الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[صور فعلي الشرط والجواب]
قال ابن مالك: «وكون فعلي الشّرط ماضيين وضعا، أو بمصاحبة «لم» أحدهما أو كليهما، أو مضارعين دون «لم» أولى من سوى ذلك، ولا يختصّ نحو: إن تفعل فعلت بالشّعر خلافا لبعضهم».
قال ناظر الجيش: أراد بقوله «فعلي الشّرط» : فعلى الشرط والجزاء، لأن فعل الجزاء لما كان ناشئا عن فعل الشرط لأنه مسبب عنه صحت نسبته إليه، ثم إن فعل الشرط إما أن يكون ماضيا بالوضع، أو مضارعا عاريا من «لم» أو مضارعا مصحوبا بـ «لم» وفعل الجزاء أيضا كذلك، والخارج من ذلك تسع صور وتؤخذ من كلام المصنف، فمنها خمس بالمنطوق وهي: أن يكون الفعلان ماضيين بالوضع نحو: إن قام زيد قام عمرو، وأن تكون «لم» مصاحبة لفعل الشرط نحو: إن لم يقم زيد قام عمرو، وأن تكون «لم» مصاحبة [5/ 171] لفعل الجزاء نحو: إن قام زيد لم يقم عمرو، وأن تكون «لم» مصاحبة كليهما نحو: إن لم يقم زيد لم يقم عمرو، وأن يكون الفعلان مضارعين دون «لم» في كل منهما نحو: إن يقم زيد يقم عمرو.
ومنها أربع بالمفهوم وهي: أن يكون الشرط ماضيا بالوضع وفعل الجزاء مضارعا لم تصحبه «لم» نحو: إن قام زيد يقم عمرو، وأن يكون الأول مصحوبا بـ «لم» والثاني مضارعا نحو: إن لم يقم زيد يقم عمرو، وأن يكون الأول مضارعا لم تصحبه «لم» والثاني [ماضي الوضع نحو: إن يقم زيد قام عمرو، وأن يكون الأول مضارعا لم تصحبه «لم» والثاني] مضارعا مصحوبا بـ «لم» نحو إن يقم زيد لم يقم عمرو.
ثم إن كلّا من الصور الخمس المأخوذة من المنطوق أولى من كل من الصور الأربع المأخوذة من المفهوم كما
صرح به في قوله «وكون فعلي الشّرط كذا أولى من سوى ذلك» ، وإنما كانت تلك أولى للمشاكلة، ولكن بعضها أولى من بعض، قالوا (1):
فالأحسن أن يكونا مضارعين [وذلك لظهور (2) العمل فيهما، ثم ماضيين للمشاكلة وهو عدم التأثير، ثم أن يكون الأول ماضيا والجواب مضارعا، قالوا (3): -
(1) انظر التذييل (6/ 896).
(2)
في التذييل (6/ 896)«لظهور تأثير العمل فيهما» .
(3)
انظر التذييل (6/ 896).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لأن فيه الخروج من الأضعف إلى الأقوى وهو من عدم التأثير إلى التأثير.
وقال الإمام بدر الدين (1): «إذا كان الشرط والجزاء فعلين جاز أن يكونا مضارعين] وأن يكونا ماضيين، وأن يكون الشرط ماضيا والجواب مضارعا، وأن يكون الشرط مضارعا والجواب ماضيا، والأكثر أن يكونا مضارعين لأنه الأصل، ومنه قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ (2) ويليه في الكثرة أن يكونا ماضيين وضعا أو بمصاحبة «لم» أحدهما أو كلاهما لأنه وإن كان أبعد عن الأصل من كون أحدهما مضارعا فهو أدخل في المشاكلة وذلك نحو: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا (3)، ونحو: إن قمت لم أقم، وإن لم تقم قمت، وإن لم تقم لم أقعد، وأما كون الشرط ماضيا والجواب مضارعا فقليل بالنسبية ومن ذلك قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها (4) وأقلّ منه كون الشرط مضارعا والجواب ماضيا لأن الشرط الماضي لا يلتبس بغيره لأنه مقرون بأداة الشرط والجواب الماضي قد يلتبس بغيره لعدم ظهور الجزم فيه» انتهى.
