الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الرابع من الأموال: العين، أو الأعيان المالية
وهي ما تسمى بالأصول، وهي قسمان:
أولهما: الثابت، ويشمل العقار والمباني وسائر الأراضي.
ثانيهما: المنقول، ويشمل كل المواد الاستهلاكية والإنتاجية.
وكلاهما يشمل أربعة أقسام:
القسم الأول: الأرض والأصول التابعة واللازمة لها، وهي العمارة وموادها، والزراعة، والمياه، بحرية ونهرية وعامة.
القسم الثاني: الثروات الكامنة، وهي النفط والغاز والمعادن.
القسم الثالث: الأصول الإنتاجية.
القسم الرابع: الأعيان أو المواد الاستهلاكية.
القسم الأول: الأرض والأصول التابعة لها
الأرض هي الأصل الأول، أو أصل الأصول المالية، ويمكننا الاصطلاح على ذلك؛ لأنها أصل الإنسان (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (طه: 55).
وأصل الماء الذي هو أصل الحياة (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا)(النازعات: 31)، (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (الأنبياء: 30).
وأصل كل ما ينبت (وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)(النحل: 65).
ويتعلق بها أحكام كثيرة، والانتفاع بالأرض بأنواع الانتفاعات جائز؛ لأن هذا أصل مقصود من وضعها شرعا (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ) (الرحمن: 10) أي: منافعهم من عمارة وبناء وغير ذلك، وقال تعالى (وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا) (الأعراف: 74).
والاستخلاف في الأرض انفرد به الإنسان بحكم الله وقضائه في ذلك، وما سواه من الخلق جناً وحيواناً وإمكانات متممات ابتلائية (فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (الأعراف: 129).
فالتصرف المطلق المباح الانتفاعي مقصور على الإنسان.
وقلنا «المطلق» ؛ لأن تصرف غيره من المخلوقات مقيد محصور، فلا يحق التصرف الاستخلافي التام المطلق لا لملك ولا جن ولا حيوان، فالملائكة سيارون نورانيون مكلفون جبلة ولا سكن لهم في الأرض؛ لعدم حاجتهم للسكن أصلا.
والجان والشياطين ناريون من مارج من نار سكنهم من الأرض للابتلاء لا للاستخلاف بلا معارضة التصرف الإنساني الاستخلافي في الأرض.
والحيوان له حقه من الأرض (مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ)(عبس: 32)، «ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» (1).
ولكل رزق وحق حياة، ولكل مستودعاته وسكنه (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَاّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (هود: 6).
وكل ما على الأرض وفيها مملوك للإنسان ملك انتفاع مباح (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً)(البقرة: 29).
ومقتضى الملكية أن ما على الأرض وما فيها مال يتملك وينتفع به. ثم هو أقسام:
فما يتملك للفرد نوع، وما لا يمكن لفرد تملكه بل لتجمع خاص، أو لمجتمع، أو لشعب كالمال العام، أو لأمة كالعربية والإسلامية وهو الملك الدولي برا وبحرا وجوا، ومنه ما لا يمكن تملكه لفرد أو مجتمع أو شعب أو أمة بل هو مملوك على جهة الاشتراك العام الإنساني، فلكل الانتفاع به بلا ضرر بانتفاع آخر كالمياه البحرية الدولية، والأجواء الدولية.
والملك للأرض على سبع درجات:
الأولى: الملك الأصلي، وهو لله تعالى.
الثانية: الملك الإنساني، وهو بالاستخلاف المنصوص.
الثالثة: الملك الدولي.
الرابعة: الملك العام، وهو المال العام.
الخامسة: الملك المجتمعي.
(1) - تقدم تخريجه.
السادسة: الملك المشترك الخاص.
السابعة: الملك الخاص.
فأما الأول فهو قطعي ظاهر، وكذا الثاني غني عن الشرح.
وأما الملك العام فقد تكلمنا عنه في فقه الدولة في فقه المال العام.
