الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(18) باب محاجة الجنة والنار
[2766]
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تحاجت النار والجنة، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم. في رواية: وغرتهم، بدل: وعجزهم. فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من
ــ
(18)
ومن باب: محاجة الجنة والنار
(قوله: تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين. . . الحديث) ظاهر هذه المحاجة: أنها لسان مقال، فيكون خزنة كل واحد منهما هم القائلون بذلك، ويجوز أن يخلق الله ذلك القول فيما شاء من أجزاء الجنة، وقد قلنا فيما تقدَّم: إنه لا يشترط عقلا في الأصوات المقطعة أن يكون محلها حيا، خلافا لمن اشترط ذلك من المتكلمين. ولو سلمنا ذلك لكان من الممكن أن يخلق الله في بعض أجزاء الجنة والنار الجمادية حياة، بحيث يصدر ذلك القول عنه، والله تعالى أعلم. لا سيما وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى:{وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ} إن كل ما في الجنة حي، ويحتمل أن يكون ذلك لسان حال، فيكون ذلك عبارة عن حالتيهما، والأول أولى، والله تعالى أعلم.
و(قول الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعجزهم، وفي رواية: وغرتهم) الضعفاء: جمع ضعيف: يعني به الضعفاء في أمر الدنيا، ويحتمل أن يريد به هنا الفقراء. وحمله على الفقراء أولى من حمله على الأول؛ لأنَّه يكون معنى الضعفاء معنى العجزة المذكورين بعد. وسقطهم - بفتح السين والقاف -: جمع ساقط وهو النازل القدر، وهو الذي عبر عنه بأنه لا يؤبه له، وأصله من سقط المتاع: وهو رديئه. وعجزهم، قال القاضي: هو بفتح العين والجيم، جمع عاجز.
أشاء من عبادي، وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ فيضع قدمه عليها فتقول: قط قط، فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض.
وفي رواية: فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعلى رجله تقول: قط قط قط، فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض، فلا يظلم الله من خلقه أحدا. وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا.
رواه أحمد (2/ 276)، والبخاريُّ (4849)، ومسلم (2846)(35 و 36)، والترمذيُّ (2561).
[2767]
وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تزال جهنم يلقى
ــ
قلت: ويلزمه على ذلك أن يكون بالتاء ككاتب وكتبة، وحاسب وحسبة، وسقوط التاء في مثل هذا الجمع نادر، وإنما يسقطونها إذا سلكوا بالجمع مسلك اسم الجنس، كما فعلوا ذلك في سقطهم، وصواب هذا اللفظ: أن يكون عُجَّزهم بضم العين وتشديد الجيم، كنحو: شاهد وشهد، وكذلك أذكر أني قرأته: وغَرثهم: بفتح الغين المعجمة والثاء المثلثة، جمع غرثان، وهو الجيعان، والغرث: الجوع. وقد رواه الطبري: غِرتهم: بكسر الغين وبالتاء باثنتين فوقها، وتشديد لراء؛ أي غفلتهم وأهل البله منهم، كما قال في الحديث الآخر: أكثر أهل الجنة البله (1) يعني به: عامة أهل الإيمان الذين لم يتفطنوا للشبه، ولم توسوس لهم الشياطين بشيء من ذلك، فهم صحاح العقائد، ثابتو الإيمان، وهم أكثر المؤمنين، وأما العارفون والعلماء والحكماء، فهم الأقل، وهم أصحاب الدرجات العلى والمنازل الرفيعة.
و(قوله: وأما النار فلا تمتلئ فيضع قدمه عليها، وفي اللفظ الآخر:
(1) رواه البزار في مسنده عن أنس، وهو حديث ضعيف. انظر جامع الأصول (10/ 536).
فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فينزوي
ــ
حتى يضع رب العزة فيها قدمه. وفي اللفظ الآخر: حتى يضع الله رجله ولم يذكر لا فيها ولا عليها، وقد ضل بظاهر هذا اللفظ من أذهب الله عقله، وأعدم فهمه، وهم المجسمة المشبهة، فاعتقدوا: أن لله تعالى رجلا من لحم وعصب تشبه رجلنا، كما اعتقدوا في الله تعالى أنه جسم يشبه أجسامنا ذو وجه وعينين، وجنب ويد ورجل وهكذا. . . وهذا ارتكاب جهالة خالفوا بها العقول وأدلة الشرع المنقول، وما كان سلف هذه الأمة عليه من التنزيه عن المماثلة والتشبيه، وكيف يستقر هذا المذهب الفاسد في قلب من له أدنى فكرة، ومن العقل أقل مسكة، فإنَّ الأجسام من حيث هي كذلك متساوية في الأحكام العقلية، وما ثبت للشيء ثبت لمثله، وقد ثبت لهذه الأجسام الحدوث، فيلزم عليه أن يكون الله تعالى حادثا، وهو محال باتفاق العقلاء والشرائع. ثم انظر غفلتهم وجهلهم بكلام الله تعالى وبمعانيه، فكأنهم لم يسمعوا قوله تعالى:{لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ويلزم على قولهم أن يكون كل واحد منا مثلا له تعالى من جهة الجسمية والحيوانية، والجوارح، وغير ذلك من الأعضاء والأعصاب واللحم والجلود والشعور، وغير هذا، وكل ذلك جهالات وضلالات، ولله سر في إبعاد بعض العباد {وَمَن يُضلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن هَادٍ} وقد تأول علماؤنا ذلك الحديث تأويلات (1). وأشبه ما فيها تأويلان:
أحدهما: أن النار تتغيظ وتتهيج؛ حنقا على الكفار والمتكبرين والعصاة، كما قال تعالى:{تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيظِ} وكما قال: {يَومَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتَلأتِ وَتَقُولُ هَل مِن مَزِيدٍ} وكما قال في هذا الحديث: لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟ ، وكما قال: تخرج عنق من النار فتقول:
(1) الأولى بنا أن نقولَ في هذا المقام ما يقولُه علماء السلف: نثبتُ لله تعالى ما أثبتَ لنفسه، من غير تعطيل ولا تأويل ولا تجسيم.
بعضها إلى بعض وتقول: قط قط، بعزتك وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة.
رواه أحمد (3/ 134)، والبخاريّ (7384)، ومسلم (2848)(38).
* * *
ــ
وكلت بالجبارين والمتكبرين (1). فكأنها تعلو وتطغى حتى كأنها تجاوز الحد، وفي بعض الحديث: أنها تكاد أن تلتقم أهل المحشر فيكسر الله سورتها، وحدتها، ويردها ويذللها ذل متكبر وطئ بالقدم والرجل، فعبر عن تذليلها بذلك، ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: فيضع قدمه عليها، وعلى هذا فيكون فيها في الرواية الأخرى بمعنى عليها. كما قال:{وَلأُصَلِّبَنَّكُم فِي جُذُوعِ النَّخلِ} أي: على جذوع النخل.
وثانيهما: أن القدم والرجل عبارة عمن تأخر دخوله في النار من أهلها، وهم جماعات كثيرة؛ لأنَّ أهل النار يلقون فيها فوجا بعد فوج، كما قال تعالى:{كُلَّمَا أُلقِيَ فِيهَا فَوجٌ سَأَلَهُم خَزَنَتُهَا} ويؤيده قوله في هذا الحديث: لا يزال يلقى فيها فالخزنة تنتظر أولئك المتأخرين، إذ قد علموهم بأسمائهم وأوصافهم، كما روي عن ابن مسعود أنه قال: ما في النار بيت ولا سلسلة ولا مقمع ولا تابوت، إلا وعليه اسم صاحبه، فكل واحد من الخزنة ينتظر صاحبه الذي قد عرف اسمه وصفته، فإذا استوفى كل واحد منهم ما أمر به وما ينتظره ولم يبق منهم أحد، قالت الخزنة: قط قط؛ أي: حسبنا حسبنا، اكتفينا اكتفينا. فحينئذ تنزوي جهنم على من فيها؛ أي: تجتمع وتنطبق إذ لم يبق أحد ينتظر، فعبر عن ذلك الجمع المنتظر بالرجل والقدم، كما عبرت العرب عن جماعة الجراد بالرجل، فتقول:
(1) رواه الترمذي (2574).