الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والأمكنة تتعلق بمحل الصفقات والمعاملات المالية، دولية ومحلية، رسمية وشعبية، وبالمراسلة أو السلكي، أو البريد، أو النت.
وما يتعلق بمحل الإيفاء والتسليم، ومكانه وبلده مسماةً موضحة في كل ذلك كبنك أو شركة أو تحويلات، أو كان محله البحر أو الجو أو البر، أو كان محلا حصريا بوكالة أو جهة كوكيل بلد معين، أو بلدان، أو كان باطن الأرض أو فوقها، أو في أنفاقها، أو في أدغالها، أو كان في محل تاريخي سياحي، أو ديني كالحرم أو المسجد، أو المشاعر المقدسة، أو في مكان عام أو خاص.
أما الاستثمار بالأموال والسلع فهو شامل لكل أنواعه العالمية التي حصرناها في خمسة: سهم، ونقد، وعين، وحق، ومنفعة.
وأما الأشخاص المستثمرون فالنظر فيهم من جهة الأهلية وكونُهم ملاكاً أو وكلاء أو جهاتٍ اعتيادية، أو أولياء، أو ناظرين.
والكلام في مسائل الاستثمار يرجع إلى أن الاستثمار معاملة تجارية قائمة على ركن التراضي (إِلَاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ)(النساء: 29)، والخلو عن الموانع الخمسة.
والتراضي أمر نفسي خفي يرجع في معرفة تحققه إلى ما يبينه الإنسان، وهو أمر جبلي في أصل الخلقة (الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الإِنسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن: 1 - 4).
والأقوال رأس البيان، وهي في عقود الاستثمار ركنٌ؛ لأنه لا تتم المعاملات الاستثمارية المعاصرة إلا بالأقوال منطوقةً أو مكتوبةً، ولا تجري بالمعاطاة فلم تعتبر؛ ولأن المشروط بين التجار عرفا كالمشروط شرعا وكالملفوظ.
التفاوض الاستثماري
والتفاوض قبل الإبرام مشروع وهو السَّوْم.
أ- ولا يجوز دخول طرف مفاوض آخر حتى يدع الأول للنص «لا يسم على سوم أخيه» (1).
(1) - تقدم الحديث وتخريجه.
ولأنه أدفع للخصومة؛ ولأن دخوله مؤد إلى حرص البائع على السلعة طلبا لسعر أعلى من مساوم آخر، ويترتب عليه كثيرا فشل الصفقة معهما، مما يؤدي إلى قلة حركة المبيعات، ونوع من الركود.
فمقصود الشرع من تحريم المساومة على المساومة حفظ التعاون، والمودة بين عملاء السوق مع بعضهم وبينهم وبين التجار، إذ انصراف التاجر إلى الآخر مع إعراضه عن الأول طمعا في الزيادة مؤد إلى نفور العملاء منه، وسوء سمعته مما يؤدي إلى نوع خسارة عليه.
ونفوق السلع سريعا وجريان حركة السوق والتجارة ودورانها هي إحدى أجدى الطرق للانتعاش الاستثماري والاقتصادي وتشغيل اليد العاملة.
فلذلك حرم السوم على السوم، والبيع على البيع؛ لأنه يعود على هذا المقصود الشرعي التجاري بالإخلال.
ب- والمداراة والمماراة ممنوعتان في الاستثمار حال التفاوض وأثناء العقود وبعدها للنص على قصد تركهما «كان شريكي، وكان لا يداري ولا يماري» (1).
والمداراة هي المجاملة على حساب الحقائق، فالواجب بيان الحق في كل ما يتعلق بالمعاملات؛ لأنه من النصيحة «الدين النصيحة قلنا لمن قال لله ولرسوله ولكتابه وأئمة المسلمين وعامتهم» (2).
والمماراة كل جدل عقيم بالباطل -وهو الغالب- أو بالحق؛ لأنه يرتب الخصومة والضغينة مما يؤدي إلى فشل العلاقات التجارية والاستثمارية.
فالنهي عن المماراة في المعاملات المالية له مقصدان، الأول: حفظ الود ودفع الضغينة، والثاني: حفظ العلاقات التجارية وهما أدعى لمقصود أبعد وأعلى، وهو حفظ جريان ودوران المال وحركة الأسواق.
(1) - حديث «كان شريكي، وكان لا يداري ولا يماري» قلت: سنده حسن، وصححه الحاكم برقم 2357، وقال الذهبي صحيح. وصححه الهيثمي في المجمع. قلت: وتضعيف الأرناؤوط له في مسند أحمد لا وجه له. وذكره الضياء في المختارة برقم 371.
(2)
- تقدم الحديث وتخريجه.
والنهي عن المداراة له مقصدان، الأول: حفظ الثقة؛ لأن المجامل يفعل ما يرضي الآخر على خلاف الحقائق، فيثمر نزع الثقة التجارية منه.
والثاني: أن كشف الحقائق أدعى للثقة، وجريان التعامل، وتجنب المشاكل التجارية بحلولٍ قبل وقوعها.
ج- ويحرم النجش للنص «نهي عن النجش» (1).
وهو دخول طرف يظهر إرادة الشراء والحرص على السلعة ليوقع المشتري الأول ويكون عادة بالتوافق مع التاجر.
