الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس: نحو نموذج للوالدية في التنشئة
أولا: تفاعل الوالدين مع الأبناء من خلال نماذج وبحوث
تبدأ الخطوات الأولى لتنشئة الأطفال داخل أسرهم، فالأسر هي الخلايا الأولى للمجتمع، وكل أسرة بيئة أساسية ترعى الطفل، وفيها تكون القوى المنبثقة التي توجه الطفل مع بداياته النامية في كافة المجالات النفسية للنمو.
والقوى التي توجه الوالدين أثناء تنشئة الطفل وتؤثر على نموه بعضها يأتي من الأب وبعضها يأتي من الأم وبعضها يبدو من داخل الطفل، بالإضافة إلى قوى تأتي من محيطات خارجة عن كل هؤلاء.
وقد اهتم Belsky بإعداد نموذج يأخذ في اعتباره كل هذه القوى وغيرها على افتراض أن تاريخ نمو الوالدين ينعكس على شخصية كل منهما بل يشكلها ويؤثر على علاقتهما بعضهما ببعض كزوجين ومستوى تفاعلهما مع الآخرين الذي في أدنى رتبة العزلة الاجتماعية Social Isllotion ونوع معاملة الطفل وخصاله، كل ذلك وغيره يؤثر على ذلك الطفل النامي.
ويكون من المفيد استعراض هذا النموذج مع بعض الإضافات، حتى تظهر جملة العوامل المؤثرة على عملية التنشئة الوالدية للأطفال، والتي أطلق عليها محددات الوالدية Determinats of Parenting.
وإذا كان Belsky لم يغفل العلاقات بين الزوجين "والدي الطفل" عند عرض نموذجه، فإن وظيفة الوالد وعمله وشبكة علاقات كل من الأب والأم، والوضع الأسري لكل منهما، متمثلا في مستوى اقتدار كل من أسرة الأب وأسرة الأم الذي ينطوي على الوضع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي لكل من الأسرتين لا يجب أن تخفي من نموذج لمحددات الوالدية.
والشكل التالي يوضح نموذجا مقترحا لمحددات الوالدية.
ومن المعروف أن شخصية الوالدين يتم تشكيل كل منهما في ضوء التاريخ النمائي النفسي لكل منهما. ولقد جاءت البحوث بنتائج تشير إلى أن ارتفاع مستوى الثقة بالنفس لدى الأمهات ارتبط بالدفء في المعاملة للأبناء وتقبلهم ارتباطا موجبا، وجاء الارتباط سالبا مع الاستهجان، كما أن الأمهات المكتئبات تبدي استعدادا أعلى لبيئة رافضة للأطفال أو غير متقبلة لهم.
ويشير Belsky إلى أن الأب الدافئ الحنون والمتفاعل مع أطفاله يأتي بأبناء يتوحدون معه ويعتبر نموذجا جيدا لهم بعكس الأب غير المتفاعل مع أطفاله.
والزواج السعيد يضرب فيه الوالدن لأبنائهم المثل على ما ستكون عليه حياتهم الزوجية المستقبلية، ولا يأتي الطفل في الزواج التعس إلا نقمة غالبا على والديه وعلى نفسه، لأن كره أحد الزوجين للآخر لا يخفضه مجيء طفل لهما، وقد ينعكس الأمر على تصرفاتهما نحوه ومعاملتهما له، وبخاصة إذا جاء الطفل شبيها لأحدهما أو أحد أفراد أسرة أحدهما.
إن الأمهات اللائي يشعرن بدفء منخفض وعاطفة متدنية نحو أزواجهن يملن إلى توبيخ أطفالهن والعلاقات الزواجية الطيبة ترتبط تلقائيا بمدح وثناء الأبناء، ومن ثم تقبلهم. وفي دراسة Sentrol و Tracy اتضح أن الأطفال الذين يأتون من بيوت حدث فيها الطلاق كانت معاملتهم مختلفة تماما عن الأطفال الذين يأتون من بيوت تقليدية.
كما أن العزلة الاجتماعية Social Isolotion وضيق شبكة العلاقات للوالدين يرتبط بالاختلال الوظيفي للوالدية، وهذا لا يعني أن الانفتاح المغالي فيه في شبكة العلاقات مع الأصدقاء والجيران ورفاق العمل يكون مفيدا دائما، والمسألة تعني على أكثر حد أن المساندة والمشاركة التي نلقاها من الأصدقاء أو الجيران أو الأقارب لها تأثير مفيد على العلاقة بين الوالدين والطفل.
وتشير الدراسات إلى الارتباط الموجب بين العلاقات الاجتماعية وإحساس الأمهات بالكفاية عند رعاية أطفالهن، كما ارتبطت العلاقات الاجتماعية بتجنب عقاب الأطفال وتقييد حرياتهم.