وأما الملك الدولي فهو ما تملكه كل دولة من أرض تقيم عليها سيادتها ودولتها ولها التصرف التام بها وفق المصلحة العامة المعتبرة؛ لأن تصرف الولاة منوط بالمصلحة العامة الخالصة أو الراجحة.
فالدولة مكلفة بالفرض العيني بالدفاع والدفع والنهوض بالبلاد، والحفاظ على أراضيها وسيادتها وثرواتها ومواطنيها وقاطنيها ومصالحها كافة (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج: 41).
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي سياسة الإصلاح العام في كل ما تحتاجه البلاد.
وملكية الدولة على أراضي وطنها لا تخول لها بيع شيء من أرض الوطن أو التنازل عنه لدولة أخرى؛ لأن ملكيتها ناتجة عن الولاية على الشعب.
والولاية وكالة ونيابة قائمة على النظر المصلحي، وباطلة في الضرر، وهذا من أشد الضرر وأعلاه إلا أن يكون بتفويض شعبي عام في عين قضية بعينها لدفع نزاع في قضايا الحدود ونحو ذلك.
والدولة لها حق التصرف المصلحي العام في أراضيها برا وبحرا وجوا، وفرض عليها حماية الحدود دفعا للضرر (1)؛ لأن هذه الأمور من سياسة الإصلاح العام ودفع المفاسد وهي من مقصود (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج: 41)، فهي نوع من الأمر والنهي.
ويحرم على الدولة أن تفتح أراضيها البرية أو الجوية أو مياهها الإقليمية لدولة لضرب دولة مسلمة أو مستضعفين مستجيرين.
(1) - من إدخال ضرر على الشعب من مخدرات أو أمراض أو مواد كيماوية سامة تضر بالوطن أو أدوية تالفة أو عصابات دولية تمر عبر الحدود منها وإليها، أو عدوان من دولة على حدودها ..
ولا يجوز التمكين لدول الكفر أن تضرب أهدافا داخل أراضي الدولة؛ لأن هذا من أعظم الضرر وأعلاه، لأن وجود الدولة قائم على حماية شعبها مواطنين وقاطنين ومستجيرين وعكسه محرم، وهو تعاون على الإثم والعدوان وخيانة لأمانة الولاية وهو مبطل لها بشروطه، ولأنه عاد على مقتضياتها المصلحية الكبرى بالإبطال.
ولأنه يحرم قطعا إعطاء معلومات مجردة للعدو على المسلمين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء)(الممتحنة: 1)، وفتح الأجواء أعظم وأشد، فقطعية تحريمه أظهر من تلك.
ولأنه أعظم سبيل للكافرين على الدولة المسلمة وهو محرم بأدنى من هذا (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)(النساء: 141)، وهذا أمر بصيغة الخبر يفيد أشد التحريم وأبلغه.
ولأن المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه ولا يخذله بالنص (1)، وهذا أعظم الخذلان وأشده.
ولا يجوز للدولة السماح بوجود قوات دولية على أراضيها، لأنه امتهان وإذلال واستضعاف لسيادتها وقرارها وشعبها والأمة المسلمة جمعاء، وتقوية لعدوها، وهذا محرم غاية التحريم لعظيم مفاسده وضرره، ولأنه في أعلى أنواع الموالاة، فتحريمه أشد من تحريم موالاتهم بإيصال خبر إليهم برسالة في أمر للمسلمين الذي نزلت فيه الممتحنة.
والخلافات الحدودية بين دويلات العرب والمسلمين فرض حلها داخليا بصلح عادل ملزم لعموم (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)(الحجرات: 10).
وقلنا داخليا؛ لأن تدويلها مفاسده أكبر من مصالحه بالتجربة الواقعة، كأدائه إلى إذكاء الفتنة من أطراف دولية لها مصلحة في ذلك، وكاستغلاله كورقة ضغط على الدولة في قضايا مختلفة.
وقد ينتهي الأمر بإنزال قوات دولية بذريعة فض النزاع وحفظ السلام، وهذا غايةٌ في التمكين على رقاب المسلمين.
