الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: تنشئة الأطفال اجتماعيا
أولا: مفهوم التنشئة الاجتماعية
لقد اختفى إلى غير ظهور الوقت الذي كان فيه علماء النفس يشبهون الطفل بكتلة لينة يمكن للوالدين والمربين تشكيلها على النحو الذي يختارونه، وإن كان ينبغي على كل مجتمع أن يصل إلى ثلاثة حلول لقضايا هامة تواجهه بخصوص الأطفال. هي: طرق رعايتهم، وترسيخ القواعد التي تتحكم في كيفية تفاعلهم مع الآخرين، ونقل المهارات والقيم من الكبار إليهم.
وإزاء المطلب الآخير واجهت المجتمعات مصاعب متباينة، معتمدة في ذلك على عملية تعليم وتعلم تقوم على التفاعل الاجتماعي، وتهدف إلى إكساب الأطفال سلوكا ومعايير اتجاهات مناسبة لأدوار اجتماعية معينة، تمكنهم من مسايرة الجماعة والتوافق الاجتماعي، أي تكسبهم الطابع الاجتماعي وتيسر لهم الاندماج في الحياة الاجتماعية، إن الأمر هنا ينطوي على ما يعرف بعملية التنشئة الاجتماعية "The Socialization Process" أو ما تسمى أحيانا بعملية التطبيع الاجتماعي، تلك العملية التي يتعلم من خلالها الفرد كيف يصبح فردا في أسرته وعضوا في مجتمعه، إنها عملية تعلم القصد منها أن يُنمى لدى الطفل الذي يولد ولديه إمكانيات هائلة ومتنوعة سلوك فعل مقبول، ومعتاد وفق معايير الجماعة التي ينتمي إليها.
ويستعرض أبو القاسم الأصفهاني معنى التنشئة لغويا
…
نشأ النشء، والنشأة إحداث الشيء وتربيته، وقوله تعالى:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى} [الواقعة: 62] ويقال: نشأ فلان، والناشئ يراد به الشاب، والإنشاء هو إيجاد الشيء وترتيبه.
وفي سورة الملك: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَار} [الملك: 23] .
وفي سورة المؤمنون: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] .
وفي سورة العنكبوت: {يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَة} [العنكبوت: 20]
وعموما أي يربى كتربية النشأة، وينشأ أي يتربى.
ويرى Reber أنها العملية التي يصبح بها الفرد واعيا بالقيم والمهارات الاجتماعية، ومكتسبا لحساسية اجتماعية تؤهله إلى كيفية التفاعل مع الجماعة في
مجتمعه. بينما يعرفها Kagan بأنها العملية التي تغرس في الطفل قيما وأنواعا من السلوك المناسب أو الملائم لمجتمعه. ويتناولها Erikson على أنها عملية تحويل الكائن البشري من حالة الطفولة أو الرضاعة، ومن حالة الضعف والأنانية إلى حالة الراشد المثالي الذي يدين بالامتثال المعقول Sensidle Conformity مع وجود سمات الاستقلال والإبداع.
ويرى حامد زهران أن التنشئة الاجتماعية عملية تعلم وتعليم، وتربية تقوم على التفاعل الاجتماعي وتهدف إلى اكتساب الفرد سلوكا ومعايير واتجاهات مناسبة لأدوار اجتماعية تمكنه من مسايرة جماعته والتوافق الاجتماعي معها، وهي عملية التشكيل الاجتماعي لخاصة الشخصية.
ويرى كل من Hetherington and Parke أن التنشئة الاجتماعية عملية يعلم فيها أفراد جدد في المجتمع قواعد وقوانين اللعب الاجتماعي من خلال وكالات للتنشئة تساعد هؤلاء الجدد أن يتبنوا قوانين وقواعد تساعدهم على اللعب بنفس الطريقة المرتضاة في ذلك المجتمع.
والتنشئة الاجتماعية عملية تعلم اجتماعي Social Learning يتعلم فيها الفرد عموما طفلا أو راشدا عن طريق التفاعل الاجتماعي أدواره الاجتماعية Social Roles، ويتمثل ويكتسب المعايير الاجتماعية Social Norms والاتجاهات Attitudes النفسية، ويتعلم كيف يتصرف ويسلك بأسلوب اجتماعي توافق عليه وترتضيه الجماعة والمجتمع.
