الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثامنا: تنشئة الأطفال في قرية فرنسية
إنها قرية من قرى بورغونية الشمالية، وقد جمعت المعلومات عن هذه القرية من كبار السن الذين وصلت أعمارهم تقريبا فوق الستين، واللذين يذكرون أنه حدثت تحولات وتغيرات تكنولوجية واقتصادية ضخمة وحديثة عن ذي قبل في الخمسينات من هذا القرن.
وقديما كان مجتمع القرية مقسما إلى فئتين، الأولى أصحاب الأملاك من فلاحين وحرفيين، والثانية من الحطابين والبنائين وحراس الزراعة، لكن هذا التقسيم انقرض من القرية الآن إذ لم يبق إلا الفلاحون وصغار المقاولين وعمال الصناعة، ولا تتمايز هذه الفئات اجتماعيا إلا قليلا.
وتتكون الأسرة في القرية من الأب والأم والأولاد الذين لم يتزوجوا ويمكن أن يقطن الجد أو الجدة الأرامل مع الأسرة، والإخوة والأخوات الذين تزوجوا يقيمون في نفس الشارع.
والمسكن يتكون من غرفة واحدة، يتم إعداده وتناول الطعام فيه والسهر والجلوس والنوم. أما حديثا فإن المساكن تحوي عدة غرف منها للاستقبال ومنها للأكل ومنها للأطفال بالإضافة إلى مطبخ.
وفي هذا الإطار العائلي تمر فترة الطفولة التي كانت تصل إلى عمر 14 سنة في الماضي وتصل الآن إلى 12 سنة.
وقد ظلت الأسرة حتى وقت متأخر تأوي في بيت واحد كل الأعمار على اختلافها.
وتظل المدافن "القبور" كما كانت قديما، أفضل منتزهات الجدات، مصطحبين معهن الأطفال الذين يجرون فيها ويمرحون.
وفي الماضي لم يكن للوالدين من مكانة أو دور فعال أو تقارب مع أطفالهم مثل الجد أو الجدة ولكن الآباء استعادوا مكانتهم، وأصبح التقارب واضحا بين الآباء والأطفال ربما لظهور الأسرة النواة.
1-
الأعراف والقيم الشائعة:
تُوصى الأمهات بإرضاع أطفالهن، أطول مدة ممكنة، وفي الغالب كان الطفل يفطم بعد عام أو عام ونصف على الأكثر.
والطفولة ليس لها إلا عالم القرية المنغلق، فيه من المعارف والحكايات وفيه شيوخ يهتمون جدا بتربية الأطفال. ويقضي الأطفال أغلب وقتهم في قاعة البيت أو داخل الحي.
والمبدأ الرئيسي الذي يتخذ تجاه الأطفال هو بقاؤهم مشغولين بمهام يكلفون بها تجعلهم يبقون في مكان محدد وفي منأى عن التأثيرات الفاسدة التي تبدو على بعض القرويين، ذلك أن كل شيء ليس صالحا لأن يرى. ففي الماضي كانوا يوصون الأطفال بألا ينظروا إلى من كانوا على جانب كبير من البشاعة أو ضعاف العقول.
وعلى خلاف العلاقات المتوترة أحيانا بين الوالدين والطفل، كانت علاقات تتسم بالعطف واللطف تجمع الأجداد بالأطفال، وطوال مرحلة الطفولة يحتل الأجداد منزلة مهمة في التنشئة.
والمعلم له منزلة الاحترام في القرية، وخلال الأجازات لا ينفك عن مراقبة الأطفال بالصرامة التي تعودوها منه في المدرسة، ويخبر الآباء بسلوك أطفالهم. وعلى ذلك فهناك تكامل لإبقاء الأطفال تحت رقابة اجتماعية قوية وتنشئتهم من قبل الجدات والمدرسة والكنيسة.
ولذلك فإن ضبط النفس والالتزام واللطافة حظيت بالأولوية في تربية الصغار بالإضافة إلى مراعاة جداول الأعمال التي يكلف به كل طفل. أما حاليا
فإن الواجبات المدرسية في المنزل هي الشيء الوحيد الذي أصبح يكلف به الأطفال.
2-
رعاية الأطفال من الوالدين:
في الماضي كان الأطفال يلفون من أعلى إلى أسفل في قماط، ويوضع على الرأس طاقية، ويبقون في وضع رقاد إلى أن يتعلموا المشي.
