الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما جاء بعده من المعاملات المستجدة إلى عصرنا هذا لا تخرج عن هذه الأصول، ولا حاجة إلى مشابهتها لعقد مسمى قديم، لأننا غير متعبدين بها كوسائل للمعاوضات، ومنع غيرها إلا إذا شابهتها.
فالعقود وسائل للتملك والانتفاع بما في الأرض؛ فكل عقد قديم كان وسيلة في زمن وقد يستجد في زمن آخر غيره باسم آخر وتراكيب أخرى، فلا مانع شرعا من هذا الاستحداث، ومن ادعى أننا متعبدون بتلك العقود محرم علينا استحداث غيرها فلا حجة له.
ومن ادعى أننا متعبدون بالاستخلاف في الأرض بكافة إمكانياتها المسخرة وبكل عقد خدم ذلك إلا إن طرأ عليه مانع به لا مفر منه فقد أصاب.
وإذا تبين ما تقدم وجب علينا بيان ما يناقض أصول المعاملات التجارية مما هو ضعيف وأدى التقليد بلا نظر فيه إلى استنباط أصول منه جعلت المعاملات الشرعية أشد صعوبة وارتباكا.
وقد آثرنا ذكرها في أول فقه الأموال لتكون كالقانون الكلي للناظر وشأنه أن يذكر في المقدمات لأن ما سواه مضبوط به أو دائر عليه.
-
ركن التراضي:
وركن البيع الرضى، وخلوه من مانع من الموانع الأربعة؛ لقوله تعالى (إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29).
والاكتفاء بالرضى في النص يشمل:
أ- كمال الأهلية، فلا بيع لمجنون ولا سكران ولا نائم ولا مغمى عليه؛ لعدم إمكان الرضى الحقيقي منهم، ولا صبي ولا سفيه ولا مكره إكراها ملجئا لنقص أهلية الرضى؛ لأن أصله من الرشد وكمال معرفة المنافع والمضار.
ب- وركن الرضى يقتضي أن يكون العاقد مالكاً، أوله وكالةٌ أو ولايةٌ؛ فيحرم بيع المسروق؛ لأنه غير مملوك للبائع، فلم يقع الرضى من المالك؛ فبطل البيع.
وهو مشمول بالنص (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)(النساء: 29)، وبيع المال
المختلس محرم، والعقد باطل لنفس العلة، وكذا بيع المنهوب والمغصوب إذا باعه الناهب والغاصب.
ج- ويجب ظهور ما يدل على الرضى في البيع من صيغة أو تصرف.
فالصيغة نعني بها كل ما أفاد تناقل الملك بين العاقدين بالمعاوضة، كبعت، وقبلت، ولو قدم أحدهما جاز، كقبلت الشراء فقال: بعت؛ لأن الشرع ترك النص على تفصيل هذه المسائل؛ فعلم صحة ما تراضى الطرفان على كونه ناقلا للملك بأي لغة، أو تصرف، وترك الاستفصال في قضايا الأحوال يحمل على العموم في المقال.
فكل صورة دالة على التراضي بالتعاوض جاز عقد البيع.
ولأن الله يقول (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا)(المائدة: 101)، أي عن المسائل التي لم ينص على تحريمها، وهذه منها، ويقول (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق: 6)، ويقول (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) (الأعراف: 199)، فدل على اعتبار جريان العادة بين الخلق في بناء الأحكام، فما جرت به العادات من ألفاظ تناقل الملك في المفاوضات والبيوع صح.
ويجب في اللفظ أن يكون صريحا في المطلوب على الرضى في التعاوض، والصراحة هنا عند المتبايعين، ومن لزم العقد حضوره من الشهود.
وقولنا «هنا» حتى لا يحمل على الصرائح اللغوية؛ لأنها قد تكون مهجورة في تعامل الناس.
وقولنا «من لزم العقد حضوره» ولم نطلق القول في الأشهاد؛ لأنه لا يقع في أكثر معاملات البيع البسيطة.
وقوله تعالى (وَأَشْهِدُوْا إِذَا تَبَايَعْتُمْ)(البقرة: 282) أمر على الإشهاد في البيع.
وقبله في نفس الآية الأمر بالإشهاد على الديون (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ)(البقرة: 282).
والأصل فيهما الإيجاب.
واستثني بالنص المعاملات التجارية الحاضرة الدائرة بين الناس (إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَاّ تَكْتُبُوهَا)(البقرة: 282).
