الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اتَّقِ اللَّهَ، وَأَكْثِرْ قَوْلَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ فَفَعَلَ فَبَيْنَمَا هُوَ فِي بَيْتِهِ إذْ قَرَعَ ابْنُهُ الْبَابَ وَمَعَهُ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ غَفَلَ عَنْهَا الْعَدُوُّ فَاسْتَاقَهَا.
(وَ
النِّيَّةُ الْحَسَنَةُ رُوحُ الْعَمَلِ
وَلَرُبَّمَا قَلَبَتْ الْمَعْصِيَةَ طَاعَةً وَكَثْرَةُ ذِكْرِ اللَّهِ
ــ
[حاشية الصاوي]
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ.
[النِّيَّةُ الْحَسَنَةُ رُوحُ الْعَمَلِ]
قَوْلُهُ: [وَالنِّيَّةُ الْحَسَنَةُ رُوحُ الْعَمَلِ] : أَيْ فَصَوَّرَ الْأَعْمَالَ كَالْأَجْسَادِ وَالنِّيَّةُ الْحَسَنَةُ رُوحُهَا، فَكَمَا أَنَّ الْجِسْمَ لَا قِوَامَ لَهُ بِدُونِ رُوحِهِ كَذَلِكَ لَا قِوَامَ لِصُوَرِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِدُونِ حُسْنِ النِّيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» .
قَوْلُهُ: [وَلَرُبَّمَا قَلَبَتْ الْمَعْصِيَةَ طَاعَةً] : كَالدَّلِيلِ لِمَا قَبْلَهُ، وَرُبَّ هُنَا لِلتَّكْثِيرِ أَوْ لِلتَّحْقِيقِ وَذَلِكَ كَالْكَذِبِ، فَإِنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَتَقْلِبُهُ النِّيَّةُ الْحَسَنَةُ طَاعَةً. فَتَارَةً يَكُونُ وَاجِبًا كَمَا فِي الْكَذِبِ لِلتَّخْلِيصِ مِنْ الْمَهَالِكِ، وَتَارَةً يَكُونُ مَنْدُوبًا كَمَا فِي الْكَذِبِ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُتَشَاحِنَيْنِ، وَهَذَا قَلْبٌ لِحَقِيقَتِهَا حَالَ وُقُوعِهَا، وَتَارَةً يَكُونُ قَلْبُهَا بَعْدَ وُقُوعِهَا بِوَصْفِ الْعِصْيَانِ كَمَا إذَا أَوْرَثَتْهُ أَحْزَانًا وَإِقْبَالًا وَنَدَمًا وَأَسَفًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ صَاحِبِ الْحِكَمِ: رُبَّ مَعْصِيَةٍ أَوْرَثَتْ ذُلًّا وَانْكِسَارًا خَيْرٌ مِنْ طَاعَةٍ أَوْرَثَتْ عِزًّا وَاسْتِكْبَارًا، وَقَالَ تَعَالَى:{إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مُرَادَ الشَّيْخِ وُقُوعُ الْمَعَاصِي مِنْ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ الَّذِينَ يُطَالِعُونَ الْغَيْبَ فَيُشَاهِدُونَ الْأَمْرَ مُبْرَمًا بِالْمَعْصِيَةِ فَيُقْدِمُونَ عَلَيْهِ امْتِثَالًا لِلْمُبْرَمِ لِاسْتِحَالَةِ تَخَلُّفِهِ فَقُدُومُهُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِالْإِكْرَاهِ كَالسَّاقِطِ مِنْ شَاهِقٍ، فَفِي الصُّورَةِ يُرَى مُخْتَارًا وَهُوَ يُشَاهِدُ سَلْبَ الِاخْتِيَارِ عَنْ نَفْسِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ شَرَحَهُ الْعَارِفُ الْجِيلِيُّ بِقَوْلِهِ:
وَلِيَ نُكْتَةٌ غُرًّا هُنَا سَأَقُولُهَا
…
وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَرْعَوِيَهَا الْمَسَامِعُ
هِيَ الْفَرْقُ مَا بَيْنَ الْوَلِيِّ وَفَاسِقٍ
…
تَنَبَّهْ لَهَا فَالْأَمْرُ فِيهِ بَدَائِعُ
وَمَا هُوَ إلَّا أَنَّهُ قَبْلَ وَقْعِهِ
…
يُخْبِرُ قَلْبِي بِاَلَّذِي هُوَ وَاقِعُ
فَأَجْنِي الَّذِي يَقْضِيهِ فِي مُرَادِهَا
…
وَعَيْنِي لَهَا قَبْلَ الْفِعَالِ تُطَالِعُ
تَعَالَى مُوجِبَةٌ لِنُورِ الْبَصِيرَةِ) مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ قَالَ تَعَالَى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35] الْآيَةُ. وَقَالَ شَيْخُنَا الْأَمِيرُ عَنْ شَيْخِنَا الْمُصَنِّفِ: مَنْ ذَكَرَ ثَلَثَمِائَةٍ يُقَالُ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا فَيَدْخُلُ فِي الْآيَةِ. وَصَلَاةُ التَّسَابِيحِ فِيهَا ثَلَثُمِائَةِ تَسْبِيحَةٍ وَثَلَثُمِائَةِ تَحْمِيدَةٍ إلَخْ. فَمَنْ فَعَلَهَا كُتِبَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ كَثِيرًا الْحَامِدِينَ كَثِيرًا إلَخْ اهـ
ــ
[حاشية الصاوي]
فَكُنْت أَرَى مِنْهَا الْإِرَادَةَ قَبْلَ مَا
…
أَرَى الْفِعْلَ مِنِّي وَالْأَسِيرُ مُطَاوِعُ
إذَا كُنْت فِي أَمْرِ الشَّرِيعَةِ عَاصِيًا
…
فَإِنِّي فِي حُكْمِ الْحَقِيقَةِ طَائِعُ
وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى تُحْمَلُ الْوَقَائِعُ الْخِضْرِيَّةُ وَوَقَائِعُ إخْوَةِ يُوسُفَ مَعَهُ وَأَكْلُ آدَمَ مِنْ الشَّجَرَةِ فَتَأَمَّلْ إنْ كُنْت مِنْ أَهْلِ النُّورِ وَإِلَّا فَسَلِّمْ لِأَهْلِهِ مَقَالَهُمْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِذَا لَمْ تَرَ الْهِلَالَ فَسَلِّمْ
…
لِأُنَاسٍ رَأَوْهُ بِالْأَعْيَانِ
قَوْلُهُ: [قَالَ تَعَالَى وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا] : إنْ قُلْت إنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى غُفْرَانِ الذُّنُوبِ وَعِظَمِ الْأَجْرِ وَالْمُصَنِّفُ أَخْبَرَ بِأَنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ تُوجِبُ نُورَ الْبَصِيرَةِ فَلَمْ يَكُنْ الدَّلِيلُ مُطَابِقًا لِلدَّعْوَى؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّ غُفْرَانَ الذُّنُوبِ وَعِظَمَ الْأَجْرِ يَسْتَلْزِمُ نُورَ الْبَصِيرَةِ قَالَ الشَّاعِرُ:
إنَارَةُ الْعَقْلِ مَكْسُوفٌ بِطَوْعِ هَوًى
…
وَعَقْلُ عَاصِي الْهَوَى يَزْدَادُ تَنْوِيرًا
قَوْلُهُ: [فَيَدْخُلُ فِي الْآيَةِ] : أَيْ فَيَتَحَقَّقُ لَهُ الْوَعْدُ الَّذِي فِي الْآيَةِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَذْكُرُ ذَلِكَ الْعَدَدَ وَلَوْ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً، لَكِنْ الْعَارِفُونَ جَعَلُوا ذَلِكَ الْعَدَدَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَهَذَا أَقَلُّ الذِّكْرِ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَأَمَّا ذِكْرُ الْمُرِيدِينَ فَأَقَلُّهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَأَمَّا ذِكْرُ الْوَاصِلِينَ فَهُوَ عَدَمُ خُطُورِ غَيْرِهِ تَعَالَى بِبَالِهِمْ كَمَا قَالَ الْعَارِفُ ابْنُ الْفَارِضِ
وَلَوْ خَطَرَتْ لِي فِي سِوَاك إرَادَةٌ
…
عَلَى خَاطِرِي يَوْمًا حَكَمْت بِرِدَّتِي
قَوْلُهُ: [وَثَلَثُمِائَةِ تَحْمِيدَةٍ] إلَخْ: أَيْ وَثَلَثُمِائَةِ تَهْلِيلَةٍ وَثَلَثُمِائَةِ تَكْبِيرَةٍ.
