الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأحكام الزراعية:
الثروة الزراعية نعمة يتعلق بها الوجود البشري ضرورةً، فهي من الضروريات التي يتعلق بها حفظ الحياة، وهي أربعة أقسام: الحبوب، والفاكهة، والنخيل، والنبات.
وهي مجموعة في قوله تعالى (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ* فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ* وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ)(الرحمن: 10 - 12).
فذكر الفاكهة والنخل والحب، والنوع الرابع النبات، وهو الريحان (1).
وكل ما في القرآن راجع إلى هذه الأربعة بالاستقراء.
ورأس الفواكه الرمان والأعناب والزيتون، ولذا استقلت بالذكر.
والنخل نوع مستقل ليس بفاكهة، ولا حبوب؛ بل هو جامع للنوعين التفكه والتقوت، ويغني عن فاكهة وقوت لجمع ثمرته ما تفرق فيهما من خواص النوعين.
وفرض على الدولة العناية بالثروة الزراعية لقيام أكبر المصالح العامة على الأمن الغذائي، ولأن المقياس الدولي المعاصر للقوى العالمية هو بميزان الأمنين الغذائي والقومي.
وقد جمعا في قوله تعالى (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ)(قريش: 3 - 4).
وأرض الدول العربية خاصة والإسلامية عامة مهيأة لنهضة إنتاجية زراعية؛ إذ الأنواع الأربعة من الثروة الزراعية مستوعبة فيها.
ولا يزرع بعضها في غيرها البتة كالنخيل، أو بجودتها كالزيتون فهي أرض طيبة مباركة (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) (سبأ: 15)، (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) (سبأ: 18)، (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الإسراء: 1)، (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ) (البقرة: 61).
(1) - الريحان في قول أهل العلم: قيل الرزق. وهذا قول الأكثر منهم ابن عباس وغيره. وهذا القول يشمل كل نبات لأنه رزق فيه ألوان المنافع، وقولٌ آخر أنه الأخضر من الزرع. وهو يدل على اعتبار الخضرة في كل نبات خضرة، فدل على ما قلنا. راجع تفسير الآية في تفسير ابن جرير وابن كثير والبغوي والقرطبي والكشاف.
والبركة في اليمن والشام وبلاد الحرمين ثابتة بدعوة رسول الله إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام (1).
ودعا صلى الله عليه وسلم لليمن والشام «اللهم بارك لشامنا ويمننا ثلاثا» (2). وهذه نعم تمكينية.
والإعراض عن النعم إعراض عن شكر المنعم وإيذانا بعذابه (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)(إبراهيم: 7).
وإهمال الحرث الزراعي مؤد إلى مفاسد كثيرة من إضرار بالتربة، وتعطيل لليد العاملة ووفرة البطالة واحتياج الدولة إلى غيرها لسد عجزها غذائيا، وقد ترتهن قراراتها لدول الهيمنة.
وإذا فسدت الأرض الزراعية هلكت الثروة الحيوانية وتضرر الشعب، وهذا فساد محرم (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة: 205).
ولا يجوز استيراد مواد ضارة بالتربة لأنها من الخبائث (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ)(الأعراف: 157)، ويعاقب مخالف، وتراقب الدولة الأسمدة الزراعية وكيفية استعمالها دفعا لإفساد الأرض والمحاصيل.
واستصلاح الأراضي الزراعية مشروع بالأمر، والأصل فيه الوجوب «ليزرعها أو يُزرعها» (3).
وكذا استصلاح الأرض الميتة «من أحيا أرضا ميتة فهي له» (4).
(1) - مع وفرة مياه نهرية عظمى في دجلة والفرات والنيل والوفرة الباطنة وسيل وغيل وعين وكثرة سقيا دائمة سماوية وتنوع مناخ وتضاريس.
(2)
- أخرجه البخاري برقم 1037 عن نافع، عن ابن عمر قال اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا قال، قالوا وفي نجدنا قال: قال اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا قال، قالوا وفي نجدنا قال: قال هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان.
(3)
- أخرجه مسلم برقم 3998 عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يزرعها فليزرعها أخاه» .
(4)
- تقدم تخريجه.
والمزارعة والمساقاة الأصل فيهما (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)(البقرة: 275)، (إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29).
فالأرض الزراعية إن سُلِّمت لمن يعمل فيها بالأجرة فالعقد جائز أصله عقد الإجارة.
