الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النظام المالي الثالث: نظام الحماية
نظام الحماية المالية نظام راجع إلى إقامة المقصد الشرعي «حفظ المال» .
أنواع الحماية المالية:
وتتنوع الحماية إلى حماية تعاقدية، وقضائية، ومدنية، وتوثيقية، وحماية ضد الطوارئ، وحماية إصلاحية.
أما التعاقدية فَشَرْطٌ كمال الأهلية للعاقدين؛ فلا يبيع مكره، ولا ومجنون، ولا صبي، ولا غير راشد.
ولا يباع بعقد تغرير أو جهالة فاحشة، أو عقد فيه ضرر عام أو غش وخداع وقد مرَّت.
وأما الحماية القضائية: فلا تملك الأموال إلا بالإثبات والبيانات العادلة «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» (1).
ويُلْزَم المختلس والغاصب بالرد والضمان، وللقاضي التعزير، والسارق إن ثبتت جنايته بشروطها ووصل إلى الحاكم أقام عليه حد السرقة، وكذا الناهب بقطع الطريق، و
الحجر
على السفيه والمفلِسِ، والنظرُ لأموال اليتامى والقُصَّر.
وأما المدنية فمنها: حفظ اللقطة، وتحريم الغصب والنهب.
أما التوثيقية فمنها: كتابة الديون، والرهن، والضمان، والكفالة، والإشهاد، وتوثيق العقود.
وأما الطارئة: فالرد بالعيب، ووضع الجوائح، وفصل نزاع المتعاقدين.
أما الإصلاحية: فتحريم الإسراف والتبذير، ووجوب حفظه بإصلاحه وإدارته لا بكنزه.
فلنتكلم على مهمات الباب بدءاً بالحجر على السفيه فنقول:
- الحجر:
أما الحجر على السفيه فأصله النص (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا)(النساء: 5).
(1) - تقدم الحديث وتخريجه.
والسفه هو عدم الرشد في التصرف المالي، ولا يقترن بالبلوغ، فقد يبلغ غير راشد ماليا.
وفرض لذلك اختبار الرشد لليتامى حين البلوغ؛ فإن ظهر الرشد دفع له ماله وإلا انتظر (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)(النساء: 6).
والحجر على السفيه نوعان، فمنه مدني: فيمنع من تمكينه على إدارة مال حتى مال نفسه. وقضائي: وهو بحكم القاضي إن استدعى الأمر ذلك.
والأمر في المنع مطلق (وَلَا تُؤْتُوا) ليعم المنع قضائيا أو مدنيا، فإن لم يتم المنع إلا بالقضاء رفع.
والأموال التي لا تُدْفع للسفيه هي: ما كان معتبرا تقوم به أمور الحياة، ويؤخذ هذا من (الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً)، أي: تقيم حياتكم وشؤونكم، فخرج بهذا الوصف الأموال التي لا شأن لها عرفا.
وقلنا «عرفا» لأن مرد معرفة مقدار المال ونوعه الذي تقوم به الأمور راجع إلى العرف (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ)(الطلاق: 6).
ولا بد من معرفة العدول العارفين المشهود لهم بالمعرفة، بالاستفاضة والشهرة أو بقبول قولهم في ذلك؛ لأن المسألة هنا حكم فـ (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ).
ومن النص (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً)(النساء: 5)، يفهم من هو السفيه وما أحكامه.
فتعريف السفيه المقصود في النص هو: كل من في يده ما يقيم به حياته من المال ولم يقمها؛ لإهمال، أو إتلاف، أو إنفاق في غير نفع.
فقولنا «من في يده .. الخ» لم نقل من يملك، لأنه قد يكون في يده من مال غيره تجارة كمضاربة.
وقولنا «ما يقيم به حياته» ؛ ليخرج إن كان في يده مال قليل لا يقيم به حياته وهو الفقير والمسكين ونحوهم.
أو كان في يده مال كثير لكنه لا حق له في إقامة حياته به؛ لأنه مملوك لغيره وديعة أو أمانة.
واخترنا لفظ «يقيم به حياته» لأنه مأخوذ من النص (الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً)، أي: ما تقومون به في الحياة.
ولا يقوم الإنسان إلا بمال معتبر، والمال الذي تقام به الحياة غير المال التي تقوم بها الأرزاق المعيشية والكسوة ونحوها فاستثناها الله؛ لأنها ضروريات (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (النساء: 5).
وقولنا «ولم يقمها لإهمال» أي: أهمله فلم يحفظه حتى هلك، أو ضاع، أو انعدمت فائدته.
