الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتابع يجوز فيه ما لا يجوز في الأصل؛ لحديث «كنا نبيع بالدراهم ونقبض بالدنانير» . فقال صلى الله عليه وسلم «لا بأس إن افترقتما وليس بينكما شيء» .
فأجاز الصرف في الذمة؛ لأنه تابع لا أصل.
-
العقد الصناعي:
العقد الصناعي هو عقد جديد ولا يخرج على عقد الاستصناع القديم في كل صوره؛ لأنه أعم منه وأشمل وأوسع وأكثر تركيبا، فالقول فيه على ما قررناه مرارا هو أن كل معاملة تجارية جارية في العالم الأصل فيها أنها مباحة لعموم (إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29)، (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) (البقرة: 275)، ولعموم العفو عما لم ينص على تحريم فيه (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101).
والعقود الصناعية على هذا الأصل ما لم يزحزحها مانع من أحد الموانع الخمسة القاطعة.
والعقود الصناعية هي تجارة سمها ما شئت، ولا يلزمنا موافقتها ما كان قبل أكثر من ثلاثة عشر قرنا في أيام أبي حنيفة وغيره من الأئمة عليهم رحمة الله ورضوانه.
ولا يلزمنا تسميتها عقد استصناع، لأن الاسم ليس توقيفيا بل اجتهادي خاص بزمن معين، ولأن التزامنا بذات التسمية القديمة يدخلنا في إرباكات فقهية وإلزامات راجعة إلى تشبيه ما نحن فيه بذاك؛ فنقول بعدم الجواز أو به، ولم ينزل الله القرآن والسنة إلا ليفهمها الناس جميعا لا لأفراد بأعيانهم ولو كانوا كالأئمة الأربعة، ولذلك اشتد إيصاؤهم بعدم تقليدهم بل الأخذ من حيث أخذوا.
ولذلك سميتها في هذا الكتاب اسما جديدا جامعا لكل الأنواع، وهي العقود الصناعية بحيث تشمل كل عقد صناعي في العالم كيفما كان، فهو مباح ما لم يمنع بقاطع من أحد الخمسة.
والعقود الصناعية بحسب تقسيمنا للمال إلى سهمٍ ونقدٍ وعينٍ وحقٍ ومنفعةٍ تشمل كل هذه الأمور.
وسنبدأ بالأعيان لكونها الباب الأكبر للصناعات، وبحسب تقسيمنا لها إلى أربعة أنواع:
1 -
الأرض والعقار.
2 -
والثروات الكبرى، وهي خمسة عشر نوعا بحسب حصرنا الاستقرائي المتقدم.
3 -
والأصول الإنتاجية.
4 -
والمواد الاستهلاكية.
وأركان العقود التجارية الصناعية الآن: عاقدان، ومعقود عليه من ثمن ومثمن، وصيغة عقد ملفوظ ومكتوب ومشهود.
فالعاقدان يشترط فيهما أهلية التصرف، جهةً اعتبارية كبنك، أو شخصيةً كفرد.
وصيغة العقد بحسب مقصود العقد بما لا يفهم غيره ويرفع التوهم.
وقولنا مكتوب ومشهود ركن في الصيغة؛ لأنه لا نفوذ لها في التعامل التجاري رسميا إلا بذلك.
والمعقود عليه هو الثمن والسلعة.
أما الثمن فهو: ما تراضيا عليه في منطوق العقد عوضا للسلعة؛ لأن النطق هو الأصل؛ فإن لم يذكرا ذلك نطقا رجع إلى العرف؛ فإن لم يكن عرف فالعقد باطل؛ لاشتماله على المقامرة والتغرير الشديد في أحد طرفي العقد، وهذا محرم لتحريم الميسر والغرر.
وحينئذ يجوز تحديد السعر ولو بعد إبرام العقد لتصحيحه؛ لأن ارتفاع المانع المبطل للعقد يعيد العقد إلى الصحة.
ويجوز تأخير الثمن إلى التسليم، أو تقسيطه على أقساط، ويجوز دفع قسط أول بعد إبرام العقد.
ويجوز دفع كامل الثمن أوله، والسلم يجوز فيه ذلك، ولا دليل على الإلزام بتعجيله كما مر.
ودليل الصور السابقة (إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ)(النساء: 29)، فأطلق صحة عقود التجارات بركن التراضي.