وفي الأسرة الفقيرة يخرج أهل المنزل جميعهم إلى العمل، ويترك الرضيع وحيدا مربوطا إلى سريره وزجاجه الرضاعة مثبتة على حافة السرير بطريقة مناسبة. والأسرة دائما مغطاة بستائر تحمي الطفل، والأسرة توضع على قوائم متأرجحة تساعد على هدهدة الطفل.
وبالرغم من الاهتمام بكثرة بهدهدة الطفل، إلا أنهم كانوا أيضا يتركونه يبكي قائلين "ابك، فيقل بولك".
ومع الشهر السابع يطعم الطفل بالثريد وهو قطع من الخبز المغلي مع الزبد، وما أن يتمكن الطفل من الخطو حتى ينقل إلى سرير كبير.
ويخيف الأجداد عند اللزوم الأطفال بكائنات مثل "ست الرياح""ست الذئاب" وذلك حتى ينضبط الأطفال بالهدوء أو عدم الذهاب إلى أماكن بعيدة ويحكى الأجداد للأطفال القصص والحكايات التي تتوارثها الأجيال، وفي سن مبكرة يتم تعلم الطاعة والخضوع عبر هذا القصص.
وقلما يتوافر للطفل لعب مصنعة، ولكنه يلعب مع الحيوانات الأليفة مثل القطط والكلاب، ويحاول ترويض البوم والعصافير التي تسقط من أعشاشها.
إن الأب والأم كانا يعتنيان ويراقبان أولادهما منذ ولادتهم، لكنهما بحكم انشغالهما في العمل لا يشاركان مشاركة حقيقية في عملية تربية الطفل، إلا عندما يصبح هؤلاء الأطفال كبارا بدرجة تمكنهم من المساهمة في العمل ويكون ذلك قرب السادسة، وعندئذ يظهر الوالدان دورهما في توزيع العمل على الأطفال والمراقبة والمعاقبة، لقد كان الطفل يكلف بالاحتطاب وكسر الأغصان، وإبعاد الحشرات عن المحاصيل، وإطعام الحيوانات، ومتابعة المحراث، وكان الأطفال
يتمنون التسلية قليلا، إنهم في معاملة قاسية، وحينما يخرجون في السادسة صباحا كانت أرجلهم تبلل بالندى البارد لأنهم يرتدون القباقيب فلا توجد أحذية.
وهكذا فإن الوالدين يفصلان وقت الطفل ويدبرانه. ومع تقدم عمر الطفل لا يعتمد الأجداد على قصص الكائنات الخرافية ولكن يستخدمونه السخرية والتهكم في عباراتهم مثل "أنت تخاف من ظلك".. ومع العام السابع يتحمل الطفل مسئولات الذهاب بالحيوانات إلى الحقول أو زرع الحبوب.
وإذا كان الأجداد يؤدبون الأطفال بالكلام، فإن الوالدين يستخدمان العقوبات البدنية فبعضهم يستخدم الحريق لإيلام الطفل أو يضربه بخرقة مبللة للتأديب. وأحيانا يستنجد الآباء بأشخاص حقيقيين مثل شيخ القرية لتأنيب الطفل، وبعض الآباء يجلدون الأطفال بالسوط.
وبالرغم من العقوبات الشديدة التي يسلطها الوالدان، إلا أنهما يكنان للأطفال حبا وحنان غزيرا. ولكن لا نستطيع القول بأن الوالدين كانا ينقلان أي علم أو معرفة إلى أولادهما، ولكن التدرب يأتي من الملاحظة في صمت ويكاد التعلم يقصر على النظر. كان الأطفال يفعلون لأنهم يلاحظون آباءهم يفعلون. لا مجال لأي حوار، إنها تربية بصرية.
وهذا الكبت للكلمة بين الأجيال المتعاقبة لا يكون داخل البيت فحسب أو على المائدة فحسب، وإنما في الأماكن العامة التي يتردد عليها الكبار. إن أقصى شيء يفعله الأطفال في حضرة الكبار أن ينظروا ويسمعوا، ويروا ويتعلموا، والكبار فقط لهم حق الكلام.
ومن هنا يتعلم الاطفال كيف يتحكمون في الكلام، ويرددونه قبل أن تنطلق به ألسنتهم، وقلما تحاور الآباء والأطفال.