وقولنا «أو إتلاف» كأن تصرف فيه بما يتلفه من الاستعمالات غير الآمنة.
وقولنا «أو إنفاق في غير نفع» وهو كل ما لا يعتبر منفعة معتبرة في الحياة.
وهي المنفعة التي وضع لها هذا النوع من المال.
وهي «قياما» أي إقامة الحياة شخصية، أو مجتمعية، أو أكثر من ذلك.
أقسام الناس في إدارة المال:
والناس في المال أربعة أقسام: فمنهم راشد أمين، ومنهم راشد غير أمين، ومنهم سفيه أمين، ومنهم سفيه غير أمين.
والخلل في إدارة الأموال يأتي من هذه الطرق.
فالرشد هو القوة والخبرة على إدارة المال، والأمانة عدم الخيانة.
وهما أُولى صفتين للتعاملات الولائية المالية (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ)(القصص: 26)، (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف: 55).
فالحفظ عدم الخيانة، والعلم هو الرشد وعدم السفه.
وأقبحهم السفيه غير الأمين، وأفضلهم الراشد الأمين.
ويليه الأمين غير الراشد في إدارة المال وحفظه، ويليه الخائن الراشد؛ فهذا يدير المال الذي في يده من حق غيره بالرشد لما يصلح لنفسه ولا يصلح للناس.
ومنهم الولاة المختلسون والغَالُّون والذين كونوا ثروات لأنفسهم بخيانة أموال في أيديهم للغير، فهذا راشد ماليا غير عدل بل فاسق مفسد.
وأما السفيه الخائن فيخون ما في يده ولا ينتفع به لشخصه، وهو في الإثم أقل من السابق؛ لأن الأول أصلح حاله المالي فجمع ثروة من الإفساد في مال الغير، فعمل على خلاف ما هو يستطيعه من إصلاح المال بحسب العقد بخلاف السفيه الخائن فلا يستطيع أصلا إدارة المال، فالمال ضائع على كل حال، وعلى من دفع له المال إثم.
أما الأمين غير الراشد فلا يُمَكَّن من إدارة الأموال، لكن يمكن من الرزق المعيشي فيها بنحو وظيفة يستطيع عملها مناسبةً له غير خارجة عن قدراته.
وأما الأمين الراشد فهو المقصود شرعا أن يُولَّى في إدارة الأموال وحفظها.
والنص منطوقا ومفهوما يشمل التعامل مع جميع هذه الأصناف (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا)(النساء: 5).
فالراشد العدل يؤتى الأموال حفظا وإدارة، والسفيه الخائن لا يعطى لا حفظا ولا إدارة، ولكنه يرزق فيها.
وإنما جاء النص (فِيهَا) ولم يقل «منها» ليشمل إمكان توفير عمل مناسب له في ذلك المال، ويشمل الهبات والصدقات والكفالات والإعانات.
وليشمل التعامل معه بيعا وشراء لحاجياته، فلو قال «منها» لكان يعطي منها هبة أو صدقة ولما شمل ما ذكرنا.
فـ (فِيهَا) أشمل؛ لأنها ظرفية، أي اجعلوا رزقهم في هذه الأموال أو في ذات الشركات والعقارات والتجارات ورزقه فيها بما يناسب.
فإن كان من نوع السفيه الخائن وهو فقير أعطي من الزكوات والهبات، وجعل له في الأموال حق معلوم.
وإن كان من نوع السفيه الأمين فقد يعطى من الزكوات، وقد يعطى فيها رزقا بوظيفة وعمل يناسب هذا الوصف، وإن كان راشدا خائنا فلا يوظف فيها بما يمكنه من الخيانة، وإن كان فقيرا أعطي، وإن كان راشدا عدلا مُكِّن من الأموال إدارة وحفظا.
وقد يجعل لأحد هذه الأقسام سهم في الأموال يدر عليه دخلا دائما، وهذا ما يشمله (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا).
وفي هذا النص الإلهي من صور الحياة والتعامل ما لا يتسع ذكره هنا؛ لأن النص يشمل صور الحياة في هذا الباب (1).
(1) - وصور الحياة المفترضة الأصلية في التعامل المالي كثيرة ونذكر أصولها:
فالأولى: الأسرة ومكوناتها من زوج وزوجة وأبناء، وهو يشمل الوالدين وأبناءهما وأبناء أبنائهما وزوجاتهم.