قَوْلُهُ: [الْحَامِدِينَ كَثِيرًا] إلَخْ: أَيْ الْمُهَلِّلِينَ كَثِيرًا الْمُكَبِّرِينَ كَثِيرًا. وَصِفَةُ صَلَاةِ التَّسَابِيحِ الَّتِي عَلَّمَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ وَجَعَلَهَا الصَّالِحُونَ مِنْ أَوْرَادِ طَرِيقِهِمْ وَوَرَدَ فِي فَضْلِهَا أَنَّ مَنْ فَعَلَهَا وَلَوْ مَرَّةً فِي عُمُرِهِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فِي وَقْتِ حَلِّ النَّافِلَةِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا وَالْأَفْضَلُ أَنْ
وَقَدْ طَلَبَ صلى الله عليه وسلم الذِّكْرَ فَقَالَ: «لَا يَجْلِسُ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَوْلُهُ: " تِرَةً " بِمُثَنَّاةٍ فَوْقُ ثُمَّ رَاءٍ مُهْمَلَةٍ: النَّقْصُ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ إلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ عَلَيْهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا» وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «ذِكْرُ اللَّهِ شِفَاءُ الْقُلُوبِ» قَالَ الشَّعْرَانِيُّ عَنْ
ــ
[حاشية الصاوي]
تَكُونَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ خُصُوصًا لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ خُصُوصًا فِي رَمَضَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أُمَّ الْقُرْآنِ وَشَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ وَيَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ خَمْسَةَ عَشَرَ، ثُمَّ يَرْكَعُ فَيَقُولُهَا عَشْرًا، ثُمَّ يَرْفَعُ فَيَقُولُهَا عَشْرًا، ثُمَّ يَسْجُدُ فَيَقُولُهَا عَشْرًا، ثُمَّ يَرْفَعُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فَيَقُولُهَا عَشْرًا، ثُمَّ يَسْجُدُ الثَّانِيَةَ فَيَقُولُهَا عَشْرًا، ثُمَّ يَرْفَعُ مِنْ السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ فَيَقُولُهَا عَشْرًا، إمَّا بَعْدَ الْقِيَامِ وَقَبْلَ الْقِرَاءَةِ أَوْ قَبْلَ الْقِيَامِ ثُمَّ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذَلِكَ وَيَقُولُ الْعَشَرَةَ الْأَخِيرَةَ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ التَّشَهُّدِ.
وَالْأَفْضَلُ فِي مَذْهَبِنَا أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَأْتِيَ بِالرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ بِنِيَّةٍ وَتَكْبِيرٍ وَيَفْعَلَ فِيهِمَا كَمَا فَعَلَ فِي الْأُولَيَيْنِ، ثُمَّ بَعْدَ السَّلَامِ مِنْ الْأَرْبَعِ يَدْعُو بِالدُّعَاءِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ:«اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك تَوْفِيقَ أَهْلِ الْهُدَى وَأَعْمَالَ أَهْلِ الْيَقِينِ، وَمُنَاصَحَةَ أَهْلِ التَّوْبَةِ وَعَزْمَ أَهْلِ الصَّبْرِ، وَجَدَّ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَطَلَبَ أَهْلِ الرَّغْبَةِ، وَتَعَبُّدَ أَهْلِ الْوَرَعِ وَعِرْفَانَ أَهْلِ الْعِلْمِ، اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مَخَافَةً تَحْجِزُنِي بِهَا عَنْ مَعَاصِيك حَتَّى أَعْمَلَ بِطَاعَتِك عَمَلًا أَسْتَحِقُّ بِهِ رِضَاك وَحَتَّى أُنَاصِحَكَ فِي التَّوْبَةِ خَوْفًا مِنْك، وَحَتَّى أَتَوَكَّلَ عَلَيْك فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا حُسْنَ ظَنٍّ بِك سُبْحَانَ خَالِقِ النُّورِ» (اهـ) وَحِكْمَةُ اخْتِيَارِهِمْ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرِقِّي الْمَرَاتِبِ إلَى مَقَامِ الْجَمْعِيَّةِ بِاَللَّهِ يَعْرِفُ هَذَا مَنْ فَهِمَ مَعْنَى الْحَدِيثِ، وَهَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ الَّتِي كَانَ يَأْمُرُنَا بِهَا شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ.
قَوْلُهُ: [وَقَدْ طَلَبَ صلى الله عليه وسلم] : الطَّلَبُ هُنَا بِطَرِيقِ اللَّازِمِ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ وَعِيدٌ عَلَى تَرْكِ الذِّكْرِ.
قَوْلُهُ: [بِمُثَنَّاةٍ فَوْقَ] : أَيْ مَكْسُورَةٌ.
وَقَوْلُهُ: [النَّقْصُ] : أَيْ الدَّرَجَاتُ عَنْ مَرَاتِبِ الْأَخْيَارِ.
قَوْلُهُ: [شِفَاءُ الْقُلُوبِ] : أَيْ مِنْ الدَّاءِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ.
دَاوُد الطَّائِيِّ رحمهم الله: كُلُّ نَفْسٍ تَخْرُجُ مِنْ الدُّنْيَا عَطْشَانَةٌ إلَّا نَفْسَ الذَّاكِرِينَ، وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ رحمه الله: إنِّي لَأَعْرِفُ مَتَى يَذْكُرُنِي اللَّهُ تَعَالَى. قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: إذَا ذَكَرْته تَعَالَى ذَكَرَنِي قَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] وَوَرَدَ: «لَيْسَ أَحَدٌ أَبْغَضَ عِنْدَ اللَّهِ مِمَّنْ كَرِهَ الذِّكْرَ وَالذَّاكِرِينَ» .
(وَأَفْضَلُهُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ مَا قُلْته أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ شَيْءٍ مِصْقَلَةٌ، وَمِصْقَلَةُ الْقَلْبِ الذِّكْرُ، وَأَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» قَالَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ الْأَمِيرُ فِي رِسَالَةٍ فِي ذَلِكَ: اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ مُرَقَّقَةٌ وَلَا يُفَخَّمُ مِنْهَا إلَّا لَفْظُ الْجَلَالَةِ فَقَطْ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْأَفْصَحِ نَقْصُ الْمَدِّ فِي أَدَاةِ النَّفْيِ الَّتِي بَعْدَهَا الْهَمْزَةُ عَنْ ثَلَاثِ حَرَكَاتٍ، وَتَجُوزُ لِزِيَادَةٍ فِيهِ إلَى سِتِّ حَرَكَاتٍ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَاسِعٌ، وَالْحَرَكَةُ مِقْدَارُ ضَمِّ الْأُصْبُعِ أَوْ فَتْحِهِ بِسُرْعَةٍ. وَأَمَّا مَدُّ كَلِمَةِ
ــ
[حاشية الصاوي]
قَوْلُهُ: [إلَّا نَفْسَ الذَّاكِرِينَ] : أَيْ فَإِنَّهُمْ يَمُوتُونَ وَلِسَانُهُمْ رَطْبٌ بِذِكْرِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: [قَالَ تَعَالَى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ] : مَعْنَى ذِكْرِ اللَّهِ لِعَبْدِهِ تَرَادُفُ رَحْمَتِهِ وَإِنْعَامَاتِهِ عَلَيْهِ وَإِشْهَارُ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ عَلَيْهِ فِي الْأَرْضِ وَفِي السَّمَاءِ لِمَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُ» وَوَرَدَ أَيْضًا: «إنَّ اللَّهَ إذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلُ فَقَالَ إنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ» .
قَوْلُهُ: [مِمَّنْ كَرِهَ الذِّكْرَ وَالذَّاكِرِينَ] : أَيْ وَيُقَالُ: إنْ كَانَتْ تِلْكَ الْكَرَاهَةُ بُغْضًا فِي اللَّهِ وَأَهْلِ الذِّكْرِ فَهُوَ كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ إنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ مِمَّنْ يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ - فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} [المؤمنون: 109 - 110] الْآيَةَ. وَإِنْ كَانَ لِكَسَلٍ مِنْهُ فَهُوَ عَاصٍ.
قَوْلُهُ: [أَنَّ جَمِيعَ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ] : أَيْ حُرُوفُ كَلِمَتِهَا.
