الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29).
ومن قدره بثلاث ليال أو بشهر فقد حكَّم عرفه في زمنه (1)، ولا يصلح إمضاؤه على زمن وعرف آخر كعصرنا، بل نرجع في هذا إلى النصوص ولم يُشترط فيها سوى التراضي، فإذا رضي الطرفان أجزنا، وإلا فالمنع مطلقا؛ لأن صحة العقد التجاري قائم على التراض (إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29).
ج- خيار العيب الضار:
وهو خيار جائز، سواء نص عليه في العقد أم لا؛ لأن العقد لا يتضمن الضرر، فإن اطلع على عيب فاحش ينقص الثمن نقصا فاحشا لا يتسامح بمثله، والسلامة منه غالبة.
فالمشتري بالخيار لظهور اختلال شرط في صحة العقد وهو الرضى، فإن اطلع على العيب قبل العقد فهو صحيح لتمام الرضى؛ فإن اطلع عليه بعده ورضي بقول أو فعل أو تصرف بالسلعة على وجه الرضى فالعقد صحيح لتوفر شرطه وهو الرضى.
د- خيار الغبن:
وهو خيار لمن يطلع على غبن فاحش في ثمن السلعة مما لا يتسامح في مثله، وهو جائز. ويجوز اشتراطه لحديث الصحيحين «إذا بعت فقل لا خلابة» (2).
والخيارات كثيرة غير هذه تراجع في المطولات، وما ذكرنا من الخيارات هي أكثر ما يدور في الفقه العملي.
سادسا: حق التعويض عن الضرر أثناء العمل:
لا بد قبل أن نقضي في مسألة التعويض من الضرر أثناء العمل أن نؤصل بأصول:
الأصل الأول: الأموال والأنفس مضمونة قطعا.
الأصل الثاني: من أتلف نفسا أو مالا فالأصل الضمان قطعا.
(1) - وزيادة «ثلاثا» في حديث حبان بن منقذ وردت من طرق ضعيفة مخالفة لرواية الثقات الواردة في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث، فهي شاذة.
(2)
- أخرجه البخاري برقم 2117 عن عبدالله بن عمر، رضي الله عنهما أن رجلا ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع. فقال «إذا بايعت فقل لا خلابة» . وهو في مسلم برقم 3939.
الأصل الثالث: لا ضمان إلا بمباشرة فعل الإتلاف، أو تسببٍ متلفٍ عادة.
أما دليل الأصل الأول فقوله صلى الله عليه وسلم «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام» (1)، ولعموم قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ) (البقرة: 178)، وهذا يدل على ضمان الأنفس.
وحرمة الأموال والأنفس تقتضي حفظها وأنها مضمونة، ولأن حفظها من مقاصد الشريعة الستة.
أما دليل الأصل الثاني فعموم قوله تعالى (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَاّ عَلَيْهَا)(الأنعام: 164)، وعموم (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (البقرة: 286)، وعموم (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: 40).
فمن أتلف نفسا أو مالا فالجزاء بمماثلة الإتلاف، وهو في النص القصاص، والدية تخفيف (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) (البقرة: 178).
وفي الأموال بالثمن، فإذا جاز المال بدل النفس تعويضا فالمال بدل المال من باب أولى.
ولقوله (فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ)(المائدة: 95)، فقضى في المال أنه يعوض بمثله بحكم عدلين في تقدير المماثلة، ولحديث «طعام بدل الطعام وإناء بدل الإناء» (2).
(1) - تقدم تخريجه.