وقال سيبويه (5) بعد أن قرر أن المجزوم بـ «لم» ماض: «فإذا قلت: إن تفعل فأحسن الكلام أن يكون الجواب أفعل لأنه نظيره من الفعل، وإذا قلت: إن فعلت فأحسن الكلام أن تقول: فعلت لأنه مثله فكما ضعف فعلت مع أفعل، وأفعل مع فعلت قبح لم أفعل مع الفعل، لأن لم أفعل نفي فعلت، وقبح لا أفعل مع فعل لأنها نفي أفعل» انتهى.
وأما أفهم كلام المصنف أن الصور الأربع - وإن كانت الصور الخمس أولى منها - جائزة في الكلام، وكان في إحداهما خلاف وهي التي قال فيها بدر الدين:«وأقلّ منه كون الشرط مضارعا والجواب ماضيا» أراد التنبيه على ذلك فأشار إليه بقوله «ولا يختصّ إن تفعل فعلت بالشّعر خلافا لبعضهم» ثم لما ذكر هذه المسألة في شرح
الكافية أنشد أبياتا (6) شواهد على ذلك وهي قول الشاعر: -
(1) انظر شرح التسهيل لبدر الدين (4/ 90).
(2)
سورة البقرة: 284.
(3)
سورة الإسراء: 8.
(4)
سورة هود: 15.
(5)
انظر الكتاب (3/ 91، 92).
(6)
انظر شرح الكافية الشافية (3/ 1585 - 1588).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
4076 -
من يكدني بسيّئ كنت منه
…
كالشّجابين حلقه والوريد (1)
وقول الآخر:
4077 -
إن تصرمونا وصلناكم وإن تصلوا
…
ملأتم أنفس الأعداء إرهابا (2)
وقول الآخر:
4078 -
إن يسمعوا سبّة طاروا بها فرحا
…
منّي وما يسمعوا من صالح دفنوا (3)
ثم قال (4): وأكثر النحويين يخصون ذلك بالضرورة، ولا أرى ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من يقم ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» (5)، قال: ولأن قائل البيت الأول متمكن من أن يقول بدل: كنت منه: أك منه وقائل الثاني متمكن من أن يقول بدل: وصلناكم: نواصلكم، وبدل: ملأتم: تملأوا، وقائل الثالث متمكن من أن يقول بدل: إن تسمعوا: إن سمعوا وبدل: وما يسمعوا: وما سمعوا.
فإذ لم يقولوا ذلك مع إمكانه علم أنهم غير مضطرين، قال: وقد صرح بجواز ذلك في الاختيار الفراء (6) - رحمه الله تعالى - وجعل من ذلك قوله تعالى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (7) لأن: ظلت بلفظ الماضي وقد -
(1) هذا البيت من الخفيف وهو لأبي زيد الطائي في ديوانه (ص 52) و «الشجا» ما ينشب في الحلق من عظم أو غيره، و «الوريد» عرق غليظ
في العنق، والشاهد فيه كون فعل الشرط مضارعا وهو «يكدني» وجوابه ماضيا وهو «كنت» ، ويراه بعضهم مخصوصا بالضرورة، وجوزه ابن مالك، والبيت في المقتضب (2/ 58)، والمقرب (1/ 275)، والتذييل (6/ 897) والخزانة (3/ 654).
(2)
هذا البيت من البسيط، والصرم: القطع، والإرهاب: مصدر أرهبه اذا أخافه. والشاهد فيه أن الشرط في الموضعين جاء مضارعا والجواب مضارعا. والبيت في التذييل (6/ 897) والعيني (4/ 428) والهمع (2/ 59).
(3)
هذا البيت من البسيط، وهو لقعنب بن أم صاحب، والسّبّة «ما ينسب به من العيوب. والشاهد فيه مجيء الشرط مضارعا والجزاء ماضيا في الموضعين المذكورين في البيت، وقد خص الجمهور هذا بالضرورة وأجازه ابن مالك والفراء. والبيت في المحتسب (1/ 206)، والتذييل (6/ 897) والمغني (ص 692) وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي (ص 1450).