قَوْلُهُ: [عَنْ ثَلَاثِ حَرَكَاتٍ] : أَيْ لِأَنَّهُ مَدٌّ مُنْفَصِلٌ.
الْجَلَالَةِ فَلَا يَجُوزُ نَقْصُهُ عَنْ حَرَكَتَيْنِ؛ وَهُوَ الْمَدُّ الطَّبِيعِيُّ الَّذِي لَا تَتَحَقَّقُ طَبِيعَةُ الْحَرْفِ بِدُونِهِ. ثُمَّ إنْ اتَّصَلَتْ كَلِمَةُ الْجَلَالَةِ بِشَيْءٍ، نَحْوُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ تَكَرَّرَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ مِرَارًا فَلَا تُزَادُ عَنْ حَرَكَةِ الْمَدِّ الطَّبِيعِيِّ. وَأَمَّا إذَا سَكَنَتْ هَاءُ الْجَلَالَةِ لِلْوَقْفِ فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ وَالْمَدُّ لِسِتِّ حَرَكَاتٍ وَيَجُوزُ التَّوَسُّطُ. وَأَقْصَى مَا نُقِلَ عَنْ الْقُرَّاءِ الْمَدُّ إلَى أَرْبَعَ عَشْرَةَ حَرَكَةً وَلَوْ فِي الْوُجُوهِ الشَّاذَّةِ وَقَدْ نَهَى الْعُلَمَاءُ عَنْ الْوَقْفِ عَلَى لَا إلَهَ لِمَا فِيهِ مِنْ إيهَامِ التَّعْطِيلِ بَلْ يَصِلُهُ بِقَوْلِهِ: إلَّا اللَّهُ بِسُرْعَةٍ؛ وَلَا تُفَخَّمُ أَدَاةُ النَّفْيِ وَلَا يَضُمُّ الشَّفَتَيْنِ عِنْدَ النُّطْقِ بِهَا وَلَا تُبْدَلُ الْهَمْزَةُ يَاءً وَلَا يَزِيدُ مَدًّا لَهُ عَنْ الطَّبِيعِيِّ وَلْيَحْذَرْ مِنْ مَدِّ هَمْزَةِ اللَّهِ لِئَلَّا يَصِيرَ اسْتِفْهَامًا وَهُوَ وَاقِعٌ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ وَيَدَّعِي مَا لَا يَجُوزُ، وَيَأْكُلُونَ بَعْضَ حُرُوفِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْمُشَرَّفَةِ، وَرُبَّمَا لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُمْ إلَّا أَصْوَاتٌ سَاذَجَةٌ.
وَلَيْسَ كَلَامُنَا مَعَ الْعَارِفِينَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْوُجُوهَ وَاَلَّذِينَ يَغِيبُونَ؛
ــ
[حاشية الصاوي]
قَوْلُهُ: [الَّذِي لَا تَتَحَقَّقُ طَبِيعَةُ الْحَرْفِ بِدُونِهِ] : بَيَانٌ لِوَجْهِ تَسْمِيَتِهِ طَبِيعِيًّا.
قَوْلُهُ: [وَأَقْصَى مَا نُقِلَ عَنْ الْقُرَّاءِ الْمَدُّ إلَى أَرْبَعَ عَشْرَةَ حَرَكَةً] : أَيْ وَعَلَيْهِ يَتَخَرَّجُ مَا وَرَدَ أَنَّ «مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ثَلَاثًا بِمَدٍّ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ حَرَكَةً وَلَفْظَ الْجَلَالَةِ سِتًّا كُفِّرَتْ عَنْهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ كَبِيرَةٍ» .
قَوْلُهُ: [لِمَا فِيهِ مِنْ إيهَامِ التَّعْطِيلِ] : أَيْ لِأَنَّهُ يُوهِمُ عَدَمَ الْأُلُوهِيَّةِ مِنْ أَصْلِهَا.
قَوْلُهُ: [وَلَا تُفَخَّمُ أَدَاةُ النَّفْيِ] : هَذَا مَعْلُومٌ مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ: اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ مُرَقَّقَةٌ.
قَوْلُهُ: [وَلَا يَزِيدُ مَدًّا لَهُ عَنْ الطَّبِيعِيِّ] : أَيْ وَلَا يُنْقِصُ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: [لِئَلَّا يَصِيرَ اسْتِفْهَامًا] : أَيْ حَيْثُ مَدَّهَا مَفْتُوحَةً وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي ذِكْرِ الْجَلَالَةِ مُفْرَدًا، وَأَمَّا فِي حَالَةِ التَّهْلِيلِ فَقَدْ يَمُدُّونَ الْهَمْزَةَ الدَّاخِلَةَ عَلَى إلَّا اللَّهُ مَكْسُورَةً وَهُوَ أَيْضًا لَحْنٌ فَاحِشٌ.
قَوْلُهُ: [وَيَدَّعِي مَا لَا يَجُوزُ] : أَيْ يَدَّعِي دَلِيلًا لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهِ كَأَنْ يَقُولَ هَكَذَا طَرِيقَةُ شَيْخِنَا، وَالْحَالُ أَنَّ شَيْخَهُ غَيْرُ عَارِفٍ أَوْ عَارِفٌ أَوْ وَلَمْ يَثْبُتْ النَّقْلُ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: [الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْوُجُوهَ] : أَيْ كَمَا نُقِلَ عَنْ سَيِّدِي مُحَمَّدٍ الدِّمِرْدَاشِ
إذْ الْغَائِبُ عَنْ نَفْسِهِ لَا لَوْمَ عَلَيْهِ إلَى آخِرِ مَا قَالَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ يَحْذَرُ مِنْ تَرْكِ الْهَاءِ مِنْ اللَّهِ. فَإِذَا ذَكَرَ ذِكْرًا شَرْعِيًّا أَوْرَثَ لَهُ الْأَنْوَارَ وَالثَّوَابَ الْأَعْظَمَ. وَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ فَضْلِ الذَّاكِرِ وَالذِّكْرِ وَبُغْضِ اللَّهِ مَنْ يَبْغُضُ الذَّاكِرِينَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ صَبَاحًا ثُمَّ قَالَهَا مَسَاءً نَادَى مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ أَلَا أَقْرِنُوا الْأُخْرَى بِالْأُولَى» . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ حَافِظَيْنِ رَفَعَا إلَى اللَّهِ مَا حَفِظَا مِنْ عَمَلِ الْعَبْدِ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَيَرَى فِي أَوَّلِ الصَّحِيفَةِ خَيْرًا وَفِي آخِرِهَا خَيْرًا، إلَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ غَفَرْت لِعَبْدِي مَا بَيْنَ طَرَفَيْ الصَّحِيفَةِ» .
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى» وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ شَيْءٍ مِفْتَاحٌ وَمِفْتَاحُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» أَيْ تُفْتَحُ بَرَكَاتُهُمَا بِهَا وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:
ــ
[حاشية الصاوي]
أَنَّهُ يَذْكُرُ اسْمَ الْجَلَالَةِ مَمْدُودَ الْهَمْزَةِ عَلَى صُورَةِ الْمُسْتَفْهِمِ فَمِثْلُ هَذَا لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ يَقْصِدُهُ وَيُقَلَّدُ فِيهِ، وَقَدْ سُئِلْت عَنْ ذَلِكَ فَأَلْهَمَنِي اللَّهُ أَنَّ الشَّيْخَ يَجْعَلُ الْهَمْزَةَ لِلنِّدَاءِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ وَالْهَمْزَةُ لِلدَّانِي.
قَوْلُهُ: [إذْ الْغَائِبُ عَنْ نَفْسِهِ لَا لَوْمَ عَلَيْهِ] : أَيْ كَمَا قَالَ الْعَارِفُ:
وَبَعْدَ الْفَنَا فِي اللَّهِ كُنْ كَيْفَمَا تَشَا
…
فَعِلْمُك لَا جَهْلٌ وَفِعْلُك لَا وِزْرُ
وَقَالَ ابْنُ التِّلْمِسَانِيِّ:
فَلَا تَلُمْ السَّكْرَانَ فِي حَالِ سُكْرِهِ
…
فَقَدْ رُفِعَ التَّكْلِيفُ فِي سُكْرِنَا عَنَّا
فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِآدَابِ الذِّكْرِ وَادَّعَى الْحَالَ نَتْرُكُهُ فَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ.
قَوْلُهُ: [وَبُغْضِ اللَّهِ] : بِالْجَرِّ مَعْطُوفٌ عَلَى عَظِيمِ.
