سباق، والله أعلم.

وهذه الأحاديث حجَّة واضحة على تفضيل الفقر على الغنى، ويتقرر ذلك من وجهين:

أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا لجبر كسر قلوب الفقراء، ويهون عليهم ما يجدونه من مرارة الفقر، وشدائده بمزية تحصل لهم في الدار الآخرة على الأغنياء، عوضا لهم عما حرموه من الدنيا، وصبرهم، ورضاهم بذلك.

وثانيهما: أن السبق إلى الجنة ونعيمها أولى من التأخر عنها بالضرورة، فهو أفضل.

وثالثها: أن السبق إلى الفوز من أهوال يوم القيامة والصراط، أولى من المقام في تلك الأهوال بالضرورة، فالسابق إلى ذلك أفضل بالضرورة، وحينئذ لا يلتفت لقول من قال: إن السبق إلى الجنة لا يدلّ على أفضلية السابق. وزخرف ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الخليقة، ومع ذلك فدخوله الجنة متأخر عن دخول هؤلاء الفقراء؛ لأنَّهم يدخلون قبله، وهو في أرض القيامة؛ تارة عند الميزان،

(1) رواه البخاري (6535).

(2)

في (ز): يسبقون.

ص: 135

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وتارة عند الصراط، وتارة عند الحوض، كما قد أخبر عن ذلك فيما صح عنه، وهذا قول باطل صدر عمن هو بما ذكرناه وبالنقل جاهل، فكأنه لم يسمع ما تقدَّم في كتاب الإيمان من قوله صلى الله عليه وسلم: أنا أول من يقرع باب الجنة، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: أنا محمد. فيقول الخازن: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك (1). وفي حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: أنا أول من يدخل الجنة، ومعي فقراء المهاجرين (2). وعلى هذا فيدخل الجنة، ويتسلم ما أعد له فيها، ويبوئ الفقراء منازلهم، ثم يرجع إلى أرض القيامة ليخلص أمته بمقتضى ما جعل الله في قلبه من الحنو على أمته والشفقة عليهم، والرأفة بهم، فيلازمهم في أوقات شدائدهم، ويسعى بمكنه في نجاتهم، فيحضرهم عند وزن أعمالهم، ويسقيهم عند ظمئهم، ويدعو لهم بالسلامة عند جوازهم، ويشفع لمن دخل النار منهم، وهو مع ذلك كله في أعلى نعيم الجنة الذي هو غاية القرب من الحق، والجاه الذي لم ينله أحد غيره من الخلق، ولذة النظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه الحكيم بألطف خطاب وأكرم تكليم، كيف لا، وهو يسمع: يا محمد قل يسمع لك، سل تعط، اشفع تشفع، فيقول: أمتي! أمتي! أمتي، فيقال: انطلق فأدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن (3). وهذه خطوة لا تتسع لها العبارات، ولا تحيط بها الإشارات، حشرنا الله في زمرته، ولا خيبنا من شفاعته.

قال القاضي أبو الفضل: ويحتمل أن هؤلاء السابقين إلى الجنة يتنعمون في أفنيتها وظلالها، ويتلذذون بما هم فيه إلى أن يدخل محمد صلى الله عليه وسلم بعد تمام شفاعته، ثم يدخلونها معه على قدر منازلهم وسبقهم، والله تعالى أعلم.

(1) رواه مسلم (196)(331).

(2)

رواه الترمذي (3620).

(3)

رواه أحمد (1/ 5 و 2/ 436)، والبخاري (6565)، ومسلم (193).

ص: 136