إن التنشئة الاجتماعية عملية يتم فيها تشكيل السلوك الإنساني بتكوين المعايير والقيم والمهارات والاتجاهات للأفراد كي تتطابق وتنسق مع دورهم الاجتماعي حتى يسلك كل فرد حسب جنسه "ذكر، أنثى" ودوره المتوقع في المجتمع الذي يعيش فيه حاضرا ومستقبلا.
والتنشئة الاجتماعية ليست فقط عملية تعلم اجتماعي بل هي أيضا عملية نمو يتحول خلالها الأفراد من أطفال اعتماديين متمركزين حول ذواتهم إلى كبار ناضجين يدركون إيثار الذات ومعنى المسئولية الاجتماعية Social Responsbiltiy أو التبعية الاجتماعية، يضبطون انفعالاتهم ويتحكمون في إلحاح الحاجات ويشبعونها بما يتفق وقيم المجتمع. وهذا ما يجعل عادل عز الدين يعرف التنشئة الاجتماعية.
بأنها العملية التي يكتسب الأطفال من خلالها الحكم الخلقي والضبط الذاتي اللازم حتى يصبحوا أعضاء راشدين مسئولين في مجتمعهم.
وللتنشئة الاجتماعية خاصية الاستمرارية، فهي لا تقتصر على مرحلة الطفولة فقط بل تستمر في المراحل الأخرى كالمراهقة حتى الشيخوخة، لأن الفرد في كل من هذه المراحل ينتمي إلى جماعات من نوع جديد يبدو فيها بدور جديد ويعدل من سلوكياته ويكتسب أنماطا مستحدثة من السلوك، وهذا ما يدفع Parsons لتقديم معنى التنشئة الاجتماعية على أنها عملية تعتمد على التلقين والمحاكاة والتوحد مع الأنماط العقلية والعاطفية والأخلاقية لدى الطفل والراشد، هادفة إلى إدماج عناصر الثقافة في نسق الشخصية، وتبدأ من الميلاد داخل الأسرة وتستمر باتساع أنساق التفاعل كلما كبر المرء. وتتأثر بجماعات الرفاق ونوع المهنة والتخصص
…
وتعبر عن نشاط البناء الاجتماعي بأنساقه "الأسرة، الدين، السياسة، التعليم، المهنة، الاقتصاد" الذي يضغط على الفرد لكي يتوافق مع غيره، ويتعلم كل يوم شيئا جديدا.
وهذا ما يضفي على عملية التنشئة مفهوم الدينامية، لأن الفرد في تفاعله مع غيره من أفراد الجماعة يأخذ ويعطي في ضوء المعايير والأدوار الاجتماعية، ويؤثر ذلك مع عوامل أخرى على نمو الشخصية لكل فرد، ومن هذه العوامل كما هو معروف: الوراثة والغدد والغذاء والنضج والتعلم، بالإضافة إلى متغيرات أخرى مثل: أعمار الوالدين وحجم الأسرة والترتيب الميلادي
…
إلخ.
ولعملية التنشئة وظيفة ظاهرة Manifest Function تنحصر في تدريب الطفل على أداء أنماط معينة من السلوك يرضى عنها المجتمع، ويتخذها الشخص دعامة لسلوكه أثناء حياته، كما أن لها وظيفة مستترة أو كامنة Latent Function تهدف إلى توحد الطفل مع مجموعة الأنماط الثقافية للمجتمع تعرف باسم القيم الاجتماعية Social Values التي تتكون منها بنية الشخصية Structure of Personality.
ويختلف الأشخاص في مبلغ قابليتهم للاندماج في حياة الجماعة باختلاف التنشئة التي يتعرضون لها، والتي تحيط بهم أثناء بداياتهم الأولى، مما قد يفسر لنا كيف يبدو بعض الأطفال منشئين اجتماعيين، وبعضهم مقاوم للاجتماعية Anti Socil