قَوْلُهُ: [أَلَا أَقْرِنُوا الْأُخْرَى بِالْأُولَى] : أَيْ فَالْمُرَادُ مَحْوُ مَا بَيْنَ الْكَلِمَتَيْنِ مِنْ الذُّنُوبِ.
قَوْلُهُ: [قَالَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ] : لَعَلَّهُمْ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْأَعْمَالِ.
قَوْلُهُ: [يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ] : أَيْ لَا بِقَصْدِ رِيَاءٍ وَلَا سُمْعَةٍ وَلَا تُقْيَةٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا كَالْمُنَافِقِينَ.
قَوْلُهُ: [أَيْ تُفْتَحُ بَرَكَاتُهُمَا بِهَا] : أَيْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96]
«إذَا قَالَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خُرِقَتْ السَّمَوَاتُ حَتَّى تَقِفَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ فَيَقُولُ: اُسْكُنِي، فَتَقُولُ: كَيْفَ أَسْكُنُ وَلَمْ تَغْفِرْ لِقَائِلِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَجْرَيْتُك عَلَى لِسَانِهِ إلَّا وَقَدْ غَفَرْت لَهُ» . وَلَا يَخْفَى عَلَيْك تَنَزُّهُهُ تَعَالَى عَنْ الْمَكَانِ وَالْجَارِحَةِ وَعَدَمِ تَمَثُّلِ الْمَعَانِي وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ تَرْفَعُ عَنْ قَائِلِهَا تِسْعَةً وَتِسْعِينَ بَابًا أَدْنَاهَا الْهَمُّ» وَفِي رِوَايَةٍ: " اللَّمَمُ " وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَوْلَا مَنْ يَقُولُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَسُلِّطَتْ جَهَنَّمُ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا» . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، كَانَتْ لَهُ كَفَّارَةً لِكُلِّ ذَنْبٍ» وَوَرَدَ: «مَا عَادَانِي أَحَدٌ مِثْلُ مَنْ عَادَى الذَّاكِرِينَ» كَمَا تَقَدَّمَ فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ بُغْضِ أَهْلِ اللَّهِ الْمَشْغُولِينَ بِذِكْرِهِ، وَبِالضَّرُورَةِ مَنْ يَذْكُرُ الْمُنْعِمَ عَلَيْك الرَّءُوفَ الرَّحِيمَ فَإِنَّك تُحِبُّهُ
ــ
[حاشية الصاوي]
قَوْلُهُ: [وَلَا يَخْفَى عَلَيْك تَنَزُّهُهُ] : جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يُوهِمُ الْمَكَانَ لِلَّهِ وَالْيَدَ لَهُ وَتَصِيرُ الْمَعَانِي أَجْسَامًا. فَأَجَابَ بِأَنَّ هَذَا مُؤَوَّلٌ لِقَوْلِ صَاحِبِ الْجَوْهَرَةِ:
وَكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا
…
أَوِّلْهُ أَوْ فَوِّضْ وَرُمْ تَنْزِيهَا
فَيُؤَوَّلُ قَوْلُهُ حَتَّى تَقِفَ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ بَيْنَ يَدَيْ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ تَمْثِيلِ الْمَعَانِي عَلَى الصَّحِيحِ أَوْ أَنَّ الَّذِي يَخْرِقُ السَّمَوَاتِ الْمَلَكُ الصَّاعِدُ بِهَا. فَقَوْلُ الشَّارِحِ وَعَدَمُ تَمَثُّلِ الْمَعَانِي صَوَابُهُ حَذْفُ عَدَمٍ وَقَوْلُهُمْ يَسْتَحِيلُ قَلْبُ الْحَقَائِقِ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَقْسَامُ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ بِأَنْ يَصِيرَ الْوَاجِبُ جَائِزًا أَوْ مُسْتَحِيلًا مَثَلًا.
قَوْلُهُ: [تِسْعَةً وَتِسْعِينَ بَابًا] : أَيْ مِنْ الْبَلَايَا كَمَا وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى.
قَوْلُهُ: [وَفِي رِوَايَةٍ اللَّمَمُ] : بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ أَيْ مَا أَلَمَّ بِالشَّخْصِ وَنَزَلَ بِهِ مِنْ حَوَادِثِ الدَّهْرِ.
قَوْلُهُ: [كَانَتْ لَهُ كَفَّارَةً لِكُلِّ ذَنْبٍ] : ظَاهِرُهُ حَتَّى لِلْكَبَائِرِ وَلِذَلِكَ اتَّخَذَهَا الْعَارِفُونَ عَتَاقَةً وَاخْتَارُوا أَنْ تَكُونَ سَبْعِينَ أَلْفًا؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ بِهَا أَثَرٌ كَمَا نُقِلَ عَنْ الشَّيْخِ السُّنُوسِيِّ.
قَوْلُهُ: [كَمَا تَقَدَّمَ] : أَيْ مَا يُفِيدُ مَعْنَاهُ فِي قَوْلِهِ لَيْسَ أَحَدٌ أَبْغَضَ عِنْدَ اللَّهِ مِمَّنْ كَرِهَ الذِّكْرَ وَالذَّاكِرِينَ.
وَلَا يَبْغُضُ ذَاكِرَهُ إلَّا لَئِيمٌ شَقِيٌّ وَكَيْفَ يَكْرَهُ مَنْ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ ذِكْرَ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ وَالْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْقَوْلِ السَّدِيدِ. وَالْقَوْلِ الصَّوَابِ وَكَلِمَةِ التَّقْوَى وَدَعْوَةِ الْحَقِّ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْحَسَنَةِ وَالْإِحْسَانِ كَمَا فُسِّرَتْ بِهِ الْآيَاتُ قَالَ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24] الْآيَةَ، عَلَى أَنَّ الشَّجَرَةَ الطَّيِّبَةَ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ. وَكَلِمَةُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ تُؤْتِي أَسْرَارًا وَأَنْوَارًا وَبَرَكَةً كُلَّ لَحْظَةٍ يُدْرِكُ ذَلِكَ أَهْلُهَا، اللَّهُمَّ أَلْحِقْنَا بِهِمْ وَامْلَأْ قُلُوبَنَا مِنْ حُبِّهِمْ.
(فَعَلَى الْعَاقِلِ) : الْمُتَّصِفِ بِالْعَقْلِ الرَّاجِحِ (الْإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِهَا) بِدُونِ حَدٍّ (حَتَّى تَمْتَزِجَ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ) : هَذَا مَعْنًى يُدْرِكُهُ أَرْبَابُهُ مِنْ كَثْرَةِ
ــ
[حاشية الصاوي]
قَوْلُهُ: [وَلَا يَبْغُضُ ذَاكِرَهُ] : أَيْ ذَاكِرُ الْمُنْعِمِ عَلَيْك الرَّءُوفِ.
قَوْلُهُ: [كَمَا فُسِّرَتْ بِهِ الْآيَاتُ] : أَيْ آيَةُ: {مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً} [إبراهيم: 24] وَآيَةُ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] وَآيَةُ: {وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] وَآيَةُ: {وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38]، وَآيَةُ:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] وَآيَةُ: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرعد: 14] وَآيَةُ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [النمل: 89] وَآيَةُ: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] .
قَوْلُهُ: [فَعَلَى الْعَاقِلِ] : أَيْ يَلْزَمُهُ شَرْعًا وَعَقْلًا وَطَبْعًا كَمَا قَالَ الْعَارِفُ:
ثَنَائِي عَلَيْك يَا مَلِيحَةُ وَاجِبٌ
…
وَحُبِّي لَك فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَجْزَائِي
قَوْلُهُ: [حَتَّى تَمْتَزِجَ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ] : أَيْ يَمْتَزِجُ حُبُّ مَدْلُولِهَا الْمَقْصُودِ وَهُوَ مَا بَعْدَ إلَّا فَيَسْرِي فِي الْبَدَنِ كَسَرَيَانِ الْمَاءِ فِي الْعُودِ الْأَخْضَرِ كَمَا أَفَادَ هَذَا فِي الْحَدِيثِ: «كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا» ، وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ الْمُدَاوَمَةُ الَّتِي قَالَ فِيهَا ابْنُ الْفَارِضِ:
شَرِبْنَا عَلَى ذِكْرِ الْحَبِيبِ مُدَامَةً
…
سَكِرْنَا بِهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُخْلَقَ الْكَرْمُ
إلَى آخِرِ مَا قَالَ.