والثانية: الأقربون من الإخوة وآباؤهم والأعمام وأبناؤهم وهم (وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ)(الأنفال: 75).
والثالثة: الجار (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ)(النساء: 36).
والرابعة: الصاحب (وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ)(النساء: 36).
والخامسة: اليتامى.
والسادسة: الفقراء والمساكين وابن السبيل والسائلين «الشرائح الضعيفة» .
السابعة: العموم.
فأما الأسرة فالصغار، وهم من لم يبلغ النكاح لا يعطون المال الذي جعله الله قياما للأسرة أو للوالد أو للوالدة.
فلا يعطون دخل الأسرة ليتولوا الإنفاق على الأسرة منه طوال الشهر إلا إن كان شيئا منه تدريبا لمن بلغ أهلية التدريب؛ لأن تعليم الولد الإدارة المالية الشخصية بما ينفعه في حياته قصد الشرع طلبه (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)(النساء: 6)، والابتلاء هو غاية التدريب على المال وصولا إلى تحقيق الرشد.
ولما كان الأب يدرب أبناءه جبلة كُلِّفَ ولي اليتيم بتدريبه ديانة.
ولا يسلم للطفل أو البالغ غير الراشد بيتا مستقلا يسكن فيه؛ لأنه مال هام مما تقوم به الحياة، ولا تدفع له وثائق الأموال وبصائر العقارات استقلالا إلا تدريبا محدودا في غير إمكان تضييع.
ولا تدفع للطفل أو البالغ غير الراشد سيارة لقيادتها استقلالا، إلا إن كانت مما لا يدخل في المال الذي هو (لَكُمْ قِيَاماً).
أما إن كانت مصدرا للرزق أو للتجارة أو لتسيير الأمور فلا.
ويعطى للتدريب فإن فطن استقل.
ولا نعني بالتدريب السواقة، بل التعامل مع السيارة باستعمال آمن.
وأما الزوجة فإن كانت راشدة مدبرة دفع لها ما تدير به أمور الأسرة وإلا فلا، بل تدرب حتى ترشد ماليا.
وكذا الوالد أو الوالدة إن كان غير التدبير من شأنهما فيعطيان ما يكفيهما وجوبا وكل بحسب سعته.
وأما الأقربون فحقهم من صلة ونفقة بالمعروف والسعة ظاهر.
فلا يُدْفَع مالٌ مما جعله الله قياما إلا لراشد أمين.
وأما مال السفيه نفسِه، فلا يصح أن يَعاوِضَ به مالا هو قيام للحياة؛ لأنه إيتاء للسفهاء المال الذي جعله الله لنا قياما.
فالمعاوضة مع السفيه محجورة في هذا النوع من المال؛ لأنه إيتاء.
وأما ما دون ذلك من البيع والشراء فيما جرت به الحاجات والضرورات من أكل وشرب وكسوة ونحو ذلك فلا مانع وهو مقصود في النص (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا)(النساء: 5).
وللسفيه زواج الثانية والثالثة والرابعة إلا إن كان رشده المالي يؤثر على رشده الأسري، فلا؛ لأنه ضرر متعد إلى الغير فَيُدْفَعُ، ويكتفى بواحدة تدفع الضرر ونفقته لا حجر عليه فيها بالنص (وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا) (النساء: 5)، وإنما استثنيت هذه الأمور من الحجر لأنها ضروريات وحاجيات لا تستقيم الحياة إلى بها، ونفقة زوجته لا تتعدى هذه الضروريات والحاجيات فكانت بنفس المعنى.
وله الحج والعمرة تطوعا؛ لأن الإنفاق فيهما ليس من السفه.
وله الصدقة بما جرت به العادات لا بما خرج عنها مما يعتبر من عادات غير الراشد؛ لأن الصدقة من غير رشد مذمومة شرعا (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا)(الإسراء: 29).
والحجر عليه هو عدم إيتائه الأموال تبرعاً أو معاوضةً أو مال نفسِه؛ بدليل منع ناظر اليتيم البالغ من دفع ماله إلا إذا انضاف إلى البلوغ الرشد (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)(النساء: 6).
ويحق للقاضي الحجر على السفيه الذي طرأ عليه السفه وعرف به، وذلك بالرفع إليه من أوليائه (وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الأنفال: 75)، وهذا عام، وهو من النصح له بحفظ ماله.
فاجتمع عليه حجران، حجر مدني ومجتمعي في عدم إيتائه أموالهم التي جعل الله لهم قياما لا بمعاوضة، ولا بتبرع. وحجر قضائي بحكم.