والمقصود بها أكثر التجارات العادية اليومية التي تدور بين الخلق بيعاً وشراءً، ولو لم يرد هنا الاستثناء لوجب كتابة كل البياعات التجارية البسيطة الدائرة في الحاجيات اليومية، ولو محقرا، ولأدى هذا إلى التعذر وشدة الضيق والحرج على الناس في أرزاقهم، وللزم وجود شهود وكاتب على وجه الدوام في كل محل تجاري ولتعذرت التجارات التي يدور عليها رزق الخلق، وما عسر خرج عن مقصود الشرع في التيسير، فبطل.
ولا يكون الإشهاد شرطاً في البيع إلا فيما لا يتم إلا به عادة وعرفا، كبيع العقارات والسيارات.
وكل ما قضى العرف والعادة بالطعن في العقد لأجل الشهود فالإشهاد فيه ركن أو شرط لا يتم العقد إلا به؛ لأن العادة محكَّمة، والعرف معتبر (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) (الأعراف: 199)؛ ولأن دفع وسائل ضياع الأموال واجبة؛ فإن كان لا يتم الحفظ إلا به فهو واجب ركني أو شرطي كالإشهاد في البيعات التي لا يعترف بنفاذها وصحتها عرفا وعادة وقضاء إلا بها.
ولورود «البينة على المدعي واليمين على المنكر» (1).
(1) - قلت: حديث «البينة على المدعي .. » حديث حسن صحيح وثبوته متواتر معنى. وفيه أحاديث منها ما أخرجه الترمذي برقم 1342 عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن اليمين على المدعى عليه. قلت: إسناده صحيح على شرط مسلم. وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه.
ومن ذلك حديث عند الترمذي برقم 1340 عن وائل بن حجر عن أبيه قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا غلبني على أرض لي. فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي ليس فيها حق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه. قال: يا رسول الله، إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع من شيء. قال: ليس لك منه إلا ذلك. قال: فانطلق الرجل ليحلف له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما أدبر لإن حلف على مالك ليأكله ظلما ليلقين الله وهو معرض». قلت: هذا حديث صحيح على شرط مسلم. قال الترمذي وفي الباب عن عمر وابن عباس وعبدالله بن عمرو والأشعث بن أبي قيس. قال أبو عيسى حديث وائل بن حجر حديث حسن صحيح. قلت: وعند ابن ماجة برقم 2322 عن الأشعث بن قيس، قال: كان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك بينة؟ قلت: لا، قال لليهودي: احلف. قلت: إذا يحلف، فيذهب بمالي، فأنزل الله سبحانه:(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً) إلى آخر الآية. قلت: هذا على شرطهما.
وعند الترمذي برقم 1341 عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه. قلت: إسناده فيه العزرمي، وهو ضعيف والحديث صحيح من غيره.
فمدعي الملك أمام القضاء أو المحكَّم عليه بينة عادلة، ولا بينة غالباً إلا بإشهاد وإلا بطلت دعواه الملك، فوجب كركن أو شرط في البيع الذي لا يتم إلا به دفعا لضياع الحقوق والأموال.
وكتابة العقد والإشهاد عليه في كل معاملة لا يتم اعتمادها إلا بهما يدخلهما في الواجب الركني في العقد.
واعتماد كتابة عقود البيع والإشهاد عليها صريح في معرفة الرضى؛ لأنه ينبئ عنه صراحة.
وإصدار توثيق آلي من جهة معتمدة كشركة أو بنك أو بورصة يقوم مقام تعيين الشهود والكاتب؛ لأن المقصود الشرعي متحقق فيه بالأولى.
فتحصل من هذا:
أ- أن ركن البيع هو الرضى.
ب- وأن أركان الرضى راجعة إلى ما لا يستفاد إلا به من الأهلية واللفظ أو التصرف والإشهاد والتوثيق.
ج- والقاعدة التي نستنبطها من هذا أن أركان البيع وشروطه تتغير زمانا ومكانا وأحوالاً.
د- وأن أركان البيع راجعة إلى الرضى والمعرفة التامة بالسلعة والعوض؛ بما يفيد صراحة الرضا عن الصفقة، ولا يتم الرضا إلى بذلك، فأفاد الركنية.
فركن البيع في الجملة هو الرضى.
وأركانه بالبسط هي أركانٌ تحقق الرضى، وهي كل ما لا يتم معرفة الرضى وتحققه إلا بها.
وهي في عصرنا في كبار المعاملات كالعقارات والسيارات والشركات والمعاملات المصرفية ونحوها:
1 -
أهلية العاقدين، وهو يشمل العقل والبلوغ والرشد والأهلية على العقد بملك أو وكالة أو نظر.
2 -
صراحة اللفظ أو الفعل في البيع، ونعني بالصراحة ما عرف عادة أنه صريح من إيجاب وقبول لفظي أو فعلي.