الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا أذكر الآن نصا صحيحا صريحا يدل أنه قطع في تلك الحادثة فإن اختلفت الروايات أورثت الشبهة (1).
أما الضمان والكفالة:
فالضمان إما على الأموال، أو على من تعلقت بهم الأموال من الأشخاص.
فأما الأولى: فهي أن أموال الناس محفوظة بحفظ الشرع، فمن أهدر الحفظ فقد اعتدى، والعدوان محرم (وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: 190).
ولا يجوز أن تصل أموال الناس إلى بعضهم إلا بطريق من طرق خمس: معاوضةُ بيع أو تجارة. أو معاوضة إكرام وتعويض وهي ما لا يقصد به الربح. أو طريق التبرع والتبرر. أو طريق الفرض الشرعي كالمواريث والزكوات والإنفاقات. أو طريق الإرفاق وهي تشمل اللقطة والوديعة.
وكل طريق غير هذه لوصول أموال الناس إلى بعضهم فهي محرمة؛ لأنها إما غصب، أو سرقة، أو خيانة، أو خداع وغش.
وسواء وصل إليه بهذه الطرق: سهماً أو نقداً أو عيناً أو حقاً أو منفعة.
أنواع الضمان:
والضمان وارد للأموال في جميع هذه الطرق.
فضمان التجارة ما أتلفه المشتري حال السوم وما أتلفه المضارب والمستأجر والأجير في العمل أو النقل، وما أتلفه الوكيل التجاري، وضمان الدرك، وضمان العيب، وضمان الجودة، وضمان توفير غيارها وصيانتها، وضمان الصلاحية، وضمان المواصفات المطابقة، أما ما كان في الإرفاق فضمان الودائع، وضمان المرهون، وضمان العواري.
وأما الضمان على الأشخاص: فضمان حضوري، أو ضمانٌ تجاري مسلم أو خطاب بنكي،
(1) - ثم تتبعت طرق هذا الحديث، أعني حديث «فهلا كان قبل أن تأتيني» فوجدت اختلاف الأئمة فيه، فمنهم من أعله بالاضطراب. وأما حديث «أيما حد بلغني فقد وجب» فأعله الدارقطني بالإرسال. وقال عبد الحق -كما نقله عنه ابن الملقن في البدر المنير في تخريج الأحاديث والأثار الواقعة في الشرح الكبير (8/ 652): لا نعلم يتصل من وجه يحتج به. قلت: وما ذهبت إليه هو ما رجحه الإمام أبو حنيفة عليه رحمة الله.
ولنبدأ بالسوم فنقول:
ضمان السوم يكون بتلف السلعة في يد المشتري حال المساومة، فالواجب فيها القيمة لا المثل؛ لأنها موضوعة في السوق على ذلك أي: بيعها بالقيمة؛ ولأن العادة التجارية جرت على هذا والعادة محكمة؛ فلا يكلف المثل ولو كانت السلعة مثلية، إلا في غير المعروض للبيع كمن أتلف مالا لآخر غير معروض للبيع بعمد أو بخطأ، لأن المقصود منه اقتناؤه، فيكلف بالمثل ثم القيمة عند التعذر، ودليل الضمان قوله تعالى (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (النساء: 29)، وحديث «طعام بدل طعام وإناء بدل إناء» (1)، وحديث «إن أموالكم عليكم حرام» (2).
ووجه الاستدلال بالآية تحريم أكل المال بالباطل، والباطل هو ما لم يكن بعوض أو برضا من غير عوض كهبة، والإتلاف في حال السوم وغيره ليس بمعاوضة ولا هبة، فإن أهدرناه صار إتلافا لأموال الناس بالباطل فوجب ما كان له من العوض في المعاوضة الصحيحة المماثلة أو القيمة، ولأن الله أمر بالمثل في جزاء الصيد وأحال في التقدير بالحكم على عدلين.
ومقصد الشريعة حفظ الأموال، والضمان للمتلفات خادم أصيل لهذا المقصد؛ لأن عدم التضمين ينقض مقصد الشرع في الحفظ، ويؤدي إلى إهدار حرمة الأموال وأكلها بالباطل وهذا خلاف النصوص والمقاصد.
وإنما يكون الضمان بالعدل والإحسان لعموم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)(النحل: 90)، فمن أتلف حال المساومة التجارية ضمن الثمن؛ إذ هو مقصود التجارة؛ ولأنه محل اتفاق البائع والمشتري؛ إذ الأول لا يريد من التجارة إلا تحصيل أثمانها. والثاني إن أبى كلف بالمثل المطابق، وأدى ذلك إلى شرائه لها من آخر بثمن، فرجع الأمر إلى دفع الثمن فيدفعه أولا.