(2)
- أخرجه أبو داود برقم 3570 عن جسرة بنت دجاجة قالت: قالت عائشة رضي الله عنها ما رأيت صانعا طعاما مثل صفية صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما فبعثت به، فأخذني أَفْكَل، فكسرت الإناء فقلت يا رسول الله ما كفارة ما صنعت قال «إناء مثل إناء وطعام مثل طعام». و «أَفْكَل»: أي رعْدَة. وأخرجه النسائي برقم 3957. قلت: سنده حسن وجسرة بنت دجاجة وثقها العجلي، وقال الحافظ في الإصابة (7/ 568) برقم 11008: جسرة بنت دجاجة تابعية معروفة روت عن أبي ذر وعلي وعائشة وأم سلمة وهي معدودة في أهل الكوفة روى عنها قدامة بن عبدالله العامري وأفلت بن خليفة وممدوح الهذلي قال العجلي ثقة وورد ما يدل على أن لها إدراكا فأخرج ابن مندة من طريق عثام بن علي عن قدامة عن جسرة قالت أتانا آت يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فأشرف على الجبل فقال يا أهل الوادي انحرف الدين ثلاث مرات مات نبيكم الذي تزعمون فإذا هو شيطان فحسبنا فوجدناه مات ذلك اليوم وذكرها ابن مندة في الصحابة ولم يذكر سوى هذا الأثر وأخرجه عن أبي علي بن السكن بسنده إلى عثام وهو بمهملة ومثلثة ثقيلة وليس صريحا في إدراكها لاحتمال أن تكون أرادت بقولها أتانا آت من قومها وتكون نقلت عنهم ولم تدرك هي ذلك ولم يذكرها ابن السكن في الصحابة وحديثها عن الصحابة في السنن لأبي داود والنسائي وغيرهما. انتهى. قلت: وذكرها في الصحابة أبو نعيم في المعرفة، وروى عنها جمع، ووثقها ابن حبان والعجلي، وقال الذهبي وثقت، وذكرها ابن الأثير في أسد الغابة .. فعلى هذا فحديثها حسن، وقد حسنه الأرناؤوط في المسند، وضعفه الألباني، والصحيح تحسين الأرناؤوط؛ لأنه الموافق لقواعد علم الجرح والتعديل، ثم اطلعت على قول الحافظ في الفتح (5/ 125): إسناده حسن. ومما يؤكد صحة الحديث أن القصة في صحيح البخاري برقم 5225 من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلقت فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: غارت أمكم، ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت.
أما دليل الأصل الثالث فقوله تعالى (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)(الأنعام: 164)، فهذا يدل على المسئولية الشخصية عن الفعل، وعلى عدم تحميل شخص فعل آخر لا علاقة له به.
وإذا علم هذا:
فالله يقول (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَا)(البقرة: 195)، فمن ألقى بنفسه أو بغيره إلى التهلكة سواء باشر التهلكة، أو تسبب في التهلكة ضمن.
والمتسبب في التهلكة هو: من عمل محرما غير مأذون فيه شرعا هلك به غيره.
أما من عمل مباحا أو مشروعا فتسبب في هلاك شخص أهلك نفسه لأن سببه ليس من المشروع بل من نفسه.
فأصل الضمان قائم على مباشرة فعل الإتلاف، أو التسبب المتلف بغير المشروع، أما المباشرة فهي: مباشرة فعل الإتلاف بعمل يحصل به التلف عادة، أو كل فعل يحصل به التلف عادة.
ليشمل المباشرة والسبب القائم مقامها ولا يفعل إلا للإتلاف نحو قطع بآلة حادة لنفس أو عضو منها، أو ضرب بحجر تقتل عادة، أو بإعطاء سم في طعام أو دواء، أو إشعال نار في نفس أو عضو أو مال أو بتيار كهربائي قاتل، أو رمي بحجر متلف، أو رمي به في صحراء متلفة، أو حبسه بلا ماء ولا غذاء حتى الموت، أو وضعه في غرفة مغلقة لا تتسع إلا له، وإدخال حية مهلكة فلدغته، أو وحش لا يمكن له دفعه كأسد فقتله.
أو حقنه بالإيدز أو بطاعون مهلك، أو وضع لغم في سيارته أو طريقه أو مكتبه أو محله، أو رميه برصاص، أو اتباعه بسيارة لدهسه فقتل، أو منع الهواء عنه حتى قتل اختناقا.
فجميع هذه الأفعال: لا ترتكب إلا للقتل والإتلاف.
والأصل فيها القصاص إلا بعفو إلى الدية ممن له العفو من ولي الدم.
أما التسبب، فإن كان فعل السبب مشروعا كحفر بئر في ملكه، فسقط فيه شخص، أو بناء بيت صعد فيه شخص فسقط، أو سقط عليه حجر بغير فعل فاعل حال البناء وهو أجير يعمل فيه.
فهذ النوع هو: مما فعل، والسبب فيه مباح، ولا ينسب إلى فاعله إتلاف عادةً. ولا ضمان ولا كفارة؛ لأن الشخص ألقى بنفسه بفعله إلى التهلكة لا بفعل غيره.
