الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقولنا «والربح غالبا» لأن من البيوع ما لا يقصد به الربح بل للتصريف والتملك، والربح مقصود في البيوع التجارية ولو لم يحصل، وفي البيوع المدنية وإن لم يقصد أحيانا.
وقولنا «بالتراضي» ركن البيع؛ لأنه بعدمه غصب أو إكراه.
وقولنا «من كاملي الأهلية» ركن لإخراج بيوع الصبي والمجنون وغير الرشيد من سفيه ومحجور عليه، ومن ليس له أهلية بيع السلعة لعدم الملك أو الوكالة أو الولاية.
وقولنا «بعقد» شمل الملفوظ والمكتوب.
وقولنا «خال من الموانع الشرعية» وقد حصرناها في خمسة تقدمت.
فشمل تعريفنا هذا أركان البيع وشروطه وتمييزه عن غيره وخلوه من مانع، وهذا هو العقد الصحيح شرعا.
وإن كان نقدا بنقد فهو صرف، وإن كان بتأجيل السلعة فهو عقد السلم.
فإن كان الثمن مؤجلا فهو بيع بآجل، وهو الدين.
وأحكام ذلك تقدمت إلا السلم والصرف.
-
عقود السلم
فالسلم هو شراء سلعة موصوفة في الذمة مؤجلة بأجل معلوم، بثمن معلوم.
وهل يلزم تقديم رأس المال في المجلس أو بعضه؟ الأصل جوازه، وحديث «نهي عن بيع الدين بالدين» ضعيف (1).
فيجوز أن يدفع بعضَه، ويؤجل الباقي إلى وصول السلعة، أو الكل تعجيلا وتأجيلا لعموم (إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29)، وهذه تجارة عن تراض، ولعدم وجود مانع من الموانع الشرعية الخمسة المعتبرة شرعا.
ولأن الله قال عن المسائل التي سكت عن تحريمها (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا)(المائدة: 101).
ولأن النص في «من أسلم في شيء فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم» (2)
(1) - تقدم تخريجه.
(2)
- أخرجه البخاري برقم 2240، ومسلم برقم 4202، واللفظ للبخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث فقال «من أسلف في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» .
لم يذكر تعجيل الثمن، فيبقى على أصل الإباحة تعجيلا وتأجيلا.
أما السلعة المسلم فيها فيجب وصفها بما يخرجها عن الجهالة، والنص دال على معرفة الكمية «كيل معلوم، ووزن معلوم» بمعايير المعرفة الكمية.
وهي لا تخرج عن كيل فيما يكال، ووزن فيما يوزن، وهي الحبوب.
والسوائل والأدوية ونحوها مما يضبط بمقاييس الأوزان والأحجام المعاصرة.
وجميع السلع في العالم الآن من الملبوس والمأكول والمشروب والمستهلكات لا تخرج عن هذا الضبط.
وأما العدد فهو الآن: فرع عن معدود من المقدرات والموزنات؛ فلا سلعة في التجارات في العالم إلا وهي مركبة من معايير بوحدات المليجرام، أو وحدات المليمتر.
حتى الإلكترونيات معلومة كل قطعة فيها في الواحدة وزنا، ومعلوم الوزن الكلي للواحدة، ولو بيعت بالعدد فلا عدد إلا مسبوق الوزن.
فمن زاد العد أو الذرع أو المتر في السَّلَمِ زاد معيارا لا ينضبط به حتى يعلم وزن الواحدة.
فعلم بهذا الدقةُ التقديرية في النص النبوي المزيلة لكل لبس على كل جهة.
وأما الأجل المعلوم فلا بد منه.
وهو شامل لكون السلم على فترات زمنية محدودة، أو فترة.
والأجل يجوز، قل أو كثر، ولو ساعة أو يوما أو أكثر من ذلك.
فيجوز مع موصوف في الذمة إلى ساعة معلومة من نفس اليوم.
وهذا يغني عن السلم الحال الذي قاله الشافعية ومنعه الجمهور.
والحالُّ هو: بيع موصوف في الذمة بدون ذكر زمن معلوم للتسليم، وما كان كذلك فيحق طلبه حالا؛ لعدم التأجيل بزمن.