وهذا عقد بالتراضي لا مانع فيه من الموانع الخمسة، ولأنه عقد بيع فيحل (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275).
وهذا عموم، ولأن الله يقول عن المسائل التي لم يحرمها أو يحكم فيها بإيجاب (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101).
فيدل على عموم العفو في سائر صور العقد، تقدم الثمن أو تأخر بتقسيط أو كمال.
وأما المثمن وهو السلعة المعقود عليها في العقد الصناعي فيشترط فيها أن تكون من الطيبات لا الخبائث (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ)(الأعراف: 157).
والشرط الثاني أن تكون السلعة حلالا غير محرمة.
فَشَرْطٌ فيما يجوز أكله وأكل ثمنه أمران: الأول أن يكون حلالا فخرج به الحرام الميتة والخنزير والميسر والأقمار والخمر والدم والأصنام.
والثاني أن يكون طيبا غير مستخبث.
فلا يجوز العقد الصناعي على سلعة محرمة بالنص على عينها كالخمر، أو معناها وهي الخبائث.
فالعقد على إنتاج الخمر والمخدرات باطل لتحريمه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(المائدة: 90)، «لعن الله في الخمر عشرة بائعها ومشتريها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وشاربها وآكل ثمنها وشاهدها» (1).
وكذا عقود المخدرات، وهي من الفساد في الأرض، وحدها حد الحرابة (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33).
ويبطل عقد استصناع أعلاف من دم ومستخلصات الميتة والخنزير ولو خلط بغيره، لأن ما حرم بالنص حرم قليله وكثيره «ما أسكر كثيره فقليله حرام» (2).
(1) - تقدم تخريجه.
(2)
- أصله في البخاري برقم 242 عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل شراب أسكر فهو حرام. وأما رواية «فقليله» فهي في سنن أبي داود برقم 3683 عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أسكر كثيره فقليله حرام» . قلت: وهو حسن صحيح. وله شاهد حسن صحيح عند النسائي برقم 5607 من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وأخرجه أحمد برقم 12120 بسند على شرط مسلم من حديث أنس. وله شاهد حسن في الشواهد من حديث خوات بن جبير عند الحاكم في المستدرك برقم 5745. وله شاهد حسن في الشواهد عن ابن عمر عند أحمد وفيه أبو معشر.
ولحديث «لعن الله اليهود لما حرم عليهم شحوم الميتة أخذوه وباعوه وأكلوا ثمنه» (1).
واستصناع الأسمدة من المخلفات الحيوانية للزراعة جائز؛ لعموم العفو عن كل مسألة لم تحرم (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا)(المائدة: 101)، سواء مأكولة أو غير مأكولة للعموم، إلا ما كان من الخبائث كالبول والغائط الإنساني لعموم تحريم الخبائث، ولوجوب الاستنزاه منهما في البدن والثوب والمكان لعموم العلة في حديث الصحيحين أن رجلاً كان لا يستنزه من البول فعذب في قبره (2).
وللعن من يتخلى أي يتغوط في الطريق وتحت الشجر المثمر وفي الظل (3).
واستعمالها سمادا زراعيا أشد من معنى التخلي، فيحرم.
وصناعة الأصنام محرمة، فيحرم عقود استصناعها وبيعها، ويستثنى ما كان للعب الأطفال، لورود إقرار الشرع عليها، وأصنام الأزياء كلعب الأطفال في الحكم؛ لأنها ممتهنة.
وصناعة أصنام الزعماء والحكام محرم؛ لأن مقصودها التعظيم.
وكذا العلماء والأنبياء والرسل وهو أشد تحريما لغلبة تعظيمها وأدائه إلى الاعتقاد المحرم فيها عند العوام (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا* وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا)(نوح: 23 - 24).
وهذه أسماء عباد صالحين صنعت لصورهم أصنام ثم جاء من بعدهم فاعتقدوا فيها الضر والنفع، فضلوا وأضلوا كثيرا.
والعقد الصناعي في الأرض إن كان لصناعة أرض كردم جزء من البحر أو جسر عليه أو نفق فيه أو صناعة جزيرة لغرض.
فهذه وأمثالها جائزة؛ لعموم (سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)(لقمان: 20)، ولعموم (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) (البقرة: 29).
(1) - تقدم تخريجه.
(2)
- تقدم تخريجه.
(3)
- تقدم تخريجه.