أما في الآونة الحديثة، فإن التقنية غيرت كثيرا، إذ بإمكان الفلاحات أن ترعى الأطفال، وتخلصت من نشاط الفلاحة، وإذا كانت بعض النساء تعمل طوال اليوم خارج المنزل، فلقد أصبحن يوكلن الرضيع لأحد مقابل أجر، إلا أن أغلب الأمهات الآن يكرسن كل وقتهن لرضيعهن لتقلص أعمالهن المنزلية، وابتداء من
اليوم الخامس عشر لا يقمط وتطلق الأم حريته، ولا تبقيه في مهده فقط بل تضعه داخل حاجز معد ليلعب داخله، وإذا بكى تأخذه في حضنها وتربت عليه وتحدثه بحنان.
ويستخدم الوالدان الآن مع الطفل لغة الرضع إلى أمد طويل، ويعاملانه بلطف، ويحرصان على تعليمه السلوك المهذب، "قل شكرا، قل صباح الخير
…
" والآباء أصبحوا لا يطلبون من الأطفال أي عمل زراعي ومنزلي إلا النادر، وأصبحوا يعدون لهم جداول لأنشطة وألعاب ومذاكرة، بالإضافة إلى الحرص على اشتراك الأطفال في عالم أكثر اتساعا من مجتمع القرية.
ولم يعد الصمت والملاحظة هما أداة الأطفال في جلسات الكبار، وحتى تلاميذ المدارس أصبحوا يهتمون أكثر بالكراسة الشخصية التي يجمعون فيها كل ما يروق لهم عن الشعراء أو الأدب والطقس أو الضغط الجوي أو حياة الحيوان، لقد تخلص الأطفال من الجداول الملزمة للأعمال المنزلية أو الزراعية أو المدرسية.
3-
مراعاة الفروق بين الجنسين:
في الماضي لم تكن هناك فترات تعطى للتسلية سواء للأولاد أو البنات وأقصى ما يعطون أن تذهب البنات إلى مقر حياكة الملابس، ينصتن إلى القصص المكررة التي تقصها متعلمات الخياطة
…
اللائي يقال عنهن إنهن طائشات
…
وكان الأولاد يترددون على محلات صناعة القباقيب الذي يصبح يوم الأحد حلاقا للذقن، أو إلى الحداد الذي يسقي الخمر للشاربين بعد أن ينتهي من عمله، ويستمعون فقط إلى حكايات الكبار عند الصيد والعمل.
وكان لكل جنس منذ الطفولة انطباعاته، فالأولاد لهم أفكار حرة عن الصبر والانتخابات، وللبنات لغة الجنس وأسرار القلوب.
وفي الأعياد الدينية ينتظم الأولاد والبنات في مجموعات تجوب أنحاء القرية بالمرور، مرددة دعاء للأهالي في عبارات مثل "صحة طيبة"، "سنة سعيدة" ويحصلون مقابل ذلك على بعض من قطع الحلوى والسكر.
والأولاد والبنات أحيانا يمرحون خلف ما يتابعونه من قطيع، وهناك في الحقول بعيدا عن العيون المراقبة باستمرار تبدأ المداعبت بين الأولاد والبنات، أثناء
جني بعض الثمار
…
وفي الوقت الحالي مثلما في الماضي تجمع الذكور والإناث أماكن وسط الحقول يلهون فيها ويبدءون أول مبادئ الإعجاب والعشق.
4-
المشاركون في التنشئة:
لقد كان في الماضي يعني بالرضيع أفراد مثل الجدة أو الأخت الأكبر أو إحدى الفتيات القريبات. وقد كان الأجداد يتكفلون بالطفل سواء كانوا يعيشون مع والديه بنفس المنزل أم لا، وبصحبة الجد أو الجدة يتدرب الطفل شيئا فشيئا على الحياة العائلية.
وبصحبة الجد أو الجدة يجوب الطفل الحي بأكملة متنقلا بين بيوت الجيران والأقارب، ومن هنا يتعلم سلسلة الأنساب، ويتعلم أخلاق القرية، وفي أحيان أخرى يرافق الجدة إلى المقابر ذلك المكان الذي تحب أن تتردد عليه كبيرات السن.
والأعمام في الغالب يتميزون باللطف مع الأطفال، وإن كان الأطفال يتمتعون بالقرب من الأجداد لأنهم يتيحوا لهم التحدث وتواصل الحوار عوضا عن الصمت والملاحظة التي يجب أن يتحلوا بها في حضرة آخرين.
لقد كان الأجداد ليسوا هم المربون فقط بل هم الملاذ والملجأ من صرامة الآباء أو للإصلاح بين الآباء والأبناء، إنهم وسطاء طيبون.