والإجارة عقد بيع لأنها بيع منفعة وجوازها على تخريج أنها إجارة قد يرفع الخلاف؛ لأن الإجارة جائزة بلا خلاف، وتسميتها مزارعة لا يغيِّر حكمها الشرعي، وأجر الأجير يدفع بحسب الاتفاق؛ فجاز نقدا، وجاز جزءا من نماء كأجير المضاربة.
والمساقاة هي دفع أرض بها شجر لعامل بعوض من ثمرتها.
والخلاف القديم فيهما -أي المزارعة والمساقاة- مضطرب لاضطراب حديث رافع في المزارعة.
وما كان كذلك أخذنا منه ما وافق الأصل (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)(البقرة: 275)، ووافق أصل النهي عن الظلم والغرر وأكل أموال الناس بالباطل.
ولا تصح حينئذ سوى رواية «كنا نزارع على الأربعاء والجداول ولك هذه ولي هذه وقد تنبت إحداهما ولا تنبت الأخرى فنهينا» (1).
وهذا النهي للتحريم؛ لأنه ظلم وغرور وأكل لأموال الناس بالباطل، وتصح رواية الكراء بالدنانير والدراهم (2)، لموافقة متنها الأصول.
ويظهر حينئذ أن رواية «نهى عن كراء المزارع» (3)، ورواية نهى عن المخابرة، ورواية ما
(1) - أخرجه البخاري برقم 2344، ثم حدث عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع فذهب ابن عمر إلى رافع فذهبت معه فسأله فقال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع فقال ابن عمر قد علمت أنا كنا نكري مزارعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الأربعاء وبشيء من التبن.
(2)
- أخرجه البخاري برقم 2346 عن رافع بن خديج، قال: حدثني عماي أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بما ينبت على الأربعاء، أو شيء يستثنيه صاحب الأرض فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقلت لرافع فكيف هي بالدينار والدرهم فقال رافع ليس بها بأس بالدينار والدرهم.
وقال الليث: وكان الذي نهي عن ذلك ما لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه لما فيه من المخاطرة.
(3)
- تقدم قبل قليل.
تصنعون بمحاقلكم (1)، ورواية «من كان له أرض فليزرعها أو يزرعها ولا يؤاجرها» (2) من حديث جابر، كلها محمولة على الإجارة بجزء خارج من الأرض معين بمكان معين، وهذا محرم؛ لأنه قد لا ينبت موضع منهما، وتبقى الصور الباقية على الجواز.
ودليله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها» (3).
وعاملهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي حتى زمن جعفر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (4). وأقر معاذ أهل اليمن على المخابرة (5).
فتحمل جميع روايات النهي على ما لا خلاف فيه لا رواية ولا فقها مع موافقةٍ للأصول في الإباحة. وهي ما ذكرنا.
والعقد المبرم في الاستثمار الزراعي، مزارعة أو مساقاة، الأصل فيه الإباحة في كل زرع وشجر.
فإن لم يكن للشجر ثمر ولا للزرع كالذي يعطى غذاء للأنعام فيتفق الطرفان على أجرة مقطوعة مقابل العمل.
فإن كان يُتاجر في ورق الشجر والمساقاة فيها فهو كالثمرة.
وإطلاق الثمر على الورق والزهر صحيح بلغة القرآن (ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً)(النحل: 69).
(1) - هي رواية من حديث رافع في صحيح البخاري برقم 2339 قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما تصنعون بمحاقلكم قلت نؤاجرها على الربع، وعلى الأوسق من التمر والشعير قال: لا تفعلوا ازرعوها، أو أزرعوها، أو أمسكوها قال رافع قلت سمعا وطاعة.
(2)
- تقدم ونعيد ذكره هنا لهذه الزيادة «ولا يؤاجرها» أخرجه مسلم برقم 4001 عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤاجرها إياه» .
(3)
- تقدم تخريجه.
(4)
- أخرجه ابن ماجة برقم 2463 بسند صحيح إلى طاووس أن معاذ بن جبل أكرى الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، على الثلث والربع، فهو يعمل به إلى يومك هذا.
(5)
- انظر بداية المجتهد (2/ 223).
والزرع المعد لطعام الأنعام مما لا يثمر يجوز دفع أجرته بجزء مشاع منه كثلث وربع على الأصل في الإباحة بشرط التراضي، والأصل عدم المانع الناقل عنه.
وتصح المساقاة والمزارعة في الأنواع الأربعة: الفواكه، والنخل، والزرع، وكل نبات يتعامل فيه الناس بذلك وقع التعامل قديما أو لم يقع.
أما الفواكه بأنواعها فظاهر؛ لأن الأصل الإباحة، ولا ناقل صحيح ينقل عن هذا الأصل وعضد الأصل بالنص العام (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) (البقرة: 275)، و (إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) (النساء: 29).