وهذا من البيع لا من السلم؛ لأن السلم مقصود شرعا تحديده بزمن معلوم بالنص، وخلاف مقصودات الشرع يخرجه عن كونه شرعيا، إلا إن وافق شرعيا آخر، وهو هنا البيع.
ودعوى اشتراط الرؤية للمبيع حال العقد لا دليل عليها إلا أن من شرطها عللها بكونها
تدفع الغرر، والوصفُ المطابقُ رافعٌ له؛ فإن اطلع على خلافه بطل البيع؛ لانعدام الرضى على هذه الصفة.
فإن رضي جاز، بدليل أنه لو رآها أثناء العقد ثم تفرقا بعد إيجابه فتبين له عيب فيها حق له الإرجاع مع أنه رأى السلعة، فإذا رضي جاز العقد.
فعلم أن المؤثر هو الرضى، وهو المنصوص عليه (إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29).
وإطلاق النص «إلى أجل معلوم» يدل على جواز عقد السلم إلى أجل معلوم محدد بساعة واحدة أو أقل أو أكثر من نفس اليوم، ويمكن أن نسميه السلم السريع أو القصير وهو ملاءم للمعاملات المالية المعاصرة.
ودليله إطلاق «إلى أجل معلوم» ، أي إلى أي أجل معلوم طويلا أو قصيرا، فيشمل الساعة واليوم والشهر والسنة، ومن حدد أقل وأكثر الأجل فلا دليل له.
وأما بيع السلعة على النموذج أو الرؤية السابقة أو المعرفة التامة بالسلعة التجارية كما هو حاصل الآن وتحويل المشتري لاستلامها من غير محل العقد كالمخازن أو الوكيل أو الموزع أو المصنع فهو بيع لا سلمٌ، وحضور السلعة في مجلس العقد ليس شرطاً عند أحد إلا في الربويات الست فإن ضرب لاستلامها وقتا محددا أشبهت السلم.
ولا يرد هنا حديث «لا تبع ما ليس عندك» لأن معناه دائر على ما لم تقبضه، أو ما لم تملكه كما تدل عليه النصوص الأخرى؛ لأن حمله على مكان العقد يُخْرِج كثيرا من السلع عن المعاوضات، ويبطل بيعها خاصةً غير المنقولة، وكذا ما يعسر إحضاره لمجلس العقد من ثابت ومنقول كثير، ولم يقل بهذا أحد فيما أعلم.
ولا يشترط في شيء من السلع وجوده في مجلس العقد إلا في الصرافة، وبيع الربويات المنصوصة للنص على كونها يدا بيد.
مع أننا لا نرى بأسا في شراء ألف طن من التمر المعين بألف طن من القمح المعين، ثم يحيل كل طرف صاحبه إلى الاستلام من المخازن المعلومة المضمونة؛ لتعذر إحضار هذه الكميات
مجلس العقد، فيكون معنى النص «يدا بيد» أي بلا تقييد للعقد بزمن محدد للاستلام؛ لأنه حينئذ يكون آجلا.
فإن لم يضربا زمنا فهو حالٌّ يُقْبَض حالا إثر العقد ولو لم تحضر السلعة إلى مجلس العقد.
وكل سلعة بحسبها كما وكيفا، فقد لا يتمكن من تمام القبض إلا بأيام من التفريغ والشحن والنقل لكثرة الكميات أو الطلبيات المستحقة للعملاء.
ولا يخرج عن كونه يدا بيد؛ لأن التكليف بحسب الاستطاعة العادية والعرفية (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا)(البقرة: 286)، وقد جرت الأعراف التجارية والاستطاعات المتعلقة بها على نحو هذا، فإن كان تأخر القبض والإقباض للربويات الحالة لتساهل مع استطاعة القبض أثما جميعا؛ لمخالفة المناجزة المفروضة شرعا «يدا بيد» (1).
ويبطل العقد، فإن أمضياه دخلا في محرم وعلى الدولة إصدار قانون ينظم التعامل ويمنع الصور المخالفة للنصوص.