وإذا احتلت دولة كافرة جزءا من أراضي دولة مسلمة وجب على أهل الإسلام النفير العام
(1) - تقدم الحديث وتخريجه.
دولا وشعوبا، فإن عجزت الدولة عن الدفع تعين على المسلمين دولا وشعوبا الدفع جهادا في سبيل الله بما يدحر الاحتلال (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا) (البقرة: 190)، (وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) (البقرة: 191)، (وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (التوبة: 13)، (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَاّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) (الحج: 40).
وفرض أن تتكتل دول الإسلام على ذلك (وَالَّذينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلَاّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)(الأنفال: 73)، فإن لم يقم حكام الدول الإسلامية بالدفع والتحالف، وجب عند استطاعةٍ وأمن فتنةٍ خلع معرقل ومخذل ومثبط منهم؛ لأن بقاءه يفتح ما حذر الله منه في النص (إِلَاّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال: 73).
والفتنة أشد من القتل بالنص، والفساد الكبير واجب دفعه، ويحرم طاعة متسبب فيه، وولايته محرم لحرمة طاعته (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (الشعراء: 151 - 152).
وأي حاكم لدولة مسلمة يصد عن إيجاد تحالف دول الإسلام يعتبر شرعا مسببا لوقوع الفتنة والفساد الكبير في الأرض المحذر منه في النص، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وعزله يكون عبر مؤسسات الدولة المخولة بذلك أو بثورة سلمية شعبية عامة إن غلبت مصالحها على مفاسدها ويحرم الخروج المسلح لغلبة ضرره.
وفرض الآن أن توجد الدول العربية الإسلامية حلفا مدنيا وعسكريا بينها لتحقق العلة في النص ووجودها بتحالف دول الكفر (وَالَّذينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلَاّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)(الأنفال: 73).
والحلف العسكري يشمل قوات مسلحة حديثة تكافئ القوى الدولية لحماية دول العرب والمسلمين.
والحلف المدني يشمل كافة وسائل النهضة الحديثة التعليمية والاقتصادية والتكنولوجية والصناعية وغيرها.
ويقوم الحلف المدني بإيجاد شركات كبرى حديثة للتنقيب عن الثروات في البلاد العربية والإسلامية عوضا عن شركات دول الهيمنة؛ لأنه يحقق تمام المصلحة للمسلمين، وما حقق تمام المصلحة طلب وقصد شرعا؛ لأنه من الإحسان (وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195)، و (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90).
ولأنه يعود بالمصلحة على دول المسلمين وسياساتها واقتصاداتها فطلب شرعا.
ولأن المسلمين بعضهم أولياء بعض (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ)(التوبة: 71)، ومن الموالاة تقوية بعضهم بعضا بأنواع القوة، وهذه المسألة منها؛ لأن التعاون في مجال التنقيب عن الثروات النفطية والغازية والمعدنية من أهم ركائز القوة المعاصرة فضلا عما يتبع ذلك من تشغيل لليد العاملة ونشاط اقتصادي وبنية تحتية، وهذه مصالح كبرى عامة فوجب أن تتعاون دول الإسلام في ذلك، وهو مشمول بعموم (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: 2).
وكل من دخل أرض الدولة من المسلمين فهو آمن.
ويحرم طرده أو سجنه إلا مفسدا.
أما غير هذا من أهل الإسلام فالأصل حرية دخولهم وتنقلهم في أراضي أي دولة عربية وإسلامية، بالجواز أو البطاقة الشخصية؛ لأن الله أباح ذلك على وجه العموم (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ) (العنكبوت: 20)، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك: 15).
ولأن أرض الإسلام أورثها الله لأهل الإسلام الصالحين (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)(الأنبياء: 105)، وأهل الإسلام مقصودون بهذا لأنه نزل النص إليهم ويستحيل أن يراد غيرهم، لنقض المعنى مقصود الشرع من التمكين للمؤمنين، إذ يكون المعنى: كتب أن الأرض يرثها عباده غير المسلمين، وهذا محال.