والمساقاة بيع منفعة من العامل بثمن مشروط مشاع من إنتاج الشجر من ثمرتها.
وإن كان استثمارا فهي تجارة كالمضاربة، والأصل في الاستثمارات التجارية الحل بالنص، والنص لم يفصل، فشمل الاستثمار الزراعي في شجر الفواكه أو النخل أو الحبوب أو النبات.
وتقييدها بالنخل أو الكرم أو بنوع دون آخر معارض للعموم، والنص لا يعارض إلا بنص.
ولا تُقَيَّد بمعاملة أهل خيبر، وكانت ثمرتهم النخل؛ لأن التقييد حصر وإلغاء، فالحصر هو إعطاء حكم يتناول ما لا يحصى لفرد منه، والإلغاء: هو إلغاء حكمه عما بقي.
ولا يكون إلا بنص صريح صحيح يفيد ذلك.
فإن كان بالمقايسة الاجتهادية على ما هو في مورد آخر منع، فلا يصح قياسه على منع بيع المعدوم، أو النهي عن الغرر أو المحاقلة، وهي بيع الحبوب المكيل بالحبوب في السنابل خرصا (1).
لأن هذا يقال في المساقاة على النخل؛ لأنه بيع معدوم وفيه غرر، فلما أجازه الشرع قولا وفعلا كان الأصل قياس المساقاة في غيرها من الثمر عليها؛ لأنها من نفس بابها؛ فيحكم حينئذ بمشروعية المساقاة في النخل وغيره؛ لا الذهاب إلى ما يخالفه من بيع معدوم كبيع
(1) - أخرجه البخاري برقم 2207 عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة والملامسة والمنابذة والمزابنة.
الحمل الحادث بعد زمن، وهو حبل الحبلة أو بيع ما في بطون الأنعام (1)؛ لكثرة الخطر والغرر في ذلك المترتب عليه الضرر الفاحش، بخلاف المساقاة والمزارعة فالأكثر السلامة.
وحصول الضرر والغرر قليل وجريان العادة الإنسانية المستمرة على ذلك مفيد لغلبة المصالح فيها، بخلاف بيع المعدوم مما لا يغلب فيه المصلحة فمتروك عادة؛ لضرره الغالب، فطابق حكمُ الشرع ما جرت به العادات من المصالح الغالبة كالمزارعة والمساقاة، ومنع ما تُرِكَ عادة لغلبة أو كثرة ضرره وغرره كبيع حبل الحبلة والسمك في الماء؛ لعلة الغرر الفاحش والضرر الكثير.
ومن المصلحة الشرعية أن تدفع الدولة الأرض إلى من يستثمرها من الشركات والمؤسسات والأفراد والجهات الاستثمارية الوطنية لعموم «فليزرعها أو ليزرعها أخاه» .
وهذا أمر والأصل فيه الوجوب، فواجب على الدولة أحد أمرين في الاستصلاح الزراعي:
الأول: مباشرتها للاستصلاح الزراعي.
والثاني: إبرام عقود مع الغير استثمارا.
أما الأول وهو زراعة الأرض واستصلاحها؛ فللأمر في النص، ولأنه يحقق المصالح الكبرى للدولة والشعب من الاكتفاء الذاتي في الغذاء، وصولا إلى الأمن الغذائي، ويدفع مفسدة الفاقة والمجاعة، وذل حاجة سؤال آخر، دولة أو مجتمعا أو جهة.
وكل وسيلة خادمة لذلك فهي مطلوبة شرعا بحسبها من دراسات وأبحاث وتولية كفء وإعداد المعاهد والكليات الزراعية.
وكذا الرقابة على القطاع الزراعي وتأهيل المختصين الزراعيين؛ لأن الوسائل لها أحكام ما توسل بها إليه.
فإن لم تباشر الدولة بجهاتها المعنية الإصلاح الزراعي، وجب الأمر الآخر، وهو إبرام عقود
(1) - قولنا «وفي بطون الأنعام» فيه أحاديث منها ما أخرجه البخاري برقم 2143 عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة، وكان بيعا يتبايعه أهل الجاهلية كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها. ومنها ما أخرجه الإمام أحمد عن ابن عباس وسنده حسن في الشواهد، وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري عند أحمد كذلك لا بأس به في الشواهد.
استثمارية زراعية مع جهات مختصة وطنية لعموم «أو ليزرعها أخاه» (1).