إجْرَائِهَا عَلَى الْأَلْسُنِ وَالتَّفَكُّرِ فِي مَعْنَاهَا وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْمَعْنَى، فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا إلَهَ غَيْرُهُ تَعَالَى وَأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِالْإِيجَادِ وَالْإِحْسَانِ وَالنَّفْعِ وَالضَّرِّ بِلَا غَرَضٍ وَلَا شَرِيكٍ نَشَأَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِهِ تَعَالَى وَاعْتِمَادٌ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ فَظَهَرَتْ عَلَيْهِ أَنْوَارٌ مَعْنَوِيَّةٌ وَحِسِّيَّةٌ (فَيَتَنَوَّعُ مِنْ مُجْمَلِ نُورِهَا عِنْدَ امْتِزَاجِهَا بِالرُّوحِ وَالْبَدَنِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْأَذْكَارِ الظَّاهِرِيَّةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ الَّتِي مِنْهَا التَّفَكُّرُ فِي دَقَائِقِ الْحِكَمِ الْمُنْتِجَةِ لِدَقَائِقِ الْأَسْرَارِ) فَيَصِيرُ مِنْ أَهْلِ الْحَضْرَةِ الشَّاهِدِينَ الْحَاضِرِينَ مَعَ النَّاسِ بِأَبْدَانِهِمْ الْغَائِبِينَ فِي حُبِّهِ؛ كَشَيْخِنَا الْمُصَنِّفِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَمَا زَالَ يَتَرَقَّى فِي أَحْوَالٍ لَا تُدْرَكُ
ــ
[حاشية الصاوي]
قَوْلُهُ: [وَالْعَمَلُ يَقْتَضِي الْمَعْنَى] : أَيْ الْخِدْمَةُ عَلَى حَسْبِ مَا شَاهَدَ مِنْ جَمَالِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ كَمَا قَالَ الْعَارِفُ الدُّسُوقِيُّ:
قَدْ كَانَ فِي الْقَلْبِ أَهْوَاءٌ مُفَرَّقَةٌ
…
فَاسْتَجْمَعَتْ مُذْ رَأَتْك الْعَيْنُ أَهْوَائِي
تَرَكْت لِلنَّاسِ دُنْيَاهُمْ وَدِينَهُمْ
…
شُغْلًا بِحُبِّك يَا دِينِي وَدُنْيَائِي
قَوْلُهُ: [أَنْوَارٌ مَعْنَوِيَّةٌ] : أَيْ وَهِيَ الْعُلُومُ الرَّبَّانِيَّةُ.
وَقَوْلُهُ: [وَحِسِّيَّةٌ] : أَيْ وَهِيَ صُفْرَتُهُ وَنُحُولَتُهُ وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: [مِنْ مُجْمَلِ نُورِهَا] : وَهِيَ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ وَالْمُرَادُ بِنُورِهَا الْمُجْمَلِ مَعْنَاهَا الَّذِي يَسْتَحْضِرُهُ التَّالِي.
قَوْلُهُ: [جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْأَذْكَارِ] : أَيْ كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْهَمْزِيَّةِ:
وَإِذَا حَلَّتْ الْهِدَايَةُ قَلْبًا
…
نَشِطَتْ فِي الْعِبَادَةِ الْأَعْضَاءُ
قَوْلُهُ: [الَّتِي مِنْهَا التَّفَكُّرُ] : صِفَةٌ لِلْبَاطِنِيَّةِ، وَفِي الْحَقِيقَةِ التَّفَكُّرُ هُوَ أَفْضَلُ الْأَذْكَارِ؛ لِأَنَّ بِهِ تَنْفَجِرُ يَنَابِيعُ الْحِكَمِ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ: ذَرَّةٌ مِنْ عَمَلِ الْقُلُوبِ خَيْرٌ مِنْ مَثَاقِيلِ الْجِبَالِ مِنْ عَمَلِ الْأَبْدَانِ.
قَوْلُهُ: [الْحِكَمِ] : الْمُرَادُ بِهَا صُنْعُهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ:
فَانْظُرْ إلَى نَفْسِك ثُمَّ انْتَقِلْ
…
لِلْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ ثُمَّ السُّفْلِيِّ
تَجِدْ بِهِ صُنْعًا بَدِيعَ الْحِكَمِ
قَوْلُهُ: [وَمَا زَالَ يَتَرَقَّى] : أَيْ صَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ.
قَوْلُهُ: [فِي أَحْوَالٍ لَا تُدْرَكُ] : أَيْ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَذُقْ مَذَاقَهُ كَمَا قَالَ الْعَارِفُ الْبَكْرِيُّ:
وَذَلِكَ سِرٌّ سَرَى لَهُ مِنْ سَيِّدِ الْكَائِنَاتِ صلى الله عليه وسلم وَمَا تَرَقَّى لِوَلِيٍّ لِحَالٍ إلَّا رَأَى الْحَالَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ حَسَنًا، إلَّا نَقْصًا؛ وِرَاثَةً مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي حَتَّى أَسْتَغْفِرَ اللَّهَ سَبْعِينَ مَرَّةً» وَهُوَ غَيْنُ أَنْوَارٍ لَا غَيْنُ أَغْيَارٍ فَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَتَرَقَّى فِي أَحْوَالِ الْمَعَالِي فَمَتَى تَرَقَّى لِحَالٍ رَأَى الْحَالَ الْمَنْقُولَ عَنْهُ نَقْصًا بِالنِّسْبَةِ لِلْحَالِ الْمَنْقُولِ إلَيْهِ، فَيَسْتَغْفِرُ مِنْهُ وَهُوَ مَحْمَلُ قَوْلِهِمْ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ.
(وَمِنْهَا التَّفَكُّرُ فِي دَقَائِقِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُوَصِّلُ لِمَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ) : كَمَا وَقَعَ لِلْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ رضي الله عنهم وَمَنْ تَبِعَهُمْ (وَمِنْهَا مُرَاقَبَةُ اللَّهِ) التَّفَكُّرُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَجَلَالِهِ (عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى
ــ
[حاشية الصاوي]
فَحِمَانَا كَالسَّمَا وَسَمَا
…
مَا رَقَاهُ غَيْرَ أَوَّابِ
دُونَهُ قَطْعُ الرِّقَابِ فَقُمْ
…
أَيُّهَا السَّارِي عَلَى الْبَابِ
قَوْلُهُ: [وَذَلِكَ سِرٌّ سَرَى] : أَيْ التَّرَقِّي فِي الْمَقَامَاتِ.
قَوْلُهُ: [إلَّا نَقْصًا] : الصَّوَابُ حَذْفُ إلَّا.
قَوْلُهُ: [حَتَّى أَسْتَغْفِرَ اللَّهَ] : أَيْ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ كَمَا وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى.
قَوْلُهُ: [وَهُوَ غَيْنُ أَنْوَارٍ] : أَيْ حَجْبُ أَنْوَارٍ يَزِيدُ بَعْضُهَا فِي النُّورِ عَلَى بَعْضٍ، فَحِينَ يَعْلُو لِمَقَامِ الْأَنْوَارِ يَسْتَغْفِرُ مِنْ الْأَنْقَصِ نُورًا؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ أَنَّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ سَبْعِينَ أَلْفَ حِجَابٍ مِنْهَا مَا هُوَ نُورَانِيٌّ وَمِنْهَا مَا هُوَ ظَلْمَانِيٌّ، فالظلمانية هِيَ حَجْبُ الْأَغْيَارِ وَلَيْسَتْ مُرَادَةً؛ لِأَنَّهَا لِغَيْرِ الْوَاصِلِينَ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي قَالَهُ الشَّارِحُ قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ نَقْلًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ مَا مَعْنَى قَوْلِك فِي الْحَدِيثِ إنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فَقَالَ غَيْنُ أَنْوَارٍ لَا غَيْنَ أَغْيَارٍ يَا مُبَارَكُ.
قَوْلُهُ: [وَهُوَ غَيْنُ أَنْوَارٍ] : لَيْسَ مِنْ الْحَدِيثِ بَلْ هُوَ تَفْسِيرٌ لَهُ.
قَوْلُهُ: [وَمِنْهَا] : أَيْ مِنْ الْبَاطِنِيَّةِ قَوْلُهُ: [التَّفَكُّرُ فِي دَقَائِقِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ] إلَخْ: أَيْ عَلَى طِبْقِ الْقَوَاعِدِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ.