ويجري السلم في أنواعٍ من الخمسة الأموال: النقد والسهم والعين والمنفعة والحق.
فالنقد هو: العملة الورقية الآن ولا يصح جريان السلم فيها بأن تدفع نقداً مع تأجيل في النقد المقابل سلما، وهو صرف يشترط فيه التعجيل والإقباض في المجلس.
وأما الذهب والفضة فإن كانا نقدين فكذلك، وإن كانا سلعتين أو معدنين فدفع العميل رأس المال من الذهب نقدا في ذهب سلعة كحلي أو معدن أو في فضة حرم، وبطل العقد لاشتراط التعجيل وحرمة التأجيل بالنص «يدا بيد» (2).
والسَّلَمُ قائم على التأجيل؛ فحرم في منصوصٍ على تعجيله وهي الذهب والفضة ببعضها، والبر والشعير والتمر والملح ببعضها.
وقولنا «ببعضها» يشمل من جنسها، ويشمل من أحد الأجناس الربوية الأربعة المذكورة.
أما الذهب أو الفضة بإحدى هذه الأربعة فلا مانع سلما، للإجماع، وجريان التعامل به من
(1) - تقدم تخريجه.
(2)
- تقدم تخريجه.
زمن الرسالة فما بعد بلا نكير من العلماء، ولأن منع ذلك تعسير شديد، وهو مدفوع؛ ولأنه يلزم في العملة الورقية كذلك لأنها مقامه الآن، وهذا من أشد الحرج والتعسير، فدفع.
ويجوز عقد السلم بدفع عملة ورقية الآن في ذهب أو فضة سلما، أو استصناعا؛ لعدم المانع الربوي.
أما السَّلَم في المعادن الأخرى غير الذهب فجائز بلا إشكال، ويجوز العقد مع جهة لاستخراج المعادن سلما بحسب سعره وكميته ونوعه حال التسليم، فيجوز تسليمها على دفعات، ويجوز أن يسلم رأس مالها حسب سعرها زمانا ومكانا، وتحديد سعرها راجع إلى مقاييس عالمية مضبوطة ترفع النزاع والجهالة، وأدلة المسألة هي عموم النصوص وإطلاقاتها فمن ادعى قيدا أو مانعا فقد ادعى خلاف الأصل لأن الأصل عدم المانع.
ولا جهالة فاحشة هنا؛ لأنه قائم على معايير تجارية دقيقة منضبطة، وجهة مرجعية فاصلة حال النزاع كبنك ونحوه.
وتقوم الضمانة البنكية مقام صاحب رأس المال في الدفع والاستيفاء (1)؛ لأنه لا دليل على تعجيل رأس مال السلم في المجلس، فيجوز كون رأس المال بضمانة بنك يدفع حين الاستحقاق عن صاحب رأس المال.
ويشترط ضرب أجل كعام للتنقيب أو التسليم خلالها على دفعات؛ لأنه مشروط في الحديث، ولحصول الغرر الشديد والخصومة بدونه بخلاف عدم تقدير الكميات في كل مرة تسلم فيها كمية لإمكان دفع الجهالة بتقدير زمن الدفع وقيمتها حسب نوعها وكميتها حال التسليم.
فيجتمع في النص الأجل المعلوم وهو العام مثلا، والوزن المعلوم وهو حال التسليم، وحال توقيع العقد حيث يذكر الكمية الكلية المطلوبة.
وحديث الدين بالدين والكالئ بالكالئ ضعيف لا حجة فيه ولو صح فَرْضاً لكان في دين في الذمة يحل أجله فيبيعه الدائن بدين آخر بزيادة على المدين طلباً للتأخير، وهو ربا.
(1) - قولنا هذا لبيان جواز هذه الصورة حيث يقوم البنك بتمويل سلم بضمانة له أو بضمانة فقط، وهو حينئذ قائم مقام صاحب رأس المال في الدفع.
وأما السلم في الأسهم فلا أعلم وقوعه، إلا أنه لو دفع أحدٌ رأس مال في أسهم معلومة من جهة معلومة يسلم له صكها في أجل معلوم فلا أرى فيه ما يمنع.