هذا عند التشاحن والتشاح؛ فإن تراضيا على الثمن أو المثل جاز؛ لأن مقصود الشرع حفظ الأموال وعدم الإضرار، وقد تحقق.
ويحكم بينهما عدل عارف بالثمن، أو القيمة السوقية إن اختلفا؛ فإن لم يرض البائع بالثمن
(1) - تقدم تخريجه.
(2)
- تقدم تخريجه.
أو المساوم المتلف فلا يلزم غير المثل المطابق بأي ثمن؛ فإن عسر وجوده، أو ليس من المثليات أجبر الطرفان على تقويم عدلين عارفين؛ لأن الشرع أرجع التقويم في إتلاف ما يحرم إتلافه إلى عدلين (وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) (المائدة: 95)، ولأن هذا قاطع للتنازع، فتعين طريقا؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
أما ما تلف في المضاربة: فإن أتلفه أجنبي فهو هنا على العامل؛ فإن أهمل العامل متابعة التضمين فهو ضامن؛ لأنه مفرط.
أما لو كان الإتلاف من جهة عامل المضاربة؛ فإن كان بتفريط فهو ضامن بلا خلاف على الأصل، وإن كان بلا تفريط كأن غرفت السفينة، أو احترق المحل، أو انقلبت الناقلة، ولا يد له في تفريط فلا ضمان عليه؛ لأن هذه من الجوائح التي يقع الابتلاء بها، فإن ظهر تفريط أو خيانة ضُمِّن، ولا يثبت ذلك إلا بالبينات العادلة.
وأما ضمان المستأجر للدار أو الأرض أو العربة أو الناقلة، وكذا كل منقول مستأجر، فالضمان فيه عند التفريط بلا خلاف؛ لأنه الأصل، ولأنه مأذون له في المنفعة بعوض لا في الإضرار بالعين ضررا فاحشا؛ فكان تعديا إلا إن جرت العادة على عدم التضمين مطلقا، أو في أمور معينة، فالعادة محكمة لأنها قائمة على التراضي المشروط عرفا (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) (الأعراف: 199)، (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق: 6).
وما جرت به العادات من الضرر أثناء الانتفاع فهو هدر؛ لأنه عادةً لا يمكن استيفاء المنفعة المعاوض عليها إلا بشيء من الضرر؛ فإن فحش فقد خرج عن العادة؛ فيضمن.
وكذا لو شرط في العقد الضمان فهو ضامن، لأن الشرط جزء من العقد؛ فوجب الإيفاء به (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1) إلا ما لا يمكن استيفاء المنفعة إلا به.
بخلاف المضاربة، فلا يشترط ولا يصح شرط لأدائه إلى ضمان الخروج من الخسارة لصاحب رأس المال مطلقا، سواء خسر العامل أو لا، وهذا باطل؛ لأنه ضرر فاحش على العامل.
وأما ضمان الأجير المشترك أو الأجير العام فعلى الأصل أنه يضمن.
أما الأجير الخاص فلا؛ لأن يده مع يد صاحب الملك مشتركة، ولا تضمين مع اشتراك
الأيدي (1)، وهنا تجري قاعدة: الأجر والضمان لا يجتمعان.
والوكيل بأجرة أو بغيرها إن قبض لموكله شيئا ثم تلف في يده فمحل حكم الأصل الذي هو الضمان، إن كان بتفريط ضمن، أو كان بلا تفريط فهو قسمان: إن كان خارجا عن العادة كأمر لا مدفع له ولا تسبب له من طرفه كحصول انقلاب سيارة هو فيها ومعه المال المقبوض فتلف جراء الحادث فلا ضمان.
أو كان هو من فعله كأن كان هو السائق؛ فيدفع الضرر عنهما بقدر الإمكان صلحا؛ لأن الله يأمر بالعدل والإحسان، وهذا منه.
وأما ضمان الدرك فهو: ضمان السلعة من ظهور عيب أو استحقاق وهو جائز؛ فإن حصل ضمان الدرك فهو جزء من العقد المأمور بالإيفاء به، ومنه ضمان المطابقة للمواصفات، وضمان الصيانة، والصلاحية والجودة وتوفير قطع الغيار.
وقاعدة الضمان خلاصتها أن الأصل في الأموال الضمان، وما تلف على خلاف العادات فيه فهو مضمون؛ لأنه يغلب فيه التفريط؛ لأن ما تلف والعادة عدم تلفه فالتفريط ظاهر، وما جرت العادة على إمكان إتلافه كثيرا فينظر إلى العادة في التضمين.