فعموم التسخير والتمليك يقتضي حل التصرف، ومنه هذا. ويشمله عموم حل التجارات (إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29).
وعندي أن يختص هذا النوع باسم مستقل هو «العقود الإنشائية» وهي أنواع ومنها عقد المقاولات والعقود الهندسية؛ لأن الصنع هو إيجاد شيء مستخلص من مواد خام، أو هو تحويل المادة من طبيعتها الخام إلى منفعة أو تحويل المادة من طبيعتها الخلقية الخام إلى وضعها المنفعي الغائي.
والإنشاء إيجاده بالمواد المصنعة، وبالمواد الخام، فيقال: صنع سيفا، وأنشأ بيتا.
- العقود الصناعية في الثروات:
وأما الثروات وهي خمسة عشر نوعا فيتعلق بها عقود صناعية كثيرة: فالثروة الجوية تجري فيها عقود استصناع الطائرات، وقطع غيارها، ومحركاتها، وصناعة مستلزمات المطارت والطيران التشغيلية والخدمية.
وإنشاءُ المطارات هو عقد إنشاء لا استصناع، وقد يشمل على استصناع بعض المواد بمواصفات، ولا تعارض في اجتماع المعاني في عقد واحد.
وفي الثروة البحرية على صناعة السفن وسائر النقل البحري وقطع غيارها وموادها ووقودها، وتجري في الصناعات البحرية والأحياء والنبات والمواد المعدنية والملحية والصخرية والنفط والغاز والحلية.
وفي الثروة الزراعية على صناعة الأسمدة والآلات الزراعية للحرث والحصاد والمطاحن والتغليف والنقل وصوامع الغلال، وغيرها.
ومن الثروة النباتية عشبية وخشبية على صناعة الخشب والدواء، والعطور، والروائح والزينة والوقود، وغير ذلك.
والعقد على الصناعة بمواصفات معينة، والصناعات النفطية والغازية، وكذا على المواد الاستهلاكية -ملبوسةً، ومأكولةً، ومشروبةً- ومستعملات الزينة والإلكترونيات، والتسلح، ومنتجات النهضة التكنولوجية الحديثة.
كل هذه الأنواع تجري فيها العقود الصناعية، والاستصناع، والإنتاج والإنشاء، وكل بحسبه.
وكافة ما يمكن صناعته يجوز إبرام العقود في تصنيعه ما كان، لا محرم.
والوسيط الصناعي جائز، فلا يلزم كون العقد مع الجهة المباشرة للتصنيع، بل يجوز عبر وسطاء من بنوك وشركات وأشخاص وجهات يعقد معها.
وتتولى العقد، وتكون مسئولة أمام المشتري عن المواصفات المطلوبة، ولا علاقة للمشتري بالمُصَنِّع المباشر حينئذ.
وإن كانت السلعة المطلوب تصنيعها جاهزة بنفس المواصفات فله شراؤها للعميل، ولا يلزم صناعة أخرى مماثلة إلا إن كان شرطا؛ للزوم الوفاء بالشرط، لأنه جزء من العقد الواجب الوفاء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1).
عقد الإنشاء والمقاولات:
وعقد الإنشاء نوع من الاستصناع، ويختص عرفا بالمباني والإنشاءات الخدمية كالعقارات والجسور والطرق، وصيغها عقد مقاولات.
ويجوز لمقاول مقاولة العمل لمقاول آخر بالباطن أو العلن، لجري التعامل على ذلك في العرف التجاري، فهو مشمول بعموم الإباحة الأصلية والنصية للبياعات والتجارات، ولا مانع منه شرعا، والأصل عدم المانع.
ويكون الأول هو المسئول أمام المالك أو وكيله؛ لأنه طرف العقد؛ فهو ملزم به وضامن تنفيذه، ويكون المقاول الآخر مسئولاً أمامه وضامناً تنفيذ ذلك.
ويجوز أن يكون طالب عقد الصناعة أو الإنشاء هو المنشئ والصانع نفسه، كأن يطلب من جهة كبنك أو شركة أن تصنع له آلة أو تنشئ له عقارا وهو يتولى الصناعة والإنشاء.
عقود الإنتاج الإعلامي والأعمال الفنية
والعقد لإنتاج مادة إعلامية مسموعة، أو مرئية، أو مقروءة، جائز.
وهي من العقود المعاصرة الجديدة، وليس لها نظير فيما سبق، والعقد الاستثماري فيها