وأما السلم في الأعيان المالية وهي الأربعة الأنواع المتقدمة:
فالأرض يجوز السلم فيها لشراء قطعة محددة الأوصاف، وتصوير المسألة واقع في جمعيات عقارية أو زراعية تجمع أموالا من الراغبين في الشراء بمواصفات معينة، ومحل معين على الشيوع لا على التعيين الشخصي، وأجل معين للتسليم، وبعد الاستيفاء يتم شراء أرض كبيرة تقسم بحسب أسهم المشاركين ثم تقسم بنظام الكمبيوتر أو القرعة أو بحسب لوائح الجمعية المتوافق عليها.
ويخرج لكل اسم سهمه تحديدا على التخطيط والواقع، ويصدر له صك ملك بذلك.
وأما السلم فيما يخرج من الأرض فجائز بشروط السلم المتقدمة.
والسلم في العقارات جائز بأن يدفع الراغب في الشراء إلى جهة البيع قيمة العقار عمارة أو شقة أو فيلا حسب الوصف والمخطط الشامل الدقيق.
وتقوم جهة البيع بعد تمام المساهمين بالإنشاء حسب المواصفات وتسلمها في المدة المحددة، بعقد تمليك للمشتري.
وأما السلم في النوع الثاني من الأعيان المالية وهي الثروات فبحسب نوع الثروة، وقد ذكرناها بالحصر، وهي الثروات المعدنية، والذهب والفضة، والنفطية، والغازية، وثروة المياه، والثروة البحرية، والثروة النابتة، والثروة الزراعية، والحيوانية، والصخرية ومشتقاتها، والثروة الجغرافية، والجوية.
ففي معدن الذهب والفضة إن كان بالنقد جاز السلم فيه لعدم مانع الربا، ويشترط معلومية الأجل والوزن والسعر وقد تقدم.
ويجوز دفع السعر عند العقد وأخذ ضمان على المدفوع إليه، وهو المسلم إليه، أو رهن.
ولا دليل يدل على منع ذلك؛ لأنه دين والنص يجيز أخذه على الدين (وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا
الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة: 283).
ومن زعم أن الرهن لأجل الإيفاء منه عند عدم التسليم يجعله ممنوعا في السلم لأنه لا يستوفي منه السلعة فجوابه أنه يستوفي منه ما دفع إليه من رأس المال هذا إن سلم أن العلة حقا هي تلك، والصحيح أنه للتوثق بإطلاق.
ويجوز أن تقوم الجهة بدفع المعدن على أقساط معينة متفق عليها؛ لعموم «إلى أجل معلوم» وهذا أجل معلوم، ولأن الأصل عدم المانع.
وإن خالف المواصفات فلا يلزم قبضه؛ لأنه خلاف العقد الواجب الوفاء به (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(المائدة: 1).
والعقد على مواصفات مغايرة، فلا يلزم القبض إلا بما جاء وفق العقد بالمطابقة أو تفاوت يسير يتسامح في مثله.
والمعادن بالمعادن جائزة بتفاوت وتأجيل بعض وتعجيل؛ لأنها ليست من الربويات.
والنفط والغاز كذلك فيجوز بيع نفط بنفط مع تفاضل وتآجل في طرف لعدم الربوية.
ويجوز السلم في النفط والغاز بشروط السلم، ويتفق في جميع دفعات السلم على محل التسليم إن كان بحاجة إلى نص، وشرط النقل وكلفته؛ لأنها شروط تدفع الضرر والغرر والجهالة المؤدية إلى الخصومة.
والسلم في استيراد المياه المعدنية والغازية جائز.
وفي الثروة البحرية من سمك وأحياء وأعشاب وكل ما يمكن ضبطه كما بالوزن أو الكيل وكيفا بالوصف المخرج له عن الجهالة.
وسواء كان السلم فيه رطبا أو جافا فلا يشترط جفافه؛ لعدم الدليل إلا في الربوي، وهذا غير ربوي.
والسلم في الثروة العشبية والخشبية يشمله عموم الجواز بشروط السلم.
