الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: أحكام الأكل من الصيد، والدلالة عليه
المطلب الأول: من صيد لأجله
من صيد لأجله، فإنه يحرم عليه أكله، وهو مذهب جمهور الفقهاء من المالكية (1)، والشافعية (2)، والحنابلة (3)، واختاره داود الظاهري (4)، وبه قال بعض السلف (5).
الأدلة:
1 -
عن ابن عباس رضي الله عنهما ((أن الصعب بن جثامة الليثي أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حماراً وحشيًّا، وهو بالأبواء أو بودَّان، فردَّه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حُرُم)) (6).
2 -
عن عبدالله بن عامر بن ربيعة قال: ((رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه بالعرج في يومٍ صائف، وهو محرم وقد غطى وجهه بقطيفة أرجوان، ثم أُتيَ بلحم صيدٍ، فقال لأصحابه: كلوا، قالوا: ألا تأكل أنت؟ قال: إني لست كهيأتكم، إنما صيد من أجلي)) (7).
المطلب الثاني: إذا صاد المحل صيدا وأطعمه المحرم، فهل يكون حلالا للمحرم؟
إذا صاد المحل صيداً، وأطعمه المحرم دون أن يعينه بشيءٍ على صيده، فإنه يحل للمحرم أكله، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية (8)، والمالكية (9)، والشافعية (10)، والحنابلة (11)، وحكاه الكاساني عن عامَّة العلماء (12).
الأدلة:
أولاً: من الكتاب
قوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة: 96].
وجه الدلالة:
أن كلمة: صيد، مصدر، أي: حُرِّم عليكم أن تصيدوا صيد البر، وليس بمعنى مصيد (13).
ثانياً: من السنة
1 -
عن أبي قتادة رضي الله عنه، قال:((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومنا المحرم، ومنا غير المحرم، فرأيت أصحابي يتراءون شيئا، فنظرت، فإذا حمار وحش يعني وقع سوطه، فقالوا: لا نعينك عليه بشيء، إنا محرمون، فتناولته، فأخذته ثم أتيت الحمار من وراء أكمة، فعقرته، فأتيت به أصحابي، فقال بعضهم: كلوا، وقال بعضهم: لا تأكلوا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو أمامنا، فسألته، فقال: كلوه، حلال)) (14).
ثالثاً: أن المحرِم ليس له أثرٌ في هذا الصيد، لا دلالة، ولا إعانة، ولا مشاركة، ولا استقلالاً، ولا صيد من أجله؛ فلم يُمنع منه.
المطلب الثالث: الدلالة على الصيد
(1)((حاشية الدسوقي)) (2/ 78 - 79).
(2)
((المجموع)) للنووي (7/ 324).
(3)
((الإنصاف)) للمرداوي (3/ 338).
(4)
((المجموع)) للنووي (7/ 324).
(5)
قال ابن المنذر: (وقال عطاء، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: يأكله إلا ما صيد من أجله، وروى بمعناه عن عثمان بن عفان)((الإشراف)) (3/ 249). وقال شمس الدين ابن قدامة: (وإن صيد من أجله حرم عليه أكله، يروى ذلك عن عثمان ابن عفان رضي الله عنه، وبه قال مالك والشافعي)((الشرح الكبير)) (3/ 289).
(6)
رواه البخاري (1825)، ومسلم (1193).
(7)
رواه مالك (3/ 514)(1290)، والشافعي في ((الأم)) (7/ 241)، والبيهقي (5/ 191)(9705). وصحح إسناده النووي في ((المجموع)) (7/ 268)، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (6/ 941).
(8)
((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (2/ 565)، ((تبيين الحقائق وحاشية الشلبي)) (2/ 68).
(9)
((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/ 372).
(10)
((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/ 779).
(11)
((المغني)) لابن قدامة (3/ 291)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/ 436).
(12)
قال الكاساني: (ويحل للمحرم أكل صيد اصطاده الحلال لنفسه، عند عامة العلماء)((بدائع الصنائع)) (2/ 205).