قَوْلُهُ: [وَمِنْهَا مُرَاقَبَةُ] : أَيْ مِنْ الْبَاطِنِيَّةِ أَيْضًا.
لَا يَسْتَطِيعَ أَنْ يَفْعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ) حَيَاءً مِنْ اللَّهِ. (وَمِنْهَا طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ بِكُلِّ مَا وَقَعَ فِي الْعَالَمِ) لِعِلْمِهِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِمُرَادِ مَالِكِهِ، وَهَلْ إرَادَةُ الْعَبْدِ وُقُوعَ شَيْءٍ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ وُقُوعَهُ تُفِيدُ؟ أَوْ إرَادَتُهُ عَدَمَ وُقُوعِ شَيْءٍ أَرَادَ الْمَالِكُ وُقُوعَهُ تُفِيدُ؟ كَلَا وَاَللَّهِ؟ لَا يَكُونُ إلَّا مَا يُرِيدُ جَلَّ وَعَلَا فَحِينَئِذٍ يَرْضَى الْعَبْدُ بِمُرَادِ سَيِّدِهِ فِي مِلْكِهِ (مِنْ غَيْرِ انْزِعَاجٍ وَلَا اعْتِرَاضٍ فَيَتِمُّ لَهُ التَّسْلِيمُ لِلْعَلِيمِ الْحَكِيمِ) : فَيَفُوزُ بِكَوْنِهِ مَحْبُوبًا غَيْرَ مَذْمُومٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّسْلِيمَ وَالِاسْتِسْلَامَ وَالِانْقِيَادَ وَالتَّفْوِيضَ مُتَرَادِفَةٌ، وَهُوَ أَنْ يُفَوِّضَ الْعَبْدُ اخْتِيَارَهُ إلَى اخْتِيَارِ مَوْلَاهُ وَيَرْضَى بِمَا يَخْتَارُهُ مَوْلَاهُ، وَقِيلَ: التَّفْوِيضُ قَبْلَ نُزُولِ الْقَضَاءِ، وَالتَّسْلِيمُ بَعْدَ نُزُولِهِ. (وَمِنْهَا: وُفُورُ مَحَبَّةِ اللَّهِ) فَيَصِيرُ مِنْ أَهْلِ الْمَحْوِ وَالْإِثْبَاتِ؛ فَيَمْحُو أَوْصَافَ الْعَادَةِ وَيَنْسَلِخُ عَنْ كُلِّ وُجُودٍ غَيْرِ وُجُودِ الْحَقِّ وَتَثْبُتُ لَهُ صِفَاتُ التَّيَقُّظِ
ــ
[حاشية الصاوي]
قَوْلُهُ: [حَيَاءً مِنْ اللَّهِ] : أَيْ فَيَمْنَعُهُ الْحَيَاءُ مِنْ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ خَوْفُ الْعِقَابِ.
قَوْلُهُ: [وَمِنْهَا طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ] : أَيْ مِنْ الْبَاطِنِيَّةِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: [وَهَلْ إرَادَةُ الْعَبْدِ وُقُوعَ شَيْءٍ] إلَخْ: كَلَامٌ رَكِيكٌ فَالْأَوْضَحُ أَنْ يَقُولَ وَإِنَّ إرَادَةَ الْعَبْدِ لَا تُفِيدُ شَيْئًا.
قَوْلُهُ: [فَيَفُوزُ بِكَوْنِهِ مَحْبُوبًا غَيْرَ مَذْمُومٍ] : أَيْ لِأَنَّهُ وَرَدَ: " مَنْ رَضِيَ لَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ لَهُ السَّخَطُ " قَالَ الْعَارِفُ:
فَازَ مَنْ سَلَّمَ الْأُمُورَ إلَيْهِ
…
وَشَقِيَ مَنْ غَرَّهُ الْإِنْكَارُ
قَوْلُهُ: [وَمِنْهَا وُفُورُ مَحَبَّةِ اللَّهِ] : أَيْ مِنْ الْبَاطِنِيَّةِ أَيْضًا وَإِضَافَةُ وُفُورٍ لِمَا بَعْدَهُ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ أَيْ مَحَبَّةُ اللَّهِ الْوَافِرَةُ الزَّائِدَةُ عَنْ مَحَبَّةِ الْعَوَامّ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ يُحِبُّونَ اللَّهَ، وَإِنَّمَا تَتَمَيَّزُ الْخَوَاصُّ بِالزِّيَادَةِ.
قَوْلُهُ: [فَيَمْحُو أَوْصَافَ الْعَادَةِ] إلَخْ: تَفْسِيرٌ لِمَعْنَى الْمَحْوِ وَالْإِثْبَاتِ.
قَوْلُهُ: [يَنْسَلِخُ عَنْ كُلِّ وُجُودٍ] : أَيْ عَنْ الشُّغْلِ بِوُجُودِ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ:
اللَّهَ قُلْ وَذَرْ الْوُجُودَ وَمَا حَوَى
…
إنْ كُنْت مُرْتَادًا بُلُوغَ كَمَالِ
الْمُوَصِّلَةُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى (حَتَّى) صَارَتْ نَفْسُهُ مُطْمَئِنَّةً رُوحَانِيَّةً فَيُثْمِرُ لَهَا أَنْ (تَمِيلَ إلَى عَالَمِ) بِفَتْحِ اللَّامِ (الْغَيْبِ وَالْقُدْسِ) عَالَمُ الْغَيْبِ: مَا غَابَ عَنْ الْمُشَاهَدَةِ بِالنَّظَرِ لِلْخَلْقِ؛ فَمِثْلُ الْجَنَّةِ الْمُقَدَّسَةِ عَنْ شَوَائِبِ الْكَدَرِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ (أَكْثَرَ مِنْ مَيْلِهَا إلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَالْحِسِّ) عَطْفُ مُرَادِفٍ. (فَ) بِسَبَبِ وُفُورِ الْمَحَبَّةِ إلَخْ (تَشْتَاقُ) الِاشْتِيَاقَ مَحَبَّةً خَاصَّةً وُجْدَانِيَّةً (إلَى لِقَائِهَا بَارِيَهَا) وَمُرَبِّيَهَا وَالْمُحْسِنَ إلَيْهَا (أَكْثَرَ مِنْ اشْتِيَاقِهَا لِأُمِّهَا وَأَبِيهَا) لِمَا عَرَفَتْهُ مِنْ الصَّوَابِ وَحَقِيقَةِ الْحَالِ، وَأَنَّهُ النَّافِعُ الْبَاقِي الَّذِي لَا يُعَادِلُ إحْسَانَهُ وَمُشَاهَدَتَهُ شَيْءٌ وَهَذَا فِيهِ عَقِيدَةُ الرُّؤْيَةِ الْمُثْبَتَةِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُصَدِّقِينَ بِهَا لِأَدِلَّةٍ قُرْآنِيَّةٍ
ــ
[حاشية الصاوي]
فَالْكُلُّ دُونَ اللَّهِ إنْ حَقَّقْته
…
عَدَمٌ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالْإِجْمَالِ
مَنْ لَا وُجُودَ لِذَاتِهِ مِنْ ذَاتِهِ
…
فَوُجُودُهُ لَوْلَاهُ عَيْنُ مُحَالِ
قَوْلُهُ: [مُطْمَئِنَّةً رُوحَانِيَّةً] : الْمُطْمَئِنَّةُ هِيَ الَّتِي سَكَنَتْ لِلْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَالرُّوحَانِيَّةُ هِيَ الَّتِي تَجَرَّدَتْ عَنْ الطِّبَاعِ الشَّهْوَانِيَّةِ وَصَارَ الْحُكْمُ لِمُجَرَّدِ الرُّوحِ.
قَوْلُهُ: [عَطْفُ مُرَادِفٍ] : أَيْ فَالشَّهَادَةُ هِيَ الْحِسُّ؛ لِأَنَّهُ يُشَاهَدُ بِإِحْدَى الْحَوَاسِّ.
قَوْلُهُ: [الِاشْتِيَاقُ مَحَبَّةٌ خَاصَّةٌ وُجْدَانِيَّةٌ] : الْمُنَاسِبُ أَنْ يُفَسِّرَهُ بِتَوَلُّعِ قَلْبِ الْمُحِبِّ بِلِقَاءِ الْمَحْبُوبِ.
قَوْلُهُ: [الَّذِي لَا يُعَادِلُ إحْسَانَهُ] : أَيْ الَّذِي لَا يُمَاثِلُ وَشَيْءٌ فَاعِلُ يُعَادِلُ وَإِحْسَانَهُ وَمُشَاهَدَتَهُ مَفْعُولٌ.