ولأن التمكين وإزالة الخوف مقصود شرعي لأهل الإسلام (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا)(النور: 55).
وطرد وسجن مسلم مسالم غير فار بفساد أو جناية لمجرد دخوله دولة عربية وإسلامية
بدون تأشيرة من أنواع المظالم؛ لأنه منع لمسلم من حق مباح بلا مصلحة معتبرة شرعا سوى العصبية الوطنية، وزيادة القطيعة والفرقة بين بني الإسلام مع فعل الأمم غيرهم اليوم من الكافرين نقيض ذلك، فأجازوا لمواطني دولهم الدخول إلى بعضها بمجرد البطاقة الشخصية.
وفعلهم معلل بالمصلحة الوطنية المدروسة المعتبرة؛ لأنه يحقق مصالح كبيرة في الوحدة والجماعة والتحالف المدني والعسكري.
فدل على أنه مصلحة معتبرة، وهي من مفردات المصالح الخادمة للتحالف والموالاة المقصودة في قوله تعالى (وَالَّذينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلَاّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)(الأنفال).
ولا مانع من اتخاذ إجراءات لدفع المفاسد حال التنقل لا منعه البتة، أو تعسيره بإجراءات تخدم المفاسد كالفرقة والقطيعة بين دول الإسلام وأهلها.
ومن دخل بلاد المسلمين من غير المسلمين بتأشيرة، فهو آمن لا يجوز الاعتداء عليه بأي نوع من العدوان، سواء كان كتابيا أو وثنيا أو لا دينيا، جاء لعمل دبلوماسي أو لسياحة أو زيارة أو لتجارة أو غيرها.
ومن أخفر أمنه فاعتدى عليه فهو ضامن، وعليه لعنة الله ورسوله والمؤمنين بالنص (1)، وقد قضى عمر بقتل من قتل محاربا كافرا أعطي الأمان (2).
ويجوز التنقل والسفر في الأرض لأي إنسان في الأصل (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ)(العنكبوت: 20).
فإن كان لمعصية أو إضرار بآخر حرم (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ)(البقرة: 205).
وقلنا التنقل والسفر ليشمل النوعين: ما له حكم السفر وما ليس له؛ وذلك لاختصاص المسافر بأحكام قصر الصلاة الرباعية وجمع الظهرين والعشائين تقديما وتأخيرا لثبوته.
(1) - تقدم تخريجه.
(2)
- تقدم تخريجه.
ويجوز القصر عند خوف فتنة الذين كفروا بالنص (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا)(النساء: 101).
ويفطر المسافر رخصة ويقضي صوم الفرض (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)(البقرة: 185).
وإذا ركب دعا (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ).
وإذا صعد نحو جبل كبَّر.
وإذا انحدر سبح الله (1).
ويكبر إذا أقلعت الطائرة ويسبح حالة استوائها وهبوطها قياسا لعدم الفارق المعتبر.
والهجرة إلى أرض جائزة، فإن كانت فرارا من فتنة في دين وجبت (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا) (النساء: 97).
ولعلم (فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(التوبة: 122).
وتجب إن لم يتم إلا بها تعلم فرض عين أو كفاية، دينا أو دنيا.
وللبحث والنظر (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ)(العنكبوت: 20).
وللعبرة والبحث (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)(النمل: 69).
ولطلب الرزق (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ)(المزمل: 20).
ولجهاد (وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)(المزمل: 20).
ولعلاج؛ لأنها وسيلة إلى دفع الضرر.
ويجوز السير ليلا أو نهارا (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ* وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(الصافات: 137 - 138).
وإذا سار في الثلث الأخير من الليل أو السحر دعا بالمأثور «عياذا بالله من النار: اللهم
(1) - أخرجه البخاري برقم 2993 عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا.
صاحبنا في سفرنا» (1).
والآثار التاريخية في الأرض يحافظ عليها؛ لأنه تحقيقٌ لمقصود الشرع في الأمر (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)(النمل: 69)، ولا نظر إلا بوجود هذه الآثار، والأمر بإتلاف الأصنام هو لما كانت تعبده العرب في مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، ولذا لم يأمر بهدم أصنام ومعبودات القرى البائدة لما مر عليها، وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع (2).