وكذا الثروة الصخرية مع ضبطها بالوزن. ويجوز السلم في مشتقاتها كالإسمنت ونحوه ومسبباتها.
وكذا يجوز في الحيوانية التي يمكن ضبطها وزنا لا بالعدد أو السن لعدم انضباطه إلا في سلم في الأضاحي الشرعية فبالسن والسلامة من العيوب الشرعية في الأضاحي؛ لأنه ضبط شرعي خاص، فيقدم على ضبط باب السلم التجاري.
وأما السلم في النوع الثالث من الأعيان المالية وهي الأصول الإنتاجية فما كان طبيعيا كالأرض وتوابعها من العقار والحيوان فقد تقدم.
وبقية الأصول الإنتاجية الصناعية كالمصانع والآلات المنتجة، فالسلم فيها جائز بمواصفاتها المعلومة وآجالها.
وأما السلم في النوع الرابع من الأعيان المالية وهي: الاستهلاكيات من ملبوس ومأكول ومشروب وكماليات، وكل السلع الاستهلاكية والترفيهية؛ فالأصل في الجميع جريان السلم بلا مانع شرعي إلا ما كان من الربويات الستة بالتفصيل المتقدم، فيجوز السلم في الورقيات، والإلكترونيات، والهواتف، والحواسيب، والسيارات، والآلات، وقطع الغيار، والأدوية، والمعلبات، والألبسة، وسائر أنواع هذا الباب.
وأما السلم في القسم الرابع من الأموال وهو الحقوق:
فما أمكن فهو جائز كدفع شركة فنية منتجة لمخرج معين في أن ينتج لها عملا فنيا معينا.
ويسلم في أجل معلوم بأوصاف مشترطة تخرجه عن الجهالة.
وكل وصف في الدنيا يدخل في الميزان وهو المعيار الضابط، وله صور بحسب المادة، فميزان الماء المليلتر، والأثقال الكجم، وميزان البورصة إشارة الأسهم، وميزان الكون تقديراته (وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) (الرحمن: 7).
وميزان السلعة معاييرها؛ فالأفلام والكتابات ميزانها معاييرها ومواصفاتها.
فشملها النص «فليسلم في وزن معلوم» .
ويجوز لدار نشر أن تدفع لمؤلف أو كاتب مبلغا في إصدار معين بأوصاف معينة وزمن معين، إذ لا مانع شرعي في ذلك، ومن ادعاه فهلم به صحيحا صريحا.
ولا يحضرني الآن صورٌ للسلم في الحقوق غير ما ذكرت.
وأما السلم في القسم الخامس من الأموال وهي: المنافع والخدمات، فصورها في جهة مع أخرى عقد خدمات طبية للعاملين بمبلغ مقطوع معلوم مقابل خدمات طبية معلومة في أوقات معلومة من العام.
ومثله خدمات الصيانة بأجل معلوم محدد، ولهم توزيعه على فترات من السنة مقابل ثمن مقطوع عند العقد.
وجعلها إجارة أوضح، وجعلها سلما على المنافع والخدمات اجتهاد جديد وهو أسلم إذ الإجارة لها اشتراطات معلومة يتعسر معها هذه المعاملات على كثرتها وكثرة الحاجة إليها في عصرنا، وإذا جاز السلم في الأعيان جاز السلم في المنافع والخدمات لأنها أختها وقسيمتها فما جرى في تلك يجري في هذه بدليل واحد هو (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (البقرة: 275)، (إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29).
وهذا عقد بالتراضي لا مانع فيه من الموانع الخمسة ولأنه عقد بيع فيحل
فإذا كان دليل أصل مشروعيتهما واحد واشتركا في كثير من التعاملات وكان أصلهما واحدا وهو البيع فما هو المانع هنا من جريان السلم في المنافع والخدمات كجريانه في الأعيان؟ ومن ادعى المنع فقد ادعى ما هو على خلاف الأصل، فعليه بالدليل الصحيح الصريح الخالي عن المعارضة.
وكذا خدمات التخليص الجمركي إن كانت بعقد لمدة كعام يدفع مقابلها عند العقد مع العلم بالكميات والآجال الموزعة على السنة حسب الصفقات القادمة.