(4)
أي ابن مالك.
(5)
رواه البخاري في باب «فضل ليلة القدر» بلفظ «ومن قام ليلة القدر» . انظر صحيح البخاري بحاشية السندي (1/ 343) وانظر الموطأ (1/ 113).
(6)
انظر معاني القرآن (2/ 276).
(7)
سورة الشعراء: 4.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عطف على: تنزل، وحق المعطوف أن يصلح لحلوله محلّ المعطوف عليه» انتهى.
قال الشيخ (1): «هذا البعض الذي خالفه المصنف هو الجمهور، ونصّوا على أنه مخصوص بالشعر» .
ثم قال (2): فأما استدلاله بالأثر فنقول: قد لهج هذا المصنف في تصانيفه كثيرا بالاستدلال بما وقع في الحديث في إثبات القواعد الكلية في لسان العرب بما روي فيه، وما رأيت أحدا من المتقدمين ولا المتأخرين سلك هذه الطريقة غير هذا الرجل، قال: وإنما تنكّب (3) العلماء ذلك لعدم وثوقهم أن ذلك نفس لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الرواة جوّزوا النقل بالمعنى، قال: وقد وقع اللحن كثيرا فيما روي في الحديث لأن كثيرا من الرواة كانوا غير عرب بالطبع، ولا يعلمون لسان العرب بصناعة النحو، فوقع اللحن في نقلهم وهم لا يعلمون.
وأطال الكلام في ذلك إلى أن قال (4): إن المصنف يستدل بالآثار متعقبا بزعمه على النحويين وما أمعن النظر في ذلك، ولا صحب من له التمييز في هذا الفن والاستبحار والإمامة، ولذلك تضعف استنباطاته من كلام سيبويه، وينسب إليه مذاهب، ويفهم من كلامه مفاهيم لم يذهب سيبويه إليها، ولا أرادها، ووقفت له على ذلك، ومنها: زعمه أن مذهب سيبويه أن [الفعل المبني للمفعول أصل بنفسه، ومنها: زعمه أن مذهب سيبويه أن] إن النافية تعمل
عمل «ما» النافية، ومنها:
زعمه أن ترخيم الجملة جائز، وغير ذلك، يستنبط ذلك بزعمه من «كتاب» سيبويه والعارفون بالكتاب وبمقاصده، والعاكفون على إقرائه والجمع بين أطرافه يخالفونه في ذلك، فدلّ على أنه حين ينظر في «كتاب» سيبويه إنما ينظر نظر من لم يتفقه فيه مع أحد، وقال وقال إلى أن قال (5): إنما الناس [5/ 172] الفاضل منهم من يحل كتابا أو كتابين في الفن المنسوب إليه، هذا إذا كان مزاولا لذلك الكتاب، وأما إن كان صاحب نتاتيف (6) وينظر في علوم كثيرة فهذا لا يمكن أن -
(1) انظر التذييل (6/ 897).
(2)
انظر التذييل (6/ 898).
(3)
تنكب عن الشيء وعن الطريق: عدل. اللسان (نكب).
(4)
انظر التذييل (6/ 900).
(5)
انظر التذييل (6/ 901).
(6)
يبدو أنه جمع: نتفة وهو ما نتف بالأصابع من النّبت أو غيره، وهو كناية عن قلة ما جمع.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يبلغ الإمامة في شيء منها.
