الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويرفع بحكم، أو بمجرد زوال المانع؛ لأنه حكم معلل؛ فإن زالت علته زال.
ورفعه بشهادة عدول عند قاض، أو بالاستفاضة بين الناس.
-
الغصب:
والغصب هو أخذ مال الغير بغير حق.
وقولنا «مال الغير» : يشمل الأقسام الخمسة للمال حسب تقسيمنا: سهماً ونقداً وحقاً وعيناً ومنفعة.
وقولنا «بغير حق» : شرط؛ إذ هو بحقٍّ حقٌّ.
والغاصب إن كان على الطريق فحده الحرابة، وكذا لو غصب أرضا أو شيئا عنوة بنحو سلاح وتكرر منه.
وقولنا «تكرر منه» لأنه مفاد قوله تعالى (وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا)، لإفادة المضارع الاستمرارية. وينزع منه عنوة، ويجب أن تتولى ذلك الدولة دفعا للفتنة؛ فإن لم تكن أو كانت وعجزت أو قصرت؛ فالتعاون عليه من المجموع؛ فإن لم؛ فللرجل دفع الظلم عن نفسه بما هو مقر شرعاً (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ* وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى: 39 - 40).
واستعمال المغصوب مضمون؛ لأن هذا هو مقتضى العدل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)(النحل: 90).
فإن تلف لزمه المثل إن كان مثليا أو القيمة بالعدل بحكم عدلين خبيرين لعموم دلالة قوله تعالى (فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ)(المائدة: 95)، فحكم الله بالمثلية عند الإتلاف بحكم عدلين فإن انعدمت المثلية فللعدلين التقويم؛ لأنه لا يدفع الضرر إلا بأحد هذين فتعينا ترتيبا، ولعموم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)، وهذا منه.
وإن استغله وكسب به مالا فالمال كله للمغصوب منه؛ لأن المنافع مملوكة كالأصول، وتأجيرها بدون ملك، ولا وكالة ولا ولاية أكل بالباطل، وهو محرم (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (النساء: 29)، فالغلة للمالك، وليس للغاصب شيء منها، لعموم «ليس
لعرق ظالم حق» (1)، ولعموم (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (النساء: 29)، وطريق الغصب باطل، وما ترتب على الباطل باطل.
ولو أدخل ماله في المغصوب: كأن زرع الأرض المغصوبة، فله قيمة الحبوب قبل الزرع، وما فعله بعد ذلك باطل ويحتمل ألا قيمة للحبوب لأنه أهدرها بيده لعموم «ليس لعرق ظالم حق» ، ولو حكمنا له بشيء لكان أكلا لأموال الناس بالباطل، وهو محرم؛ لأن أتعابه وزرعه كله عن طريق الباطل وهو الغصب؛ فحرم نماؤه لأنه عدوان في مال الغير.
وكل أكل منه محرم سواء أكله الغاصب مباشرة أو حكمنا على صاحب الأرض المغصوبة أن يعطيه العِوض عن الزرع، فالعوض حرام؛ لأن المعاوضات لا تكون إلا بتجارة عن تراض ولا تراضي هنا بل هو إجبار ناتج عن عدوان الغاصب، وقد قضى الشرع بإهدار الحق لعرق الظالم، وهذا منه.
ولو أدخل ماله في المغصوب وكان قبل إدخاله لا ثمن له فهو باطل؛ لأنه ليس له إلا ماله منفردا عن المغصوب، لأن كافة التصرفات باطلة في المغصوب فلا تقويم لها، زاد الثمن أولا.
ولو أدخل جهده فهو هدر لما قدمنا.
ولو أمر صاحب المغصوب بخلع الزرع فله ذلك، ولا تعويض لعموم ما تقدم «ليس لعرق ظالم حق» ، (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (النساء: 29).
ولو كانت خشبة في دار أو حجر فلا يعوض إلا القيمة؛ لأن الأصل في هذه الأمور المسامحة وعدم المشاحة، والتسامح من مكارم الأخلاق، والشريعة جاءت لرعايتها بخلاف ما لو كانت مما له خطر وثمن كبير لا يتسامح فيه عادة كمن بنى على الأرض، فلا يعوض إلا برضى المغصوب منه.
والقاعدة أن لا تقدير لعمل الغاصب، بل هو هدر.
وأما ماله إن أدخله في المغصوب فإن أمكن إزالته بلا ضرر على المغصوب كإزالة الزرع
(1) - تقدم الحديث وتخريجه.
وهدم العمارة فهو الأصل وقد جاء في النص «فأمر بقلعها» (1).
فإن لم يمكن إزالته إلا بإتلاف المغصوب، أو الإضرار به ضررا فاحشا، فلا حق له فيه لأنه هدر «ليس لعرق ظالم حق» .
ولو حكمنا للغاصب بتعويض لكنا أجبرنا المغصوب منه على ذلك المضاف، ولا بيع إلا بالتراضي ولا تراضي هنا فهو باطل، فيكون الثمن أكلا لأموال الناس بالباطل.
أما إن تراضيا فلا مانع؛ لأنه صلح والصلح خير.
فإن كان الغصب يتعلق به إنقاذ نفس المغصوب كخيط للجراحة، أو أرض مغصوبة دفعها للمستشفى ضمانا للعلاج الطارئ لعدم قدرته؛ فإن الحكم هو التعويض إن فات، لأن فوته كان لطارئ إنقاذ النفس، وهي أولى من المال لإمكان تعويضه بخلاف النفس.
ولأن المال يدفع به قبل النفس بدليل الأمر بالجهاد بأموالكم قبل أنفسكم في جميع النصوص المقترنة (وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)(التوبة: 41).
ولأن الجهاد المالي من مقصوداته إيجاد القوة الدافعة الحامية للأنفس.