ويمكن أن يجعل هذا عقد وكالة بأجرة، لكنه ليس كذلك في العرف التجاري، والحاصل جوازه على كل وجه.
ويجوز البيع على أساس بوليصة الشحن المحددة الأوصاف الكاملة للسلع والأجل، ويجوز بتظهيرها، أي نقل الملكية إلى آخر وإثبات ذلك على ظهر البوليصة إن جرى التعامل بذلك، وهو من عقود السلم.
وإذا تأخر دفع السلعة المسلم فيها عن تاريخ الدفع: فإن كان التأخر فاحشا وضر المشتري
فلا يلزمه القبض، وله أخذ رأس ماله، وهل يعوض بدفع الضرر عنه صلحا؟ الظاهر لا مانع؛ لأنه غير مشروط أول العقد كشرط جزائي، فلو شرط كان ربا؛ لأنه دين ولا يصح أن يشترط زيادة عليه عند التأخير، وهو ما نزل فيه النص في التحريم.
ومع عدم اشتراط الجزاء في تأخير البضاعة المسلم فيها يجوز عند وقوع الضرر للتأخير الفاحش أن يقضى بينهم بالعدل وفق قاعدة (لا ضرر ولا ضرار).
والبيع والشراء في البورصة من الوسيط للمشتري: إن كان بالمواصفات فهو سلم، ولا يشترط فيه أن يكون مقبوضا للوسيط، ويشترط له أجل سريع كساعة أو يوم أو أجل آجل، أما إن باع سلعة بعينها بالأوصاف وهو يملكها ولم يقبضها فإنه كذلك يجوز، وحديث «فلا يبعه حتى يقبضه» مختلف في صحته وقد تقدم، وإن صَحَّ حُمِلَ على ما يكون عدم قبضه دخولا في بيع القمار؛ لغلبة عدم تمكن قبضه، أما إن قطع بالقبض كما يجري بين التجار وكما هو الحال في المعاملات في الأسواق المالية المعاصرة؛ فإنه لا مانع منه.
لأن مقصود الشرع حفظ أموال وحقوق الناس ودفع الخصومات وقد تحقق مقصوده بالضوابط الدقيقة في اللوائح والقوانين المنظمة للعمليات التجارية المعاصرة، وأما حديث «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» فهو ضعيف معل (1)،
وهو كحديث «الدين بالدين
(1) - حديث «من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره» ضعيف كما سترى، وقد أخرجه أبو داود برقم 3470 عن عطية بن سعد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره» . قلت: عطية بن سعد هو العوفي لا يحتج به، وأخرجه ابن ماجة برقم 2283، وأخرج له طريقا أخرى عن عطية تبين اضطرابه، فهذه علة أخرى. وقال البيهقي بعد إخراجه برقم 11484: الاعتماد على حديث النهي عن بيع الطعام قبل أن يستوفى، فإن عطية العوفي لا يحتج به. وقال المناوي في فيض القدير (6/ 80): ضعيف وأعله أبو حاتم والبيهقي وعبدالحق وابن القطان بالضعف والاضطراب. قلت: وهو ما قلناه، ولله الحمد. ثم نقل أن الترمذي حسنه في العلل الكبير ونقل إقرار الحافظ له. قلت: وليس له شاهد ولا متابع حتى يحسن. بل وفيه علة ثالثة وهي الوقف على ابن عباس كما قال أبو حاتم في العلل برقم 1158. وضعفه الذهبي في تحقيق التنقيح بعطية (2/ 105). وسبقه ابن عبدالهادي. وضعفه كذلك ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/ 71). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (29/ 519): في إسناده نظر. وقال في صـ 517: الحديث ضعيف. وأعله المزي في تحفة الأشراف بالاختلاف في سنده. وضعفه الشوكاني في الدراري المضية (2/ 269). وتبعه صديق حسن في الروضة الندية (2/ 125). وضعفه العلامة رشيد رضا -مجلة البحوث الإسلامية (48/ 45)، وقال: وإذ كان هذا الحديث غير صحيح ولا حسن فلا =