الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن انهدمت العمارة لغش في مواد البناء، أو خلل في العمارة مع عدم اطلاع المشتري عليه تعميةً؛ فالضمان على البائع مالك العمارة؛ لأن بيعه تضمن ضررا فاحشا بالغير.
والعقود لا يجوز تضمنها الضرر.
ويضمن كل إتلاف في نفس أو عضو أو مال ترتب على ذلك؛ لأنه باشر فعل ما يحرم عليه فعله من سبب مهلك غالبا؛ وعماه عن الغير في عقد مقصوده المنفعة للطرفين؛ فخالف مقصود العقد.
ومن باشر عمل أسباب الإتلاف للغير وعمّاها، فإن قصد قتله فهو قتل غيلة عمدا وعدوانا.
فإن لم يقصد القتل كصاحب العمارة في مسألتنا فضمانه الأنفس بالدية، والأموال بالتقويم، والأضرار والخسائر المترتبة على ذلك بالتعويض العادل.
وإن كان انهدام العمارة لنازلة عامة كحرب، أو زلزال، أو إعصار، أو حريق؛ دفع الضرر بالتعاون مجتمعيا ورسميا من الدولة، ودوليا من عموم الدول والشعوب إن عظمت الكارثة؛ لأن التعاون على البر والتقوى أصل شرعي مقرر (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ) (المائدة: 2)، وشموله هذه الحالات ظاهر.
وشُرِع ولو كان من نزلت عليه الكارثة على غير دين الإسلام للعموم؛ ولقوله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(الممتحنة: 8). وهذا من البر.
والشعوب المدنية الأصل أنها مسالمة حتى يثبت خلافه.
والعلاقة الإنسانية أصلها قائم على السلام والتعارف (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(الحجرات: 13).
-
الثروات المعدنية والبترولية:
والثروة المعدنية بكافة أنواعها من ذهب وفضة وحديد ونحاس وجواهر وأحجار كريمة وغيرها من وجدها في أرضه الخاصة المملوكة له فهي له؛ لأنها جزء من الأرض.
إذْ الملك للأرض يسري على ظاهرها وباطنها بالعادة الجارية المستمرة العامة المقرة (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ)(الطلاق: 6).
ومن ادعى عدم دخول باطن الأرض في البيع عاد قوله بالضرر الفاحش على المشتري؛ لأن الانتفاع بظاهر الأرض لا يتم إلا بباطنها من حرث، وتقليب، وحفر آبار، وأساسات بناء، ونحو ذلك.
وله أن يبني طوابق سفلية تحت الأرض ما شاء إلا ما استثني دفعا للضرر عن الغير.
ومن استخرج معدنا من أرضه ملكه، سواء كان المعدن المستخرج مسبوكا، أو نقدا من ذهب أو فضة، أو كنزا؛ لحديث البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: اشترى رجل من رجل عقارا له فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب فقال له الذي اشترى العقار خذ ذهبك مني إنما اشتريت منك الأرض ولم أبتع منك الذهب وقال الذي له الأرض إنما بعتك الأرض وما فيها فتحاكما إلى رجل فقال الذي تحاكما إليه ألكما ولد قال أحدهما لي غلام وقال الآخر لي جارية قال: أنكحوا الغلام الجارية وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا (1).
وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم دليل على أن الأرض تملك بما فيها؛ لأن الحكم بإنفاقه على ولديهما لا يكون إلا عن ملك، ولا بد أن يكون لأحدهما ولا يكون إلا المشتري (2)؛ لأنه لو كان للبائع لكانت لمن قبله ممن كان مالكا للأرض بشراء أو إرث أو غيرهما من طرق الملك، حتى لو كان بإحياء لكانت كنزها صدقة عامة؛ لأن الأرض قبل الإحياء ملك عام.
ويدل على أن كنز الأرض لمالكها قوله تعالى (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا)(الكهف: 82).
فدل على أن من ملك الأرض ملك كنزها، وكل ما في القرآن فهو شريعة لنا إلا ما ثبت
(1) - البخاري برقم 3472 ومسلم برقم 4594.
(2)
- قولنا «إلا المشتري» ويكون حينئذ ما أعطاه لابن الآخر هبة، وصح الحكم بينهما على هذا الوجه صلحا، والصلح خير.
اختصاصه بأمة سبقت، ولم يثبت هنا خلاف ما في الآية ولا الحديث، فدل على الإقرار على الأصل (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: 90).
فإن ادعى البائع أو شخص آخر ملكية الكنز أثبت دعواه ببينة عادلة مطلعة على أمره عالمة بصفة الكنز بما لا يدع مدخلا للشك في صدقهم.
وهل يكفي المدعي أن يذكر وصف الكنز من نحو عدد ونوع وأمارات لا يمكن أن يطلع عليها إلا مالك؟ احتمال إن ألحقناه باللقطة كونه مالا ضائعاً بنسيان محله، أو جرف سيل له في حادثة كفيضانه على محلة، أو على مجتاز في مجراه فتفلَّت عليه الكنز ونحو ذلك.
وأما إن كانت الأرض عامة غير مملوكة فلكل أحد حق التعدين فيها، ويملك ما أخذ بالحيازة والقبض، فإن كنزا فهو لمن وجده، ويملكه بالحيازة، ومن ادعاه أثبت كما مر.