(13)
قال ابن كثير: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا أي: في حال إحرامكم يحرم عليكم الاصطياد؛ ففيه دلالةٌ على تحريم ذلك)((تفسير ابن كثير)) (3/ 200).
(14)
رواه البخاري (1823)، ومسلم (1196).
الفرع الأول: إذا دلَّ المحرمُ حلالاً على صيدٍ فقتله:
اختلف الفقهاء فيما إذا دلَّ المحرمُ حلالاً على صيدٍ فقتله، على قولين:
القول الأول: إذا دلَّ المحرم حلالاً على صيدٍ فقتله، يلزم المحرم جزاؤه، وهو مذهب الحنفية (1)، والحنابلة (2)، وبه قال طائفةٌ من السلف (3)، وهو اختيار ابن تيمية (4)، والشنقيطي (5)، وحُكيَ فيه الإجماع (6).
الأدلة:
أولاً: من السنة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحاب أبي قتادة رضي الله عنهم: ((هل منكم أحدٌ أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها؟)) (7).
وجه الدلالة:
أنه علَّق الحلَّ على عدم الإشارة؛ فأحرى أن لا يحل إذا دلَّه باللفظ، فقال هناك صيدٌ ونحوه (8).
ثانياً: أنَّه قول عليٍّ وابن عباس رضي الله عنهما، ولا يُعرَف لهما مخالفٌ من الصحابة رضي الله عنهم (9).
ثالثاً: أنَّه سببٌ يُتوصَّلُ به إلى إتلاف الصيد؛ فتعلَّق به الضمان؛ فإنَّ تحريم الشيء تحريمٌ لأسبابه (10).
القول الثاني: إذا دلَّ المحرمُ حلالاً على صيدٍ، فإنه يكون مُسيئاً، ولا جزاء عليه، وهو مذهب المالكية (11)، والشافعية (12).
الأدلة:
أولاً: من الكتاب
ظاهر قوله تعالى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة: 95].
وجه الدلالة:
أنَّه علَّق الجزاء بالقتل؛ فاقتضى ألا يجب الجزاء بعدم القتل (13).
ثانياً: أنها نفسٌ مضمونةٌ بالجناية؛ فوجب ألَاّ تُضمنَ بالدلالة كالآدمي.
ثالثاً: أنَّ الصيد لا يُضمَن إلا بأحد ثلاثة أشياء: إما باليد، أو بالمباشرة، أو بالتسبب، فاليد أن يأخذ صيداً فيموت في يده فيضمن، والمباشرة أن يباشر قتله فيضمنه، والتسبُّب أن يحفر بئراً، فيقع فيها الصيد فيضمن، والدلالة ليست يداً ولا مباشرةً ولا سبباً (14).
(1)((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (3/ 68)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (3/ 28).
(2)
((المغني)) لابن قدامة (3/ 288)، ((الإنصاف)) للمرداوي (3/ 336).
(3)
قال ابن قدامة: (ويضمن الصيد بالدلالة، فإذا دلَّ المحرم حلالاً على الصيد فأتلفه، فالجزاء كله على المحرم، روي ذلك عن علي وابن عباس وعطاء ومجاهد وبكر المزني، وإسحاق، وأصحاب الرأي)((المغني)) (3/ 288).
(4)
قال ابن تيمية: (وكما يحرم قتل الصيد تحرم الإعانة عليه بدلالةٍ أو إشارةٍ أو إعارة آلةٍ لصيده أو لذبحه، وإذا أعان على قتله بدلالةٍ أو إشارةٍ أو إعارة آلةٍ ونحو ذلك، فهو كما لو شرك في قتله، فإن كان المعان حلالاً، فالجزاء جميعه على المحرم، وإن كان حراماً اشتركا فيه)((شرح عمدة الفقه)) (3/ 182).
(5)
قال الشنقيطي: (فذهب الإمام أحمد وأبو حنيفة إلى أن المحرم الدال يلزمه جزاؤه كاملاً
…
وهذا القول هو الأظهر) ((أضواء البيان)) (1/ 440 - 441).
