الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا بد لإقامة الحياة من إقامة الضروريات والحاجيات والتحسينيات، ولا يستطيع أحد توفير هذه الثلاث إلا بغيره، ومن غيره، ومع غيره، وفي غيره، فالأولى التعاون، والثانية التبادل والأخذ والعطاء، والثالثة الشراكة، والرابعة المجتمع والقبيلة والشعب والدولة والأمة.
والأرض فيها الكفاية للبشرية جميعا لقوله تعالى (وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ)(إبراهيم: 34)، وقوله تعالى (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ) (فصلت: 10)، وقوله تعالى (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا* أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا) (المرسلات: 25 - 26)، والكفت أي الضم، أي ضمتهم أحياء وأمواتا، ويلزم من هذا وجود الكفاية للبشرية فيها؛ لاستحالة عدمها أو نقصها؛ لأدائها -حينئذ- إلى تلف الأنفس وهذا مستحيل، لأنه خلاف مقصود الشرع من الاستخلاف في الأرض.
فدعوى نقص الموارد باطلة تستخدمها قوى الهيمنة للهيمنة.
والكفاية البشرية مشتركة بالتبادل على وجه المعاوضة أو غيرها، فما فاض من الضروريات والحاجيات في موطن كان ضرورة أو حاجة لموطن آخر.
ولهذا فمقاطعة دولة في مواردها الضرورية والحاجية ضرر إنساني، والقرار السياسي بذلك باطل، فإن كان ولا بد فإنما يكون بمقاطعة سياسة الدولة كدولة لا كشعب، فهو ظلم «يا عبادي إن حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا» (1).
والأرض موضوعة على الاشتراك الإنساني (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ* فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ* وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ)(الرحمن: 10 - 12).
فهذه الغذائيات والنباتات الأربع ضرورية وحاجية وترفيهية تشترك فيها البشرية جميعا، وكل بلد اختصت بنوع يفيض عنها يحتاجه الآخر.
-
وفرة القوت تساوي الطلب:
وكل ما في الأرض موضوع على الكفاية التامة للبشرية بالتقدير الإلهي (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا
(1) - تقدم تخريجه.
فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ)، فقدر القوت لكل من سأل القوت من بشر أو حيوان أو جن، دليله قوله تعالى (سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ) أي الأقوات مستوية مع الطلب (1)، فكل طالب للقوت واجد له لا كل محتاج، وإلا لقال «سواء للمحتاجين» .
وهذا يعلل حصول الفقر بأنه ناتج عن عدم الطلب، إما للعجز والقصور من الطالب، أو لحصول موانع، وقد تكون الموانع نفسية كالعي، أو خارجية كالاضطرابات والحروب والإحصار والجوائح السماوية، وقد قال الله سبحانه (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة: 283)، فوصف الفقير بأنه من لا يستطيع ضربا ولا تقلبا في الأرض للرزق.
وهذا من تعليل الحكم بمناسب؛ إذ عدم التقلب طلبا للرزق مؤد إلى الفقر.
وقال سبحانه (لإِيلافِ قُرَيْشٍ* إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ)(قريش: 1 - 4). فجمع بين توفر الأمن والغذاء والتقلب في الحركة التجارية والائتلاف والاستقرار.
والموانع السابقة وجودها وعدمها ناتج عن الكسب البشري.
وكذا جميع الظواهر العامة ناتجة عن الكسب البشري صلاحا وفسادا، قال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف: 96)، وقال سبحانه (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41).
(1) - «سواء للسائلين» .. هو متعلق بما قبله، وهو بارك، قدَّر، جعل على التنازع كما قرره غير واحد من أهل التفسير. وخلاصة كلام أهل التفسير لا يخرج عن هذا، وعلى قراءة الرفع تكون الجملة مبتدأة لما سبق جميعا تقديره (وذلك سواء للسائلين).
ومما يؤيد ما ذهبنا إليه ما قاله ابن جرير الطبري في تفسيره (20/ 390): «سواء» بالنصب وقرأه أبو جعفر القارئ: (سواء) بالرفع، وقرأ الحسن:(سواء) بالخفض. والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قراء الأمصار، وذلك قراءته بالنصب لإجماع الحجة من القراء عليه، ولصحة معناه. وذلك أن معنى الكلام: قدر فيها أقواتها سواء لسائليها على ما بهم إليه الحاجة، وعلى ما يصلحهم. وقد ذكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ ذلك:(وقسم فيها أقواتها).