قال (1): وقد نظمت أبياتا في شأن من يقرأ بنفسه ويأخذ العلم من الصحف بفهمه وهي:
يظنّ الغمر أنّ الكتب تهدي
…
أخا فهم لإدراك العلوم (2)
وما يدري الجهول بأنّ فيها
…
غوامض حيّرت عقل الفهيم
إذا رمت العلوم بغير شيخ
…
ضللت عن الصّراط المستقيم
وتلتبس الأمور عليك حتّى
…
تصير أضلّ من توما الحكيم (3)
أشرت إلى قول بعضهم:
قال حمار الحكيم توما
…
لو أنصفوني لكنت أركب
لأنّني جاهل بسيط
…
راكبي جاهل مركّب
قال (4): وكان بعض من تولي قضاء القضاة بديار مصر من أهل الصعيد الأعلى يقول: هذا كتاب سيبويه فيه
عجمة ونكادة لفظ، قال (5): وما ذلك إلا لكونه لم يقرأ النحو أو قرأ منه نزرا يسيرا على مبتدئ في النحو، هذا وما كان مدفوعا عن فطنة وذكاء وإعمال فكر وإكداده وبعض إنصاف رحمه الله تعالى.
وأما هذا المصنف الذي كمّلنا شرح كتابه فإنه كان رجلا صالحا مغتنيا بهذا الفن النحوي، كثير المطالعة لكتبه، منفردا بنفسه، لا يحتمل أن ينازع ولا يجادل، ولا يباحث، ونظم في هذا الفن كثيرا، ونثر، جمع باعتكافه على الاشتغال بهذا الفن والشّغل به وبمراجعة الكتب ومطالعة الدواوين الغريبة، وطول السن من هذا العلم غرائب، وحوت مصنفاته منها نوادر وعجائب، ومنها كثيرا ستخرجه من أشعار العرب وكتب اللغة، ولم يكن ممن لازم في هذا الفن إماما مشتهرا به، ولا يعلم له فيه -
(1) أي الشيخ أبو حيان. انظر التذييل (6/ 901).
(2)
الغمر والغمر والغمر والغمر: الذي لم يجرب الأمور. انظر اللسان (غمر).
(3)
«توما الحكيم» كان طبيبا بالعراق هجاه بعض العراقيين بما أورده أبو حيان من البيتين التاليين فصار قوله يضرب مثلا في الجهل.
(4)
أي الشيخ أبو حيان. انظر التذييل (6/ 902).
(5)
أي الشيخ أبو حيان.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
شيخ، ولا ذكر هو من اشتغل عليه بهذا الفن، واستمر في كلام يشبه ذلك ثم قال (1):
وقال لي قاضي القضاة أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن جماعة الكناني الحموي (2)، وكان ممن قرأ على المصنف، وقد جرى ذكرا ابن مالك واستدلاله بما أشرنا إليه قال (3): قلت له: يا سيدي هذا الحديث روته الأعاجم، ووقع فيه بروايتهم ما نعلم أنه ليس من لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يجب بشيء، قال (4): وإنما أمعنت الكلام في هذا المسألة لئلا مبتدئ: ما بال النحويين يستدلون بقول العرب وفيهم المسلم والكافر، ولا يستدلّون بما ورد في الحديث بنقل العدول كالبخاري (5) ومسلم (6) وأضرابهما، فإذا طالع ما ذكرناه أدرك السبب الذي لأجله لم يستدل النحاة بالحديث» انتهى.
وأقول: أما إنكاره على المصنف الاستدلال بما ورد من الأحاديث الشريفة معتلّا لذلك بأن الرواة جوّزوا النقل بالمعنى، فيقال فيه: لا شك أن الأصل في المروي أن يروى باللفظ الذي سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم، والرواية بالمعنى وإن جازت فإنما تكون في بعض كلمات الحديث المحتمل لتغيير اللفظ بلفظ آخر يوافقه معنى، إذ
لو جوّزنا ذلك في كل ما يروى لارتفع الوثوق عن جميع الأحاديث بأنها هي بلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر لا يجوز توهمه فضلا عن أن يعتقد وقوعه، ثم إن المصنف إذا استدلّ على مسألة بحديث لا يقتصر على ما في الحديث الشريف، بل يستدل بكلام العرب من نثر ونظم يردف ذلك بما في الحديث إما تقوية لما ذكره من كلام العرب وإما استدلالا على أن المستدل عليه لا يختصّ جوازه بالشّعر، بل إنه يجوز في الاختيار أيضا، ولا يخفى عن البيب أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه في ابن -
(1) أي الشيخ أبو حيان. انظر التذييل (6/ 903).