ولا ينكر النموذج المقترح الحالي أخذ متغير عمل الأم ووظيفتها في الاعتبار مثلما اهتم به Belsky فعمل الأم غالبا يؤثر على مسئوليات العناية بالأطفال، ويعد من العوامل المسهمة في صراع الدور لدى الأمهات، وإن كانت الدراسات قد تعارضت في تأثير عمل الأم على رعاية الأبناء. فقد انتهت "ممدوحة سلامة" من دراسة مشيرة إلى أن عمل الأم لا يثير تعارضا مع مطالب وحاجات الطفل، ولا يؤثر على علاقة الوالدين بالطفل.
وتأتي دراسة "كاميليا عبد الفتاح" مستخلصة أن أبناء الأمهات المشتغلات أكثر نضجا انفعاليا من أبناء غير المشتغلات، كما أن الأمهات المشتغلات أكثر ميلا إلى إعطاء الأطفال فرص الاستقلالية والتعبير عن الذات، بالإضافة إلى الإقبال بلهفة على الأطفال لتعويض الوقت الذي ابتعدت فيه عنهم بينما نجد الأم غير المشتغلة شاعرة بالتعب والملل من أطفالها الذي تقضي معهم معظم ساعات اليوم مما يجعلها أقرب إلى استخدام الزجر والعنف معهم.
وتحدد بثينة قنديل عدد الساعات بخمس الذي بعده يقل تكيف الأبناء إذا زاد غياب الأم بعيدا عن طفلها يوميا، وتوجه الانتباه إلى نتيجة فحواها أن أبناء الأمهات المشتغلات أكثر طموحا من أبناء غير المشتغلات.
وقد جاءت دراسة Getta et al. معلنة أن الأمهات المشتغلات يشجعن أطفالهن على التعبير بحرية عن مشاعرهم. وعند مراجعة Hoffman لعدد من الدراسات عن تأثير عمل الأم انتهى إلى أن عمل الأم يؤثر على حالتها الانفعالية وبالتالي يؤثر على تفاعلها مع الأطفال ويتبعه حرمان انفعالي وعقلي للطفل ويبدو نفس التوجه لدى Balsky عن الإشارة إلى أن عمل الأم يؤثر في كل من كيفية وكمية سلوكها الأمومي المفترق تجاه طفلها.
ويبدو أن عمل الأم لا بد أن يترك آثاره على شخصية الأبناء من خلال كيفية التعامل معهم وكميته والذي يتأثر بنوع وظيفة الأم والمهام الوظيفية الملقاة على عاتقها، وإن كانت تنشئة الأبناء دالة أيضا لمكانة الأب الوظيفية بل ونوع الوظيفة.
وتبدو العلاقات التبادلية بين كل من شخصية الوالدين ووظائفهم من جانب والعلاقات بين الزوجين "الوالدين" من جانب آخر، وينصب الأمر في النهاية على أساليب يعامل بها الأطفال من قبل الوالدين في ضوء قدرتها على تفعيل الدور الوالدي.
ولإيضاح معنى القدرة على تفعيل الدور الوالدي، دعنا نشبه الأسرة بمنضدة لها ثلاثة أرجل لا تستوي إلا باستقامة دعائمها الثلاث "الأب، الأم، الطفل". فالطفل بحاجة إلى أبيه وأمه، وكل من الأم والأب بحاجة إلى الآخر كي يقدما للطفل ما يدعم حاجاته وقبل كل شيء تحتاج الأم إلى إحساس بمشاركة الأب.
وعيشه معها وتفضيل الرعاية التي تقدمها للطفل. وبذلك تنساب العلاقة القائمة بينهما كزوجين وبينهما وبين الطفل، وهنا يظهر التفعيل للدور الوالدي، الذي يعد غياب الطفل بالنسبة لهذا الدور الوالدي بمثابة كمون لهذ الدور وعدم تفعيل له.
ولما كانت الأم هي من يقدم الطفل لأبيه، يصبح من الأفضل أن تهتم بالرضيع أثناء وجود الأب في المنزل، وتحت نظره، ولا مانع من تعاونه بدلا من الإسراع للقيام بهذا الدور قبل حضور الأب إلى المنزل، وإذا كان من المفيد طلب الأم مساعدة الاب أثناء قيامها بمهامها تجاه الطفل، فإن ذلك يجب أن يكون حسب رغبة الأب، إذ ينبغي قبل كل شيء احترام رغباته، فالآباء يختلفون فهناك من يتملكهم الإحساس بأنهم أقدر من زوجاتهم فنجدهم يفضلون التدخل في كل كبيرة وصغيرة. وإذا لم تتفهم الأم ذلك فإن الأمر يعوق تفعيل الدور الوالدي، وأفضل وسيلة لتحقيق التفعيل المطلوب أن يساعد الأب زوجته على رعاية الطفل من غير سحقها أو إزالة معالمها كأم.