لأن ما كثر حصوله وأصبح عادة يكون تعامل العادة معه بالتضمين أو عدمه هو ما تراضى الناس عليه؛ فيعمل به.
والغالب التراضي على ما يتسامح فيه أنه لا ضمان.
والغالب التراضي على ضمان ما لا يتسامح فيه من الأموال عادة؛ لكونها تعود بالضرر الفاحش على مالكها.
وقاعدة أخرى هي: كل مدع للتلف بلا ضمان فهو خلاف الأصل؛ وعليه البينة لعموم «البينة على المدعي» .
وضمان الرهن إن تلف هو الأصل، ويضمن بالمثل أو القيمة.
وكذا الأصل في الودائع؛ لأن التلف خلاف أداء الأمانة؛ فأوجب النظر في التفريط من عدمه.
(1) - وقد تقدم في نظام الاستثمار وفي الإجارة وفي الفقه الوظيفي.
وتجري فيها القواعد السابقة.
وضمان العواري كذلك؛ فإن ادعى التلف ثبت الضمان؛ لأن مدعي التلف لما في يده كالمقر بالضمان ضمنا؛ ولا مدفع له إلا ببينة؛ لأنه مدع.
وأما الضمان على الأشخاص فهو عقد لآخر على آخر بمال يسلم، أو شخص يحضر، وهو واجب الوفاء؛ لأنه عقد فشمله عموم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1).
وللمضمون له مطالبة من شاء؛ لأن هذا هو مقتضى العقد؛ لأنه لو شرط عليه ألا يطالب إلا الأصيل فالضمان باطل.
ولو شرط عليه ألا يطالب إلا الكفيل فهو عقد حوالة بالحق من ذمة إلى ذمة وقع التراضي عليه، وهذا عقد مباح؛ فوجب الإيفاء به.
وأما ضمان الإحضار فالمطالب به هو الضامن؛ لأن هذا هو مقصود العقد، ويجب إلزامه عند لزوم الإحضار للأصيل المكفول عنه، ولم يحضر.
أو عند إمكان عدم حضوره بفرار أو نحوه؛ لأنه -أي الإحضار- محل العقد وزمانه ومقصوده.
أما اللقطة فهي مال ضائع يحل أخذه لمن وجده على سبيل التعريف.
وإذا كانت من بني آدم فهي «لقيط» وهو الطفل الرضيع الذي يجده شخص، ولا يعلم له أب ولا أم.
فاللقطة شرعت أحكامها حمايةً لمال الناس من الضياع ولو قلت.
ويجب لمن وجدها تعريفها سنة إن كانت مالا من غير المحقرات.
ويعرفها بما يحفظ حق الغير.
فإن جاء مدع للملك سئل عن بيان أوصاف لا يعلمها إلا من ضاعت منه للنص في ذلك (1).
(1) - أخرج البخاري برقم 2372 ومسلم برقم 4595، واللفظ للبخاري عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة. فقال اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها قال فضالة الغنم قال هي لك، أو لأخيك، أو للذئب قال فضالة الإبل قال مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها. وفي لفظ لمسلم برقم 4599 «فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه» .
ولا حد للأوصاف؛ فإذا لم يأت صاحبها بعد سنة؛ فهو بالخيار: إما أن يستهلكها فإذا جاء صاحبها يوماً ضمنها له بالمثل، أو القيمة للنص (1)، وإما أن يحفظها أمانة.
وضالة الإبل لا تؤخذ للنص «معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء والشجر حتى يجدها ربها» (2).
وضالة الغنم تلتقط، فهي «لك أو لأخيك أو للذئب» (3)، ويجري فيها ما مر من الأحكام.
ولم ينص على ضالة البقر لأنها لا تضل عادة لقرب مراعيها بخلاف الإبل والغنم، فإن ضلت عُرِّفت.
واللقطة من المحقرات كالسوط ونحوه تعرف ثلاثة أيام، ثم يجري فيها الحفظ أو الاستمتاع والضمان للنص (4).
ويجوز إنشاء مركز لحفظ اللقطة، والحرم في هذا وغيره سواء، ولا مانع من الإعلان عن الضوال في أي وسيلة إعلامية.
(1) - تقدم قبل قليل.
(2)
- تقدم قبل قليل.
(3)
- تقدم قبل قليل.
(4)
- تقدم قبل قليل.