(2)
قاض من العلماء بالحديث وسائر علوم الدين، ولد في حماة وولي الحكم والخطابة بالقدس ثم القضاء بمصر فقضاء الشام، ثم قضاء مصر إلى أن شاخ وعمي، وتوفى بمصر سنة (733 هـ)، وله تصانيف منها:«المنهل الروي في الحديث النبوي» انظر ترجمته في النجوم الزاهرة (9/ 289)، وفوات الوفيات (3/ 297، 298).
(3)
أي قاضي القضأة أبو عبد الله بن جماعة.
(4)
أي الشيخ أبو حيان. التذييل (6/ 903).
(5)
هو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري الجعفي، ولد ببخارى سنة (194 هـ) وتوفى بها سنة (256 هـ). انظر مقدمة صحيح البخاري بحاشية السندي (1/ 3).
(6)
هو الإمام أبو الحسن مسلم بن الحجاج بن مسلم النيسابوري. ولد سنة (206 هـ) وتوفي سنة (261 هـ). انظر مقدمة صحيح مسلم بشرح النووي والأعلام (7/ 221).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
صيّاد «إن يكنه فلن تسلّط عليه وإن لا يكنه فلا خير لك في قتله» (1) يبعد فيه أن يكون مغيّرا، كذا قوله صلى الله عليه وسلم:«إنّ الله ملّككم إيّاهم ولو شاء ملّكهم إيّاكم» (2) وأما قوله: إن المصنف ما أمعن النظر في ذلك فما علمت الأمر الذي أشار إليه بأن المصنف ما أمعن فيه نظره ما هو؟
وأما قوله: «ولا صحب من له التمييز في هذا الفن والاستبحار والإمامة» فما أعرف من أين له علم ذلك حتى بنفيه؟ وكأنه يشير بذلك إلى أنه ما صحب أبا علي الشلوبين ولا قرأ عليه، كما اتفق ذلك للحلبة الشلوبينية كابن عصفور وابن الضائع والأبّذيّ وابن هشام وابن أبي الربيع، وأصحابهم، وهذا أمر عجيب، فإن الله تعالى من
كرمه وإنعامه على عباده لم يحصر العلم في ناحية ولا في إنسان، بل فضل الله منتشر في الجهات ومثبوت في العباد ولا يختص بجهة دون جهة، ولا بإنسان دون آخر، وهب أنه صحب من له الإمامة في الفن أو من ليست له الإمامة أليس الله تعالى قد أنعم عليه وأوصله عن هذا العلم إلى ما لم يصل إليه من صحب له التمييز في هذا الفن والاستبحار كما ذكر والإمامة.
وأما قوله عنه: إنه تصعف استنباطاته من كلام سيبويه وينسب إليه مذاهب ويفهم من كلامه مفاهيم لم يذهب سيبويه إليها ولا أرادها، وإن منها كذا وكذا ومنها كذا وكذا إلى آخر كلامه، فهذا عجب من الشيخ كيف يصدر عنه هذا في حق مثل هذا الإمام الكبير المشهود له بالتبريز الذي قال هو في حقه: إنه نظم في هذا الفن كثيرا ونثر، وأنه جمع باعتكافه على الاشتغال بهذا الفن والشّغل به، ومراجعة الكتب ومطالعة الدواوين الغريبه من هذا العلم غرائب، وحوت مصنفاته منها نوادر وعجائب، وإن منها كثيرا استخرجه من أشعار العرب وكتب اللغة، فمن شهد له بأنه وصل إلى هذه الرتبة التي هي رتبة الاجتهاد لقوله: إنه استخرج كثيرا من أشعار العرب وكتب اللغة، ولا شك أن هذه وظيفة المجتهد، كيف يقول [5/ 173] فيه:
إنه ضعيف الاستنباط من كلام سيبويه، وأنه يفهم غير المراد، وأنه وأنه؟ -
(1) رواه البخاري في باب «الجنائز» (1/ 234)، وورواه أيضا في كتاب «الجهاد والسير» (2/ 179) ورواه مسلم في صحيحه (4/ 2244).