وإن كان لإنقاذ حياة حيوان محترم؛ فالتعويض؛ لأن إنقاذ نفس الحيوان المحترم صدقة «في كل كبد رطب أجر» (2).
ولأن امرأة دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت جوعا، وأخرى سقت كلباً فغفر الله لها وكانت بغيا، وهذه المعاني لا توجد في غيرها من الأموال.
فيجمع بين المصالح بالتعويض للمغصوب منه.
وبيع الغاصب المال باطل.
ويجوز لمالكه بيعه إلى طرف رضي بالبيع عاقلاً راشداً، سواء أراد نزعه أو لا، استطاع أم لا، لأنه قد يشتريه لقطع الخصومة والنزاع ودرء الفتنة إن أمكن حصولها بلا قصد لانتزاعه.
وهو غارم حينئذ يعوض جوازا من الزكاة في سهم (وَالْغَارِمِينَ).
(1) - تقدم الحديث وتخريجه.
(2)
- سيأتي تخريجه بعد قليل.
وقولنا «حينئذ» : أي: إذا اشتراها ليدفع بها خصومة وفتنة لا لينتزعها.
فتحصل أن الغاصب:
1 -
جهده هدر.
2 -
ماله المضاف هدر.
3 -
إن أمكن نزع ما غصبه بلا ضرر للمغصوب منه جاز. هذا الأصل؛ لأن إلزام المغصوب منه شيئا إجبارٌ وإكراهٌ بمعاوضة؛ وذلك لا يحل؛ فكان باطلا (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)(النساء: 29).
والتزوير وسيلة للغصب، فحرمت، وباطل ما ترتب عليها.
فحرم انتحال شخصية مؤلف وسرقة جهده، وكل ما كسبه منه المنتحل فهو للمؤلف الحقيقي، وجهده هدر بل يلزمه تعويض تعزير إن اقتضى الأمر ذلك.
وتزوير ختم ترتب عليه ضياع حق أو كسب هو في معنى الغصب.
وكذا تزوير وثائق الأملاك. ومن أخذ علامة تجارية لأحد بلا اتفاق فهو غاصب، وكل ربحه فهو للمالك، وكل ضرر ألحقه وجب تعويضه، ولا تعويض للغاصب، لأنه «ليس لعرق ظالم حق» .
ولأن التعويض معاوضة تفرض على المغصوب منه بالإجبار، فبطلت (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) (النساء: 29)، إلا إن تراضوا بالصلح.
والاختلاس من المال العام أو غيره في معنى الغصب؛ لأنه أخذ لأموال الناس بالباطل ولا فرق إلا أن العرف قضى في الغصب بأنه عنوة وذاك خفية أو بحيلة.
ولكن الأثر واحد يشمله عموم (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)(النساء: 29).
وحد الغاصب حد الفساد بالاختيار؛ لأنه مفسد في الأرض، وأقله النفي، أي الطرد، أو الحبس، مع الضمان للمغصوب وثمراته.
وكل مختلس للمال كذلك، لأنه سعى في الأرض فسادا لا إصلاحا، فإن أخذ المال بقطع الطريق فهو من أعلى الفساد في الأرض، وحده بالاختيار المصلحي أو المعادل لفعله (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ
أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33).
وإنما قلنا «بالاختيار» ؛ لأن «أو» في النص تقتضي ذلك.
وقلنا «المصلحي أو المعادل لفعله» ؛ لاحتمال النص، فإن أمكن الجمع بين الاحتمالين في الحادثة كان أجمع للمراد من دلالة النص، وإن لم يمكن فينظر إما بالمصلحة بحسب اقتضاء الحادثة أو ينظر بجنايته المعادلة لما في النص من قتل أو سرقة وغيرهما.
وأما السرقة فحدها (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(المائدة: 38)، وهو عادةً: مَنْ أَخَذَ مالاً للغير محرزا.
ولا قطع عندي إلا بما كان يعدل نصف الدية؛ لأن الله جعل مقابل اليد المال المكسوب والباء ليست سببية وإلا لجاز في أدنى شيء، بل هي للمعادلة والمماثلة كقوله تعالى (جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة: 17)، و (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ) (الأنعام: 146).
فلم يعاقب الله بمجرد أي ظلم بل بما يقابل استحقاق العقوبة.
ولا أعلم حديثا صحيحا صريح الدلالة يحدد النصاب، مما أدى إلى اضطراب أقوال العلماء، ما بين قاطع بأدنى شيء وما بين محدد على خلاف بينهم، فتبقى المعادلة إلى القضاء مع جواز إسقاطه بعفو صاحب المال، إلا إن ثبت القطع بتأويل حديث «هلَّا كان قبل أن تأتوا إليّ» .
وثبوته يقينا يكون بإثبات أنه صلى الله عليه وسلم قطع السارق في تلك الحادثة مع تنازل المسروق منه؛ لأن هذا التنازل شبهة قوية، والحدود تدرأ بالشبهات.
ولأن الله شرع التنازل في القصاص في النفس فما دون قصاصا، ودية؛ وقتل الأنفس أعظم من باب السرقة فكيف لا يصح التنازل.
فالظاهر أن قوله صلى الله عليه وسلم «هلا قبل أن تصلوا إليّ» إنما هو دلالة على ما كان الأصل سترا عليه لا أنه دلالة على أنه نفذ الحد. ولأنه الآن في موضع تدفع الحدود فيه بالشبهة بإجماع، وهذه أقواها، لأن العفو أسقط حد القصاص في النفس وفي العضو، فأولى منه إسقاط حد القطع بالعفو؛ لأنه إذا أثر في النفوس ففي الأموال أولى.
فيلحق حد السرقة بغيره من الحدود في هذه القاعدة.