قَوْلُهُ: [وَهَذَا فِيهِ عَقِيدَةُ الرُّؤْيَةِ] : أَيْ لِأَنَّهُ مَا عَظُمَ اشْتِيَاقُهُمْ إلَّا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بِعَيْنِ الْبَصَرِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْلَا اعْتِقَادِي أَنِّي أَرَاهُ فِي الْآخِرَةِ مَا عَبَّدْته وَفِي الْحَقِيقَةِ اشْتِيَاقُ أَهْلِ اللَّهِ لِلرُّؤْيَةِ الْمُعَجَّلَةِ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ رُؤْيَةُ الْقَلْبِ بِمَعْنَى شُهُودِهِ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ، وَرُؤْيَةِ الْبَصَرِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ الْفَارِضِ:
فَيَا رَبّ بِالْخِلِّ الْحَبِيبِ مُحَمَّدٍ
…
نَبِيِّك وَهُوَ السَّيِّدُ الْمُتَوَاضِعُ
أَنِلْنَا مَعَ الْأَحْبَابِ رُؤْيَتَك الَّتِي
…
إلَيْهَا قُلُوبُ الْأَوْلِيَاءِ تُسَارِعُ
قَوْلُهُ: [لِأَدِلَّةٍ قُرْآنِيَّةٍ] مِنْهَا قَوْله تَعَالَى:
لَا تُصْرَفُ عَنْ ظَاهِرِهَا وَلِأَحَادِيثِهِ صلى الله عليه وسلم.
(فَإِذَا تَمَّ أَجَلُهَا) الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ فِي الْأَزَلِ (جَازَاهَا رَبُّهَا بِالْقَبُولِ) وَالرِّضَا وَعَدَمِ الطَّرْدِ وَأَفَاضَ عَلَيْهَا إنْعَامَهُ، فَكَانَ لَهَا الْخِتَامُ الْحَسَنُ لِلْأَجَلِ، كَمَا قَالَ رضي الله عنه (وَحُسْنُ الْخِتَامِ) . وَفِي هَذَا بَرَاعَةُ التَّمَامِ؛ وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُتَكَلِّمُ فِي آخِرِ كَلَامِهِ بِمَا يُؤْذِنُ بِانْتِهَائِهِ. وَحُسْنُ الِانْتِهَاءِ مِمَّا يَنْبَغِي التَّأَنُّقُ فِيهِ عِنْدَ الْبُلَغَاءِ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ مَا يَعِيهِ السَّمْعُ وَيُرْسَمُ فِي النَّفْسِ، فَإِذَا كَانَ مُسْتَلَذًّا جَبَرَ مَا قَبْلَهُ مِنْ التَّقْصِيرِ، كَالطَّعَامِ اللَّذِيذِ بَعْدَ غَيْرِهِ، كَمَا يَنْبَغِي فِي الِابْتِدَاءِ لِيَكُونَ أَوَّلُ مَا يَقْرَعُ السَّمْعَ لَذِيذًا فَيُقْبِلُ السَّامِعُ
ــ
[حاشية الصاوي]
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22]{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] وَمِنْهَا: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [المطففين: 22]{عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 23] .
قَوْلُهُ: [وَلِأَحَادِيثِهِ] : مِنْهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ»
قَوْلُهُ: [فَإِذَا تَمَّ أَجَلُهَا] : أَيْ انْقَضَى عُمُرُهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْرُجُ نَفْسٌ مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى تَسْتَوْفِيَ أَجَلَهَا وَرِزْقَهَا وَجَمِيعَ مَا قُدِّرَ لَهَا فِيهَا.
قَوْلُهُ: [جَازَاهَا رَبُّهَا بِالْقَبُولِ] : أَيْ أَظْهَرَ لَهَا الْمُجَازَاةَ بِذَلِكَ لِمَا وَرَدَ: «إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَخْرُجُ مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ فِي الْجَنَّةِ وَمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُ فِيهَا» فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَظْهَرُ الْبُشْرَى فِي وَجْهِهِ.
قَوْلُهُ: [وَحُسْنُ الْخِتَامِ] : أَيْ الْمَوْتُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ الْقَبُولِ الَّتِي ظَهَرَتْ أَمَارَاتُهُ وَإِنَّمَا خَصَّهُ؛ لِأَنَّهُ أَكْبَرُ الْعَلَامَاتِ.
قَوْلُهُ: [بِمَا يُؤْذِنُ بِانْتِهَائِهِ] : أَيْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88] ؛ {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى: 53] وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَإِنِّي جَدِيرٌ إذْ بَلَغْتُك بِالْمُنَى
…
وَأَنْتَ بِمَا أَمَلْت مِنْك جَدِيرُ
فَإِنْ تُولِنِي مِنْك الْجَمِيلَ فَأَهْلُهُ
…
وَإِلَّا فَإِنِّي عَاذِرٌ وَشَكُورُ
قَالَ فِي التَّلْخِيصِ وَأَحْسَنُهُ مَا آذَنَ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ حَتَّى لَا يَبْقَى لِلنَّفْسِ تَشَوُّقٌ إلَى مَا وَرَاءَهُ كَقَوْلِهِ:
عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ:
بُشْرَى فَقَدْ أَنْجَزَ الْإِقْبَالُ مَا وَعَدَا
(وَهَيَّأَ لَهَا دَارَ السَّلَامِ) الدَّارُ: هِيَ الْجَنَّةُ، وَالسَّلَامُ؛ اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى: أَيْ السَّالِمُ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ. وَإِضَافَةُ الدَّارِ لَهُ لِلتَّشْرِيفِ، كَقَوْلِهِمْ: بَيْتُ اللَّهِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: عَبْدُ اللَّهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْإِضَافَةَ مِنْ غَيْرِ إضَافَةِ الْمَوْصُوفِ عَلَى إرَادَةٍ أَنَّهُ صِفَةٌ لِلدَّارِ: أَيْ دَارُ السَّلَامَةِ الدَّائِمَةِ فَلَا تَنْقَطِعُ بِمَوْتٍ وَلَا كَدَرٍ. (وَنَادَاهَا رَبُّهَا) بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ الْمُنَزَّهِ عَنْ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَادَاهَا مَلَكٌ وَهَذَا النِّدَاءُ عِنْدَ حُضُورِ أَسْبَابِ الْمَوْتِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمُصَنِّفِ وَقِيلَ عِنْدَ الْبَعْثِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ عَزْرَائِيلَ عليه السلام لَوْ جَذَبَ الرُّوحَ بِأَلْفِ سَلْسَلَةٍ مَا خَرَجَتْ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ:{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27] الْآيَةَ
ــ
[حاشية الصاوي]
بَقِيت بَقَاءَ الدَّهْرِ يَا كَهْفَ أَهْلِهِ
…
وَهَذَا دُعَاءٌ لِلْبَرِيَّةِ شَامِلُ
وَجَمِيعُ فَوَاتِحِ السُّوَرِ وَخَوَاتِمِهَا وَارِدَةٌ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا.
قَوْلُهُ: [كَقَوْلِهِ بُشْرَى] إلَخْ: مِثَالٌ لِحُسْنِ الِابْتِدَاءِ.
قَوْلُهُ: [الدَّارُ هِيَ الْجَنَّةُ] : أَيْ فَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِدَارِ السَّلَامِ الْجَنَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ لِأَنَّهَا كُلَّهَا تُسَمَّى دَارَ سَلَامٍ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى الَّذِي قَالَهُ الشَّارِحُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ خُصُوصَ دَارِ السَّلَامِ الَّتِي هِيَ إحْدَى الْجِنَانِ السَّبْعِ الْوَارِدِ بِهَا الْحَدِيثُ.
قَوْلُهُ: [كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمُصَنِّفِ] : قَدْ يُقَالُ ظَاهِرُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ النِّدَاءَ بَعْدَ الْمَوْتِ.