(2)
انظر شرح الألفية للأبناسي (1/ 83).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وأما قوله: إنه لم يعلم له شيخ، فما أعرف كيف ذلك نقصا في رجل انتشر علمه وانتهى إلى رتبة بلغ بها أن يصحح ما أبطله غيره ويبطل ما صححه غيره بالأدلة الواضحة والمستندات الراجحة؟ وكم من طالب فاق شيخه، وخادم برّز على أستاذه، وانظر إلى العلماء الكبار المشهورين من أهل الفنون الذين اعترف الناس لهم بأنهم ارتقوا في فنونهم إلى المراتب السنية التي لا تلحق، هل كانوا متقدمين في الذكر على من اشتغلوا عليه وأخذوا عنه أولا؟
والطالب لا بد له من شيخ موفق، ولكن إنما يحتاج إليه في حل الكتاب الذي يقرأه عليه وتبيين المقصود من كل باب من ذلك الكتاب، وتقرير مسائله تصورا وتصديقا بحيث تصير له أهلية لفهم ما يطالعه من كتب ذلك الفن، والتمييز بين الصحيح والفاسد من مسائله، فإذا أعطاه الله تعالى مع ذلك صحة فكر وقوة إدراك واستمر عاكفا
محصلا لما هو بصدده فقد يصل إلى أضعاف ما وصل إليه شيخه، وقد قال المصنف (1):«وإذا كانت العلوم منحا إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين» ، ولكن الشيخ - رحمه الله تعالى - كان في خاطره أن النحو الذي وصل إليه المتأخرون من المغاربة كالأستاذ أبي علي الشلوبين وتبّاعه - رحمهم الله تعالى - لم يصل إليه غيرهم، فما رأي كتب المصنف وما أبرزه من النوادر والغرائب والعجائب، ولم يبعد أن حصل في النفس حسد ما، وكأن المصنف استشعر وقوع ذلك فلهذا قال بعد كلامه الذي تقدم (2):
«أعاذنا الله من حسد يسدّ باب الإنصاف، ويصدّ عن جميل الأوصاف» .
ولكن الله در أبي تمام الطائي (3) حيث قال:
4079 -
وإذا أراد الله نشر فضيلة
…
طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النّار في ما جاورت
…
ما كان يعرف طيب نشر العود (4)
-
(1) انظر التسهيل (ص 2).
(2)
المرجع السابق نفسه.
(3)
أبو تمام: حبيب بن أوس بن الحارث الطائي، الشاعر الأديب أحد أمراء البيان، أقام في العراق حتى توفي بها سنة (231 هـ). انظر ترجمته في نزهة الألباء (ص 155، 156)، والخزانة (ص 172) والأعلام (2/ 165).
(4)
هذان بيتان من الكامل قالهما أبو تمام من قصيدة يمدح فيها أبا عبد الله أحمد بن أبي وهما في ديوانه بشرح التبريزي (1/ 397) ويروى فيه «طيب عرف العود» وانظرها في عيون الأخبار (2/ 8) والعقد الفريد (2/ 152).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وأما قوله - أعني الشيخ -: «إن الفاضل من يحل كتابا أو كتابين في الفن المنسوب إليه مع مزاولته لذلك الكتاب» فهذا الكلام منه دليل على أن المصنف لم يحل كتابا في هذا الفن على أحد، وكفى بهذا الكلام من قائله قبحا، ويزيد هذا القبح قبحا إنشاده لنفسه - عقب ذلك - الأبيات التي أولها:
يظنّ الغمر أنّ الكتب تجدي
…
أخا فهم لإدراك العلوم
وقوله فيها:
إذا رمت العلوم بغير شيخ
…
ضللت عن الصّراط المستقيم
لأن هذا إنما يقال لإنسان جاهل لا قرأ ولا درى ولا اقتبس من أحد شيئا فيأخذ كتابا وينظر فيه ظانّا أنه يدرك معانيه بنظرة من غير توقيف من مرشد، ولا يقال هذا لواحد من الطلبة المتميّزين فضلا أن يقال في معرض التعريض بإمام يشهد له بالفضل أهل المشرق والمغرب من أهل فنه، وقد كان هو - أعني الشيخ - رحمه الله تعالى يقول:
«من عرف ما في هذا الكتاب - يعني التسهيل - لا يكون تحت السماء أنحى منه» .