وقلنا «وطنية» لأنه ملفوظ النص بقوله «أخاه» ، فدل على أولوية الاستثمار الوطني الزراعي، ولا يلجأ إلى جهات مستثمرة أجنبية زراعية إلا للحاجة لعدم كفاية وطنية، أو نقص تأهيل أو خبرات.
ويجوز اشتراط شرط عادل كتشغيل اليد العاملة الوطنية لتحقيق مصلحة الخبرة والحد من البطالة وتأهيل الخبرات.
ويؤقت العقد بما يحقق المصلحة، ولا يضر الطرفين؛ فإن حصل استغناء عنهم أبرم مع وطنيين.
ويتفق في العقود على كل شرط عادل يحقق المصلحة العامة ويدفع الضرر.
وقولنا «عادل» لأنه لا ضرر ولا ضرار، فلا يضيق على مستثمر، ولا يضر بالمال العام.
ومن المصلحة العامة أن تدعم الدولة المزارعين وتوفر لهم التسهيلات والتحفيز، ويجوز أن تشتري الدولة المحاصيل الزراعية المحلية إن استدعت المصلحة ذلك، أعني المحاصيل الاستراتيجية كالقمح والسكر.
لأن بيع المُزارع لها في السوق متعذرٌ؛ لأنه يبيعها بسعر التكلفة مع ربح فيرتفع الثمن للمحصول المحلي فيُرغَبُ عنه إلى الاستيراد الخارجي الأرخص سعرا.
فإذا اشترته الدولة دعمته من المال العام؛ لتوفره في الأسواق بسعر منافس.
وهذه مصلحة تحقق الأمن الغذائي، والاكتفاء الذاتي، والاستثمار الزراعي الوطني.
وعليهم الاعتناء بالمحصول من الحبوب والفواكه وغيرها بما يحفظها ويدفع عنها التلف؛ لأن إتلافها إهدار للمال وعبث وهو محرم.
فتغلف وتعلب وتهيأ لها المخازن المركزية لحفظها تبريدا وتخزينا وعناية وتسويقا داخليا أو خارجيا.
وتحديد ما على الجهة المزارعة، وما على الدولة، أو الجهة المالكة راجع إلى الاشتراط العادل
(1) - تقدم قبل قليل.
في العقد، أو العرف، أو نصوص تقنن ذلك، أو مذهب فقيه.
وأولاها العقود، دفعا للخصومة والضرر عن الطرفين.
تملك الأرض:
ولا تتملك الأرض إلا بالطرق الخمس للتملك، وهي بعقد معاوضة محض، أو غير محض، أو تبرر وتبرع، أو فرض، أو سبق.
فعقد المعاوضة المحض هو البيع والشراء بأنواعه. وغير المحض هو المدفوع في مهر ونفقة وتعويض جنايات كالأروش والديات.
وأما التبرر والتبرع فوقف الأرض وهبتها.
وأما الفرض فالميراث والغنيمة والزكاة.
وأما السبق فهو إحياء الموات، ونحوه.
والكلام على هذه العقود في بابها سوى الأَخِيْرَيْن.
فالملك إما أن يكون للدولة، أو للمجتمع، أو للأشخاص.
والأخيران لا مدخل لإحياء الأرض فيه؛ لأن الملك المجتمعي منافعه عامة للمجتمع، كالطرقات العامة، وأراضي المرافق والمنابت، والمسارح للأنعام، وغابات الاحتشاش والاحتطاب، ولأنها إذا امتلكت لشخص تضرر العامة.
ولأنها ليست مَيْتة، لانتفاع المجتمع بها.
وأما الملك الشخصي فلا يحق إحياؤه تملكا لأحد غير مالكه؛ لعموم «إن أموالكم عليكم حرام» (1).
والإضافة في «أموالكم» إضافة ملك.
ولأن التصرف في ملك الغير محرم إلا بإذنه، ولا إذن هنا، فيكون غصبا.
وأما ملك الدولة فهو نوعان:
أحدهما الملك العام وهو هنا ما المقصود به الملك السياسي والسيادي، وهي تشمل سائر
(1) - تقدم الحديث وتخريجه.
الأراضي داخل حدود الدولة. والآخر بملك خاص مسجل باسم الدولة. وهذا الأخير لا يحيا إلا بإذن الدولة.
والأول يجوز إحياء الميت منه وإصلاحه ولو بلا إذن؛ لعموم «من أحيا أرضا ميتة فهي له» .
فإن منعت الدولة استصلاحه إلا بإذن نُظِر:
فإن كان أمرها تعنتا مع عدم استصلاحها للموات؛ فالأمر باطل؛ لأنه خارج عن المصلحة العامة، وتصرفات الدولة منوطة بالمصالح العامة وإلا بطلت.