ومثله من رمى نفسه أمام سيارة مسرعة، فلا ضمان ولا كفارة؛ لأنه عَمِل محرما قطعا وألقى بنفسه إلى التهلكة، وذلك عامل بمباح شرعا وهو السير في الطريق ولا يمكن نسبة خطأ أو تفريط إليه.
ومثله من عكس السير فساق مركبته في اتجاه مصادم لغيره، ولا يمكن تفاديه فالضمان والكفارة على العاكس.
ومنه كذلك من غرقت سفينته وعليها ركاب كثيرون فلا ضمان عليه؛ لأنه عمل بعمل مشروع إلا إن ثبت الضرر من جهة إهمال سفينته من صيانة ونحو ذلك، وكان ركوبها يحتمل الخطر الكثير.
فالحاصل من هذا النوع أن تكون قاعدته: الأفعال المشتركة في الإتلاف الضمان منها على فاعل الفعل المحرم شرعا؛ لأنه ألقى بنفسه إلى التهلكة، ولا ضمان على من فعل الفعل المشروع المباح من كل جهة أصلية أو طارئة.
وقولنا «أصلية» : أي أصل الفعل على المشروعية والإباحة.
وقولنا «طارئة» : أي الطوارئ التي قد يتغير بها الحكم من الإباحة إلى المنع كركاب سفينة متقادمة تغرق إذا تعرضت لحادث عادي لا يغرق مثله، فغرقها لأجل تقادمها وعدم صيانتها لا للحادث.
فهنا يتغير حكم الأصل وهو الإباحة إلى حكم المنع لعارض أجنبي هو التقادم المضر الذي لا يتسامح في مثله، بل يضر مثله عادة.
وعلى هذا التأصيل نقول:
إن أصحاب المصانع والشركات الذين يشغلون اليد العمالية أصل عمل الطرفين العامل وصاحب العمل مباح مشروع.
فإذا حصل تلف للعامل في عضو ووقع عليه الضرر في عمله فلا يخلو من ثلاث صور:
الأولى: عدم ارتكاب غيرمأذون فيه فتثبت هنا الإباحة التامة من كل الجهات، فالعامل محسن غير مسيء، وصاحب العمل محسن غير مسيء، فآلاته مصونة لا يمكن أن يترتب عليها ضرر في الأصل.
ففي هذه المسألة لا ضمان على صاحب العمل؛ لأنه محسن (وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(البقرة: 195)، و (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلَاّ الإِحْسَانُ) (الرحمن: 60)، وتضمينه إساءة.
أما العامل فهو محسن كذلك والله يقول (هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلَاّ الإِحْسَانُ)(الرحمن: 60)، فقطع يده بحادث في المصنع مثلا مع إحسانه في مسالك الأمان والعمل يقتضي الإحسان إليه بالأمر.
ويكون الإحسان ممن أحسن إليه العامل وهو صاحب العمل، فحصل تبادل الإحسان من الطرفين، فالعامل لا يُضمِّن صاحب العمل بقصاص ولا دية، فيجب هنا مبلغ مالي مقابل الضرر تعاونا لا ضمانا، والتعاون على البر والتقوى واجب في الجملة إحسانا لأمر الله به، وتسميته تعويضا لا ضمانا؛ لأن الضمان يوجب كمال العِوض المقدر شرعا من أرش الجناية بخلاف التعويض فهو قائم على الصلح والبر.
الحالة الثانية: إن كان الإحسانُ من صاحب العمل بسلامةِ آلاته وغلبة أمان استعمالها لكن قصر العامل فأدخل نفسه في محل لا يمكن دخوله إلا بتلف شيء منه، فهنا لا ضمان، والعامل ملق بنفسه إلى التهلكة ويندب التعاون في التعويض.
الحالة الثالثة: ثبوت الإحسان من العامل بِسَيْرِه بإتقان وأمان في عمله بلا مخالفة ولا تفريط، ووقع الخلل من جهة صاحب العمل بتقصيره باتخاذ إجراءات السلامة لعماله بحيث يكثر أو يمكن لأجل التقصير في الصيانة من حدوث إتلاف، أو ضرر على عامل سببه ترك الصيانة قطعا أو غلبة.