أما الأشخاص المراقبون والمؤنبون للطفل فهم كثيرون. فلقد كان المعلم يأتي إلى الآباء ليخبرهم بسلوكيات أطفالهم ومستواهم الدراسي بين حين وآخر. أما حارس الحقول الذي يقوم بدوريته كل يوم ليراقب تجاوز الحيوانات لحدود المراعي إلى مراعي أخرى. فلا يترك أي خطأ دون أن يتسبب على الأقل في تأنيب الأطفال الذين يجب أن يتابعوا الحيوانات. ولا تتهاون الكنيسة في متابعة الأطفال.
وفي الوقت الحالي، إذا كانت الأمهات مشغولات بالعمل، فإن أول ما تطلب رعاية للطفل فإنها تطلب من والدة الأم أو والدة الأب أو من الأخت للأم أو الأخت للأب. وعموما فقد أصبح الوالدان يمارسان دورهما الأساسي في تربية الصغار والعناية بهم، وبذلك فقد استعاد الآباء مكانتهم التي أوكلوها لغيرهم في الماضي، في لطف وهدوء.
والمفارقة أن الأجداد أصبحوا متسلحين بمقرعة، حتى يطيع الصغار تعاليمهم إلا أنهم غالبا ما يحضون الأطفال ويلاطفونهم في غياب الوالدين، ويظلون مدربي الطفل أثناء جولاتهم معهم داخل القرية وخارجها فيتعرفون على ملكية الأراضي وأوقات الزراعة وأخبار المتوفين السابقة أثناء زيارة قبورهم.
ولقد تطورت فعالية المعلم بعد الشخص الصارم القاسي المراقب، بل أصبح يعتمد على الحوار مع الأطفال والإقناع، ويحدد التلاميذ مستوى ونوع العقاب الذي يجب أن يقع على أحدهم إذا أخطأ. والطريف أن المعلم لا يشذ عن القاعدة، فإذا نسي أن ينتعل خفيه قبل دخول الفصل فإن عليه مثلا أن يكرر قوله:"سألبس خفي" خمسين مرة.
ويبدو أن الطريقة الجديدة بالمدارس لا ترضي الأهالى، إن أمر المدرسة وصل إلى أن إحدى المعلمات استغنت عن الكتب المدرسية ولم تعد تطلب من الأطفال أي واجبات مدرسية، لقد أصبح الاعتناء بكراسة جديدة يجمع فيها الطفل بشغف الوثائق وأحوال البيئة وظروف الطقس ودرجات حرارة الجو. ومن جهة نظر الآباء أنه ساء وضع المدارس، إذ إن الأطفال ما عادوا يتعلمون القراءة والكتابة والحساب.
5-
المنتظر للأطفال:
في الماضي كان المتوقع باستمرار تعلم الأطفال عن طريق الملاحظة فقط وليس هناك أي حوار، وما كان الآباء ينتظرون من المدرسة تلقين الأطفال المعارف، إنما ينتظرون أن تعودهم على أداب السلوك وتأكيدا على ما تعلموه من الملاحظة داخل الأسرة.
ونتيجة تغير أسلوب المدارس في الضغط على الأطفال، رأى الأهالي أن في ذلك حرية شديدة، وينتظر الآباء أن ترقى المدارس بمنزلة الأطفال وتكسبهم مهارة
أو حرفة، ويطلبون من المدارس تسهيل دمج الأطفال في حياة اجتماعية أكثر تفاعلا.
6-
نتائج ومشكلات التنشئة:
لم يزل الطفل من وجهة نظر الجدات، فاقدا لما يجب أن يكون عليه، وتستغرب الجدات من التساهل الذي أصبح مع الأطفال أثناء التعامل، وترك الصرامة لدرجة أن بعضهم رغم عطفهم الشديد على الأطفال يستعينون بمقرعة لتأديب بعض الأطفال المستهترين وهو أمر لم يكن شائعا في الماضي.
إن الاستغناء عن بعض الكتب أصبح يثير أولياء الأمور. ولم يعد اليوم أحد من داخل المدرسة يمكن أن يأتي إلى أسرة الطفل ليخبرهم بسلوكياته وينظر الكبار إلى ذلك أنه سوف يزيد التسيب الأخلاقي لدى الأطفال ويؤدي إلى افتقادهم القدرة على التمييز بين الخير والشر.