ولأنه يؤدي إلى إهلاكٍ لكثير من الأرض الصالحة للمنافع من زراعة وبناء واستثمار؛ فحرم؛ لأنه مفسدة.
وإن كان استئذانها تنظيما ودفعا لمفسدة العشوائية في التملك جاز؛ لأنها مصلحة معتبرة.
ويجوز أن يُحْييَ الموات مواطنٌ مقيم في الدولة.
فشمل قولنا ذلك الذكر، والأنثى، والمسلم، وغير المسلم؛ لأن حق الإحياء من حقوق المواطنة.
وقولنا «مواطن مقيم» لا يشمل غير المواطن في الدولة المسلمة من تاجر مارٍّ بأرض الدولة، أو سائح، أو مبعوث لمهمة مدنية، أو رسمية؛ فهؤلاء لا يحق لهم إحياء الموات في أرض الدولة المسلمة؛ لأن هذا ممنوع بالعرف الدولي الرسمي، والعمل بالعرف جائز بلا مخالفة للشرع، وهو هنا كذلك.
إذ مقصده إصلاح أرض الدولة بما يعود بالنفع العام على الشعب، وإحياء غير المواطن يبطل هذا المقصد؛ لأدائه إلى تملك منفعةٍ وعقاراتٍ للخارج تملكاً نافذ التصرف فيها، وهذا ضرر على الدولة.
والإحياء للأرض هو استصلاحها بكل ما يعد حياة لها: بالزراعة، والاستثمار، والسكن، أو اتخاذ مسجد.
فالزراعة شاملةٌ لكل ما ينبت من زروعِ وشجرٍ مثمر، أو غير مثمر.
والاستثمار يشمل: بناء محطات الوقود، أو تربية الثروة الحيوانية أو الطيور، أو المصانع، أو
الفنادق والاستراحات، وغير ذلك.
وقولنا «اتخاذ مسجد» لا يشمل معبدا أو كنيسة؛ لأنه ليس في معنى الإحياء؛ لأن الله جعل الكافر ميتا موتا دينيا (وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاء وَلا الأَمْوَاتُ)(فاطر: 22)، أي: ما يستوي المسلم والكافر.
والكنيسة هي دار الدين عندهم، فلم يعتبر بناؤها إحياء للأرض بل إماتة؛ لأن ما هم عليه موت بالنص.
وشرط إحياء الأرض أن تكون مَيِّتَة ليست لأحد.
فالميتة هي ما لا ينتفع بها بوجه عام ولا خاص، وليست ملك أحد لا ميت ولا حي، كان حاضرا أو غائبا، ولو تقادم الملك، إذ التقادم يقوي الملك ولا يضعفه.
أو ما هي قريبة من ملكه وتحسب عرفا وعادة أنها تابعة لذلك الملك؛ فلا إحياء لها.
ويعرف الملك بالاستفاضة، أو خبر العدول، أو الوثائق، فإن اندثر المُلَّاك، ولا يعلم لهم بقية وارث، لا من عصبة ولا رحم، جاز إحياؤها وتملكها؛ لأنها تصير حينئذ في النظر العام للدولة، وهو يجوز إحياء مواته. وإنما قلنا بالنظر العام لأنه متعلق بعموم نظرها على الشعب احترازا عن النظر الخاص لأنه يكون من الدولة في أموالها.
ومن أحيا أرضا وملكها ثم أهملها في حياته مدة يُعْلَمُ بها زهده وتركه لها؛ جاز لغيره إحياؤها؛ لأن الأول خالف المقصود الشرعي من إحياء الموات وهو حصول المنفعة عامة، وخاصة.
فلما عاد السبب وهو الإحياء على المقصد بالإبطال بطل ما ترتب عليه، وهو الملك.
وقولنا «في حياته» احترازٌ عما إذا كان الإهمال وقع بعد موته لانتقالها إلى ورثته؛ فإنه لا يحق لأحد إحياؤها؛ لأن تبدل سبب الملك كتبدل العين.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «هي لها صدقة ولنا هدية» (1).
فَتَغيُّر سبب الملك يغير الأحكام.
(1) - أخرجه البخاري برقم 1493 عن عائشة رضي الله عنها أنها أرادت أن تشتري بريرة للعتق وأراد مواليها أن يشترطوا ولاءها فذكرت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم اشتريها فإنما الولاء لمن أعتق قالت وأتي النبي صلى الله عليه وسلم بلحم فقلت هذا ما تصدق به على بريرة فقال هو لها صدقة ولنا هدية. وهو في مسلم برقم 2536.