(6)
قال عطاء: (أجمع الناس على أن على الدال الجزاء)((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (3/ 70). قال الطحاوي: (ولم يُروَ عن أحدٍ من الصحابة خلاف ذلك؛ فصار ذلك إجماعاً)((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (3/ 70).
(7)
جزء من حديث رواه البخاري (1824)، ومسلم (1196).
(8)
((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (3/ 70).
(9)
((المغني)) لابن قدامة (3/ 288).
(10)
((المغني)) لابن قدامة (3/ 288)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/ 197).
(11)
((مواهب الجليل)) للحطاب (4/ 258)، ((حاشية الدسوقي)) (2/ 77).
(12)
((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/ 306).
(13)
((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (3/ 69)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/ 307).
(14)
((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/ 307).
رابعاً: أنَّ القاتل انفرد بقتله باختياره، مع انفصال الدال عنه، فصار كمن دل محرماً أو صائماً على امرأة فوطئها، فإنه يأثم بالدلالة، ولا تلزمه كفارة، ولا يفطر بذلك (1).
الفرع الثاني: إذا دلَّ المحرمُ محرماً على صيدٍ فقتله:
اختلف الفقهاء فيما إذا دلَّ المحرمُ محرماً على صيدٍ فقتله، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إذا دلَّ المحرم محرماً على صيدٍ فقتله، فعلى كل واحدٍ منهما جزاءٌ كامل، وهو مذهب الحنفية (2)، وقول طائفةٍ من السلف (3)؛ وذلك لأنَّ الدلالة من محظورات الإحرام، فتوجب ما يوجبه القتل.
القول الثاني: إذا دلَّ المحرم محرماً على صيدٍ فقتله، فالجزاء بينهما، وهو مذهب الحنابلة (4)، وهو قول بعض السلف (5)، واختاره ابن تيمية (6)؛ وذلك لأن الواجب جزاء المتلف، وهو واحد؛ فيكون الجزاء واحداً (7).
القول الثالث: إذا دلَّ المحرمُ محرماً على صيد فقتله فالدال مسيء ولا جزاء عليه، وهو قول المالكية (8)، والشافعية (9)، واختاره الشنقيطي (10).
الدليل:
ظاهر قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة: 95].
وجه الدلالة:
أوجب الجزاء على القاتل وحده، فلا يجب على غيره، ولا يُلحَق به غيره؛ لأنه ليس في معناه (11).
(1)((فتح الباري)) لابن حجر (4/ 29).
(2)
((الفتاوى الهندية)) (1/ 250).
(3)
قال ابن قدامة: (وبه قال الشعبي، وسعيد بن جبير، والحارث العكلي)((المغني)) (3/ 289).
(4)
((المغني)) لابن قدامة (3/ 289)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/ 543).
(5)
قال ابن قدامة: (وبه قال عطاء، وحماد بن أبي سليمان)((المغني)) (3/ 289).
(6)
قال ابن تيمية: (وإذا أعان على قتله بدلالةٍ أو إشارةٍ أو إعارة آلةٍ ونحو ذلك، فهو كما لو شرك في قتله، فإن كان المعان حلالاً، فالجزاء جميعه على المحرم، وإن كان حراماً اشتركا فيه)((شرح عمدة الفقه)) (3/ 182).
(7)
((المغني)) لابن قدامة (3/ 289).
(8)
((مواهب الجليل)) للحطاب (4/ 258)، ((حاشية الدسوقي)) (2/ 77).
(9)
((المجموع)) للنووي (7/ 330).
(10)
قال الشنقيطي: (وأما إذا دلَّ المحرم محرماً آخر على الصيد
…
قال بعض العلماء الجزاء كله على المحرم المباشر، وليس على المحرم الدال شيء، وهذا قول الشافعي، ومالك، وهو الجاري على قاعدة تقديم المباشر على المتسبب في الضمان، والمباشر هنا يمكن تضمينه; لأنه محرم، وهذا هو الأظهر) ((أضواء البيان)) (1/ 441).
(11)
((المجموع)) للنووي (7/ 330).