وتستغل الآثار سياحيا، ولا يجوز لأحد بيعها بل هي ملك عام للدولة.
وينتقل عن أرض فرارا من معصية لا يمكن تركها إلا بذلك لحديث «أن رجلا من بني إسرائيل قتل مئة نفس .... » (3).
وأخذ جنسية دولة أخرى جائز ولو دولة كفر؛ لأن وصف الدين والوطن لا يتضادان كصهيب الرومي، وحديث «أنا بريء ممن أقام بين ظهراني المشركين» (4) محمول على ما قبل الفتح لعموم «لا هجرة بعد الفتح» (5)، أو على بلد محارب لأنه قد يصاب ويهدر دمه (6).
والفساد في الأرض محرم بأنواعه (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ)(البقرة: 205).
وإذا صنفت الجريمة فسادا في الأرض فحدها حرابة (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
(1) - أخرجه مسلم برقم 7075 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في سفر وأسحر يقول «سمع سامع بحمد الله وحسن بلائه علينا ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذا بالله من النار» .
(2)
- انظر فقه «الفن وفقه السياحة» من كتابنا هذا.
(3)
- أخرجه البخاري برقم 3470 عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا ثم خرج يسأل فأتى راهبا فسأله فقال له هل من توبة قال: لا فقتله فجعل يسأل فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا فأدركه الموت فناء بصدره نحوها فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله إلى هذه أن تقربي وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي وقال قيسوا ما بينهما فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له. وهو في مسلم برقم 7184.
(4)
- تقدم تخريجه.
(5)
- تقدم تخريجه.
(6)
- أنظر «فقه الأقليات» .
وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33).
ويحافظ على جمال الأرض عمارة وبيئة لعموم «إن الله جميل يحب الجمال» (1).
ويجوز في الأصل أنواع الزخارف المعمارية والأشكال والزينة (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ)(الأعراف: 32).
وارتفاع بناء مباحٌ كناطحات سحاب، وحديث «يتطاولون في البنيان» (2) إخبار لا ذم، ولا تلزم الحرمة بكون ذلك من أشراط الساعة؛ لورود ما ليس بمحرم وهو من أشراطها كحكم على منهاج النبوة والمهدي، وتقارب الزمان، وعودة جزيرة العرب مروجا وأنهارا.
والاستثمار في المستغلات المعمارية جائز؛ لأن التجارة مباحة، وهذا منها.
ويراعى في الفنادق والمستغلات عدم احتوائها على محرم كخمر ودعارة.
والاعتصامات في الساحات والميادين العامة مباحة، لتحقيق مصالح ودرء مفاسد عامة. وينظر العلماء من أهل الاجتهاد في ذلك الزمان وفي تلك البلدة، وقولهم هو المعتبر في ذلك تحليلا وتحريما بالنظر والموازنة بين المصلحة من الاعتصام، والضرر الذي قد يلحق بالمارة والأحياء، أو الضرر العام، وقد سبق الحديث عن هذا بشيء من التفصيل في موضعه.
ومن اعتدي على أرضه بغير حق دافع، فإن تعذر دفع الضرر قضاء فإن صال عليه معتد باغ رده بمثله (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194).
ومن قتل دون ماله فهو شهيد بالنص (3).
ولأرض الجزيرة أحكام خاصة، وحدودها كما أفاده ابن الأعرابي واعتمده الجمهور من عدن في اليمن جنوبا إلى بحر الشام شمالا، وإلى بحر الخليج والعراق بنهريها، وحدودها الشامية شرقا، إلى الأردن والشام المتاخم له وبحر جدة والبحر الأحمر غربا (4).
(1) - تقدم تخريجه.
(2)
- هو في الصحيحين وقد تقدم تخريجه.
(3)
- تقدم الحديث وتخريجه.
(4)
- انظر معجم البلدان (2/ 137) وما بعدها، ط/ دار الفكر.