ثم لم يقنع الشيخ ما قاله في حق المصنف حتى تعدّاه إلى آخر وهو الذي ذكر أنه من أهل الصعيد الأعلى وأنه تولى قضاء القضاة بديار مصر فقال عنه: إنه لم يقرأ النحو وقرأ منه نزرا يسيرا على مبتدئ في النحو، وهذا الرجل الذي أشار إليه هو الشيخ: تقى الدين الشهير بابن دقيق العيد (1) - رحمه الله تعالى - وهو الرجل الذي يعترف بفضله الحاضر والبادي، والدّاني والقاصي، والصديق والعدو، ولم ينازع في علمه أحد، بل كان في زمن فيه رؤوس العلماء المعتبرين الراسخون في الفنون، والكل خاضعون له، ماثلون بين يديه، يتلقون منه ما يقوله، ومعترفون بأنه أحد أهل وقته، ويدلك على صحة ذلك ما أبرزه من مصنفاته، والناظر إذا وقف على كلامه وتأمله علم أنه فوق ما ذكرنا، وكيف لا يكون كذلك وله استنباطات أحكام من السنة النبوية انفرد بها؟ ولقد استنبط من حديث واحد من الأحاديث التي أوردها في كتابه «الإلمام» أربعمائة وستة وثلاثين حكما، أترى من له هذه القوة والتمكن يقال عنه: إنه لم يقرأ النحو وأنه قرأ منه نزرا يسيرا على مبتدئ؟ -
(1) سبق ترجمته.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وكيف يصل من يستنبط الأحكام الشرعية إلى ما يقصده دون تضلّع بعلم العربية و [علم] الأصول، وغيرها مما يتبعهما، ولا يبعد أن غض الشيخ منه له سبب محرج أوجب له أن يتكلم بذلك، ويحكى أن قضية جرت بين الشيخ تقي الدين وبينه لكنني لم أتحقق أنها وقعت، فما أمكنني تسطيرها.
وبعد فرحمهم الله تعالى أجمعين بمنّه وكرمه.
ثم قال الشيخ (1): «وأما قول المصنف، إن قائل البيت الأول متمكن من أن يقول بدل: كنت منه: أك منه، وقائل
الثاني متمكن من كذا، فهذا حديث من لم يفهم معنى قول النحويين: في ضرورة، ففهم أن الضرورة في اصطلاحهم هو الإلجاء إلى الشيء، فقائل بأنهم لا يلتجئون إلى ذلك إذ يمكن أن يقول: كذا، قال: فعلى زعمه لا توجد ضرورة أصلا، لأنه [ما] من ضرورة إلا ويمكن إزالتها ونظم تركيب آخر غير ذلك التركيب، وإنما يعنون بالضرورة أن ذلك من تراكيبهم الواقعة في الشعر المختصة به، ولا يقع في كلامهم النثر». انتهى.
والحق أن الأمر كما قاله، لكن المصنف سلك في تقرير الضرورة هذه الطريقة.
وقد يقال: لا تقصير في عبارة المصنف لأنه قال: «نحو: إن تفعل فعلت» -
(1) انظر التذييل (6/ 903، 904).
(2)
انظر التذييل (6/ 904).
(3)
وهي قوله تعالى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [سورة الشعراء: 4].
(4)
بعده في التذييل (6/ 904)«ولا يجوز: رب سختلها، وكذلك جاز: فظلت مع العطف وإن كان لا يقع لو كان ذو العطف جوابا للشرط» .
(5)
انظر التذييل (6/ 904).