ويجوز للدولة تنظيم التعدين الشعبي بما يعود بالنظر المصلحي؛ لأن لها النظر المصلحي على الناس لا منعه؛ فإنه مضارة لما وضعه الله للانتفاع (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً)(البقرة: 29).
وإن كان المنع لمصلحة معتبرة أعم جاز كما فعل عمر في الحِمَى، وهو في البخاري (1).
أما الثروة النفطية والغازية: فهي ملك للشعب. والدولة نائبة عنهم في ذلك؛ لأن هذا هو النظر المصلحي العام للأمة، ولا يتملكها فرد أو جماعة من دون عامة الناس؛ لما في ذلك من الضرر الفاحش على عامة الشعب. والضرر مدفوع وجوبا، خاصة العام.
ولأن الله يقول (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ)(الحشر: 7).
فَقُصِدَ شرعا عَدَم الاستحواذ على الثروة من فئة.
وأظهَرُه في حال استئثار فئة بملكية هذه الثروة الكبرى فهي أولى بمنع الاستحواذ عليها من الملح الذي نزعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان ملّكه لشخص، وجعله للناس كافة (2).
ويجوز في حالات جعل البئر النفطية والغازية ملكا لمن هي في أرضه؛ لأنه الأصل، إذ هي
(1) - أخرجه البخاري برقم 2370 عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الصعب بن جثامة قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا حمى إلا لله ولرسوله. وقال بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع، وأن عمر حمى السرف والربذة.
(2)
- تقدم تخريجه.
تابعة للملك في الأرض، فمن ملكها ملك ما في باطنها، ولعدم المانع سوى تعارض المصلحة العامة للخاصة، فإن لم يحصل تعارض جاز.
وعلى الدولة وجوبا استغلال هذه الثروة في مصالح الشعب، ونظرها عليه مبناه على النظر المصلحي الغالب كسائر الولايات (قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ) (البقرة: 220).
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)(النساء: 58).
(لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)(النساء: 29).
(وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً)(النساء: 5).
فهذه النصوص أصول في مثل هذا؛ فيجب على الدولة الإصلاح العام في هذه الثروة النفطية والغازية، والواجب التسويق للتنقيب لدى الشركات المشهورة بالأمانة والاتفاق؛ لأن هذا هو مقتضى عقد الولاية لمن ولي على الثروة النفطية، والإيفاء بما يقتضيه العقد واجب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة: 1).
فالجهة المخولة رسميا في إدارة النفط: وزارة أو شركات، أو هيئات، أو مؤسسة واجبٌ عليها القيام بتمام هذا التخويل؛ لأنه المقصود الشرعي من العقد لولايتها.
ولا يتولى النفطَ الغازَ خوَّانٌ ولا مفسد؛ لأنه ليس من أهل الولاية (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)(النساء: 58)، وفي النص «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة. قالوا: وكيف إضاعتها. قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» (1).
ومن مقتضيات عقد الولايات على المؤسسة النفطية المسح التام لأماكن الاحتمال في البلاد، والتنقيب الشامل للوصول إلى تحقيق غاية المصلحة الكبرى للشعب.
ولا يعقد مع شركات التنقيب إلا بسعر المثل العالمي وزمنه وشروطه، وكذا في حال بيع الإنتاج.
فإن أخل بذلك بطل العقد؛ لأنه خارج عن النظر المصلحي (قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ)(البقرة: 220).
(1) - تقدم تخريجه.
وفرض توريد ما بيع به الإنتاج من النقد إلى خزينة المال العام؛ لعموم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا)(النساء: 58).
والنقص منه ولو يسيرا من الغلول المحرم ومن كبائر الذنوب، وخيانة للأمانة (وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (آل عمران: 161)، «من كتمنا مخيطا فهو غلول» (1).
ويوثق بما لا إمكان معه للإخلال.
ولا يستقل بالنظر في صرفه فرد ولو حاكما، بل يوضع ضمن المال العام الذي يتولى صرفه والنظر فيه وإقراره أهل الشورى من نواب الشعب وجهات لا يمكن تواطؤهم على الغش؛ لعموم (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38).
وهذا من الأمر العام المؤثر في المصالح الكبرى للبلاد، فشمله النص بالأولوية.
وتوفيره للمواطنين بسعر مناسب لا بالسعر العالمي؛ لأنه يتعذر ويشق تحصيله على الناس حينئذ، والمشقات خاصة العامة واجبة الدفع.
والحفاظ على أنابيب النفط والغاز وشبكتها في عموم ما تمر به واجب شرعا؛ لأنه حفظ لمال مسلم، والعبث به أو إتلافه محرم؛ لعموم «إن أموالكم عليكم حرام» (2).
وهذا مال الشعب؛ ولأنه لو كان مالا لشخص معين لحرم عليه إتلافه؛ لأنه عبث وإسراف، وهو محرم؛ فما كان للناس فهو أعم في الضرر وأعظم في الحرمة.
وتعمد الإضرار بالشبكة النفطية أو الغازية، أو الاعتداء عليها فساد في الأرض وقد يصل في بعض حالاته إلى الحرابة (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33).
وأما الثروة الصخرية ومشتقاتها: فما تبع ملكا خاصا فهو كذلك، وما كان للعامة اشتركوا فيه انتفاعا.
(1) - تقدم الحديث وتخريجه.
(2)
- تقدم الحديث وتخريجه.