إن الطفل يتعرف أولا على الأم وعذوبتها وحنانها، وهذا ما يمكنه لاحقا من التعرف على صفاتها الأخرى كالقسوة والحزم التي تتراكم من خلاله صور ذهنية عند الطفل، وهذه الصور هي التي تشكل المنطلق الرئيسي لدخول الأم عالم الطفل على امتداد مراحل طفولته، باعتبار الأب هو القوى، الموقر، الذي يستطيع دفع الطفل إلى احترام القواعد وتعاليم المجتمع وتقبل التقاليد.
وعندما يدخل الأب في حياة الطفل، يحول هذا الأخير بعض المشاعر التي أحس بها سابقا تجاه بعض صفات الأم كالحزم والقسوة
…
إليه كأب وهذه ما يريح الأم إذ تتخلص من بعض الأعباء فيمكنها التفرغ لمسئولياتها الأخرى.
إن وجود الأب ضروري جدا في المنزل كي تحس الأم بالسعادة، والطفل حساس جدا تجاه هذا التفاهم والتناغم بين الوالدين. والود بين الأب والأم يشكل واقعا صلبا يبني الطفل حوله العديد من الإيهامات.
إن ضرورة وجود الأب إلى جانب الأم تكمن في ذلك الدعم المادي والمعنوي الذي يقدمه لها فيساعدها على دعم سلطتها تجاه الطفل بفضل تجسيده للقانون والنظام اللذين تدخلهما الأم في حياة الطفل. ودعم الأب للأم لا يتطلب منه حضورا دائما في المنزل بل يحتاج إلى وجوده الرمزي.
ويساعد وجود الأب في المنزل "إلى جانب الأم" الطفل في اختباره ومن ثم عيشه للمشاعر المتناقضة التي تتجاذبه فيتمكن بذلك من الاستمرار بحب أحدهما كي يكره الآخر "والعكس صحيح"، بينما يضطره غياب أبيه عن ساحة نموه لتوجيه مختلف المشاعر المتناقضة والمتجاوبة في ناحية الشخص نفسه، وهذا ما يثير الغموض بداخله. كما أن ذلك يصعب على الأم مهمتها إذ يستحيل عليها تمثيل صورة الحنان والحب إلى جانب الحزم والمنع والقسوة عند الاقتضاء.
إن ضرورة وجود الأب تنطلق من صفاته الإيجابية والعناصر المميزة له كذكر راشد يختلف عن الأم كأنثى كما يختلف عن باقي الراشدين الذكور بسبب وضعه الخاص بالنسبة للطفل وإحساس هذا الطفل بقوة شخصية الأب.
وعندما يتقبل الوالدان معا مسئولية رعاية طفلهما، فإن ذلك يشكل أرضا خصبة لبناء منزل سعيد، قائم على التفاهم تتذلل فيه الصعوبات بصور تلقائية.
وللوسط أو الطبقة الذي يعيش فيه الوالدان والطفل دور جوهري في الطريقة التي يتفاعل بها كل نحو الآخر، ففروق الطبقات الاجتماعية والاقتصادية تعلن عن اختلافات في مستويات وأساليب التنشئة.
فلقد اتضح أن الأسر من الطبقة المتوسطة أكثر شدة وقسوة من أسر الطبقة الفقيرة في تدريب أطفالهم على النظافة والغذاء ويعتمد أمهات الطبقة الفقيرة على العقاب البدني والصياح عند محاولة ضبط الطفل. ويدرك أبناء الأسر ذات المستوى الاجتماعي الاقتصادي المرتفع أن آباءهم مبتعدون عن فرض القيود والنشاط.
ويعد وضع أسرة كل من الوالد والوالدة اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا مهما في توجيه الأطفال وإرشادهم والرغبة في مشاهدتهم على نحو مماثل أو أعلى باستمرار وفي الوقت الذي يحاول فيه أبناء الطبقات الراقية الحفاظ على أطفالهم في نفس المستوى، نجد أبناء الطبقات المتوسطة والمنخفضة يسعون جاهدين للارتقاء بمستوى أطفالهم، وينعكس ذلك على توجيهاتهم لأطفالهم وأساليب معاملتهم في ضوء ما لديهم من مستوى اقتدار.
وإذا كان المتوقع أن تترك جملة العوامل أو القوى آثارها على تنشئة الأطفال فلا يجب أن نغفل خصال Child Charactirstices ذلك الطفل النامي.