وهو محرم؛ لأنه غش؛ ولأنه آيل إلى كساد تجارة ذلك التاجر لانتشار عدم الثقة به وغشه وخداعه.
د- ويجب الصدق من التاجر وبيان حقيقة السلعة «فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما محقت بركة بيعهما» (2).
والصدق عند التفاوض يكون ببيان حقيقة السعر بلا مغالاة ولا انتهاز لجهل متستر، أو اضطراره، وبيان صفة السلعة، وصنعها، وعيبها، ومدى توفر قطع غيارها، وإمكان صيانتها إن كان الأمر مما يجري فيه ذلك.
وفي الشركات والمضاربات بيان الشروط والمواصفات والحقوق للأطراف، وما لكل وما عليه.
وقاعدة هذا في قولي: ويجب بيان كل ما لو عرف لأثر في التفاوض.
وأما البركة المقصودة في النص فهي نوعان: بركة سببية، وبركة سماوية.
فالأولى ما يترتب على الصفقة من ربح، وتملك، وأثر الربح على حركة المبيعات ورفاهية التاجر.
وأثر التملك على المشتري في الانتفاع بالسلعة أو الصفقة فيما قصد به الانتفاع في حياته.
ومحق هذه البركات عند الكتمان والكذب ظاهر إذ للمشتري الرد عند ظهوره على عيب
(1) - تقدم تخريجه.
(2)
- تقدم الحديث وتخريجه.
قادح، وله الإمساك والمطالبة بتعويض؛ لعموم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90)، وهذا منه.
وفي العيوب غير الملزمة للرد أو التعويض محقُ بركة الصفقة بالخصومة والضغينة، ونزع الثقة في سلع التاجر البائع.
أما الثانية وهي البركة السماوية، فهو أمر يحدثه الله في الصفقة وآثارها عند الصدق، والبيان من الأطراف يؤثر على تضاعف الاستفادة من الربح والسلعة، ومحقُه عند الكذب والكتمان قلة الجدوى من الربح، وقلة النفع والجدوى من السلعة إلى أمور عامة كونية يحدثها الله في التجارات والمناخ والأوضاع (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف: 96)، (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41).
هـ- والحلف في المعاملات مذموم لعموم (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ)(البقرة: 224).
ومحله حال التفاوض غالبا، فإن كان كذبا فهو من الكبائر والموبقات «والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» (1) أي لا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.
و- والإيهام بدفع طرف ثمنا أكثر مما دفع المساوم محرم؛ فإن كان في وقت بوار السلعة كذهاب وقت الذروة وانتهاء حركة السوق عظم الإثم، وكان من الكبائر «ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: ورجل حلف بعد العصر أنه أعطى ما لم يعط ليوقعه» (2).
(1) - أخرجه البخاري برقم 2369 عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم ورجل منع فضل ماء فيقول الله اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك» . وعند مسلم برقم 306 من حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم» قال فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار. قال أبو ذر خابوا وخسروا من هم يا رسول الله قال «المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» .
(2)
- تقدم تخريجه.
وبعد العصر كان وقتا تبور فيه السلعة، فجريان تعاملهم على أسواق تقوم في ساعات من نهار أو زمن من الأسبوع أو السنة ثم تنتهي.
فبدلا من أن يُصَرِّف التاجر السلعة حينئذ أوقع بإيهامه وقَسَمِه المشتري خداعا وكذبا.
فهذا في التفاوض التجاري محرم، وكبيرة من الكبائر، وضار بالسوق والمستهلك والمشتري.
ز- ويندب عند التفاوض طلاقة الوجه والابتسامة؛ لأنه من الإحسان لعموم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)(النحل: 90)، ولأنه من السماحة وهي محمودة في البيوع، ولأنه من مكارم الأخلاق والشريعة قصدت حفظها وتتميمها، ولأنه أوقع وأوثق لاستمرار التعامل التجاري، وهذه مصلحة مباحة والشريعة رعت المصالح.
ح- ويشرع السماحة في التفاوض والتساوم؛ لعموم «رحم الله امرءا باع سمحا واشترى سمحا» (1)، ولأنه خلق فاضل يدفع الطمع والحرص، ودفع هذه مرغوب في الشرع.
ط- ويحرم تعمد البخس للسلعة أو ثمنها؛ لعموم (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ)(الأعراف: 85)، والبخس تحقير الشيء بما يسقط قيمته إسقاطا فاحشا، وهذا ضرر فاحش واجب الدفع؛ إذ يحمل على الزهد في السلعة؛ ويؤدي بالمالك إلى عرضها وبيعها بما هو ضرر عليه حقيقة، وإن رضي بالصفقة المبخوسة ظاهرا.
ولا مانع حال التفاوض من شرط الرد عند ظهور خداع في الصفقة؛ لحديث «كان رجل يخدع في البيوع، فقال صلى الله عليه وسلم: إذا بايعت فقل لا خلابة» (2)، أي لا خداع.
وله عند التفاوض والسوم أن يأخذ السلعة ويقلبها ويتأملها، سواء كانت هي أو نموذجا لها.
ويجوز له الذوق للمطعوم وتجربة ما يحتاج إلى معرفة مطابقته للطلب، لأن هذه الأمور وسيلة تحصيل ركن الرضى في التبايع.
(1) - أخرجه البخاري برقم 2076 عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى» .
(2)
- تقدم تخريجه.