قَوْلُهُ: [حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ] إلَخْ: هَذَا ظَاهِرٌ فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرَةُ فَمُقْتَضَاهُ أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهَا لَا تُنَادَى بِذَلِكَ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يَعْسُرُ خُرُوجُهَا وَإِخْرَاجُهَا مِنْ الْبَدَنِ كَإِخْرَاجِ الْمَاءِ الْمُمْتَزِجِ بِالْعُودِ الْأَخْضَرِ فَلِذَلِكَ وَرَدَ:«أَنَّهُ يَرَى أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ انْطَبَقَتْ عَلَيْهِ فَوْقَ الْأَرْضِ عِنْدَ كُلِّ جَذْبَةٍ وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الطَّائِعُ فَيُسَهَّلُ عَلَيْهِ خُرُوجُهَا لِسَمَاعِ النِّدَاءِ فَتَشْتَاقُ» وَلِذَلِكَ قَالَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ صَلَوَاتِهِ: وَتَوَلَّ قَبْضَ أَرْوَاحِنَا عِنْدَ الْأَجَلِ بِيَدِك مَعَ شِدَّةِ الشَّوْقِ إلَى لِقَائِك يَا رَحْمَنُ.
وَفِيهِ:
ــ
[حاشية الصاوي]
قَوْلُهُ: [وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ] : هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُنَادِيَ لَهَا الْمَلَكُ.
قَوْلُهُ: [أَرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِ مَلَكًا بِتُفَّاحَةٍ] : صَوَابُهُ مَلَكَيْنِ بِتُحْفَةٍ كَمَا فِي الْخَازِنِ وَنَصُّهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: «إذَا تُوُفِّيَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ أَرْسَلَ اللَّهُ عز وجل إلَيْهِ مَلَكَيْنِ وَأَرْسَلَ إلَيْهِ بِتُحْفَةٍ مِنْ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ اُخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، اُخْرُجِي إلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَرَبُّك عَلَيْك رَاضٍ. فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ مِسْكٍ وَجَدَ أَحَدٌ فِي أَنْفِهِ وَالْمَلَائِكَةُ عَلَى أَرْجَاءِ السَّمَاءِ يَقُولُونَ قَدْ جَاءَ مِنْ الْأَرْضِ رِيحٌ طَيِّبَةٌ وَنَسَمَةٌ طَيِّبَةٌ فَلَا تَمُرُّ بِبَابٍ إلَّا فُتِحَ لَهَا، وَلَا بِمَلَكٍ إلَّا صَلَّى عَلَيْهَا حَتَّى يُؤْتَى بِهَا الرَّحْمَنَ جل جلاله فَتَسْجُدُ لَهُ ثُمَّ يُقَالُ لِمِيكَائِيلَ اذْهَبْ بِهَذِهِ النَّفْسِ فَاجْعَلْهَا مَعَ أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ يُؤْمَرُ فَيُوَسَّعُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ سَبْعُونَ ذِرَاعًا عَرْضُهُ، وَسَبْعُونَ ذِرَاعًا طُولُهُ، وَيُنْبَذُ لَهُ فِي الرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَفَاهُ نُورُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جُعِلَ لَهُ فِيهِ نُورٌ مِثْلُ نُورِ الشَّمْسِ فِي قَبْرِهِ وَيَكُونُ مِثْلُهُ مِثْلَ الْعَرُوسِ يَنَامُ فَلَا يُوقِظُهُ إلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إلَيْهِ، وَإِذَا تُوُفِّيَ الْكَافِرُ أَرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِ مَلَكَيْنِ وَأَرْسَلَ إلَيْهِ قِطْعَةً مِنْ كِسَاءٍ أَنْتَنَ مِنْ كُلِّ نَتِنٍ وَأَخْشَنَ مِنْ كُلِّ خَشِنٍ فَيُقَالُ لَهَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اُخْرُجِي إلَى جَهَنَّمَ وَعَذَابٍ أَلِيمٍ وَرَبُّك عَلَيْك غَضْبَانُ» (اهـ بِحُرُوفِهِ) ، إذَا عَلِمْت ذَلِكَ تَعْلَمُ النَّقْصَ وَالتَّحْرِيفَ الَّذِي فِي كَلَامِ الشَّارِحِ.
قَوْلُهُ: [إلَى رَوْحٍ] : بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُون الْوَاوِ نُورٌ وَرَاحَةٌ.
وَقَوْلُهُ: [وَرَيْحَانٍ] أَيْ رَوَائِحُ طَيِّبَةٌ.
قَوْلُهُ: [بِأَرْجَاءِ السَّمَاءِ] : أَيْ بِجَوَانِبِهَا.
قَوْلُهُ: [قَدْ جَاءَ مِنْ الْأَرْضِ] إلَخْ: أَيْ وَمَجِيئُهَا إلَى السَّمَاءِ يَكُونُ عَلَى الْمِعْرَاجِ الَّذِي عَرَجَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ.
قَوْلُهُ: [إلَّا صَلَّى عَلَيْهَا] : أَيْ دَعَا لَهَا بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ.
«فَيُوَسَّعُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ سَبْعُونَ ذِرَاعًا عَرْضًا وَسَبْعُونَ ذِرَاعًا طُولًا وَيُمْلَأُ رَوْحًا وَرَيْحَانًا فَإِنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَفَاهُ نُورُهُ وَإِلَّا جُعِلَ لَهُ نُورٌ كَالشَّمْسِ» {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27] : الثَّابِتَةُ عَلَى الْإِيمَانِ الَّتِي أَيْقَنَتْ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهَا وَخَضَعَتْ لِأَمْرِهِ، الرَّاضِيَةُ بِقَضَاءِ اللَّهِ الْآمِنَةُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ الْمُطْمَئِنَّةُ بِذِكْرِ اللَّهِ، إذْ الْأَقْوَالُ فِيهَا غَيْرُ مُتَبَايِنَةٍ. وَجَعَلَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ رحمه الله رَحْمَةً وَاسِعَةً
ــ
[حاشية الصاوي]
قَوْلُهُ: [فَيُوَسَّعُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ سَبْعُونَ ذِرَاعًا] : الْعَدَدُ لَا مَفْهُومَ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَظِيمِ السَّعَةِ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مَدَّ بَصَرِهِ وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمَيِّتِ غَرِيبًا وَإِلَّا فَيُوَسَّعُ عَلَيْهِ قَدْرُ بُعْدِهِ عَنْ مَنْزِلِهِ.
قَوْلُهُ: [وَإِلَّا جُعِلَ لَهُ نُورٌ كَالشَّمْسِ] : يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الَّذِي مَعَهُ الْقُرْآنُ نُورُهُ أَعْلَى مِنْ الشَّمْسِ وَهَذَا النُّورُ حِسِّيٌّ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد: 12] الْآيَةُ.
قَوْلُهُ: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ} [الفجر: 27] إلَخْ: هَذِهِ الْجُمَلُ لِصِيغَةِ النِّدَاءِ.
قَوْلُهُ: [إذْ الْأَقْوَالُ فِيهَا غَيْرُ مُتَبَايِنَةٍ] : أَيْ التَّفَاسِيرُ فِيهَا تَرْجِعُ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ لِتَلَازُمِهَا. وَحَاصِلُ التَّفَاسِيرِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّارِحُ سِتَّةٌ وَمَسَاقُهَا هَكَذَا الثَّابِتَةُ عَلَى الْإِيمَانِ، أَوْ الَّتِي أَيْقَنَتْ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهَا، أَوْ الَّتِي خَضَعَتْ لِأَمْرِهِ، أَوْ الَّتِي رَضِيَتْ بِقَضَائِهِ، أَوْ الْآمِنَةُ مِنْ عَذَابِهِ، أَوْ الْمُطْمَئِنَّةُ بِذِكْرِهِ، فَالْمُنَاسِبُ لِلشَّارِحِ أَنْ يَقُولَ هَكَذَا. وَسَبَبُ نُزُولِهَا قِيلَ فِي حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حِينَ اُسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ وَقِيلَ فِي حَبِيبِ بْنِ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ، وَقِيلَ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ حِينَ اشْتَرَى بِئْرَ رُومَةَ وَسَبَّلَهَا، وَقِيلَ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ نَفْسٍ مُؤْمِنَةٍ مُطْمَئِنَّةٍ.
قَوْلُهُ: [وَجَعَلَ شَيْخُنَا الْمُصَنِّفُ] : كَانَ الْمُنَاسِبُ لِلشَّارِحِ أَنْ لَا يَنْقُلَ هَذَا الْمَبْحَثَ فَإِنَّ هَذَا لِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ يَطْلُبُونَهُ بِالْخُصُوصِ لَا لِكُلِّ مَنْ يُحْضِرُ الْأَحْكَامَ الْفِقْهِيَّةَ فَلَا يُؤْخَذُ بِالْقَالِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْحَالِ فَهُوَ مِنْ السِّرِّ الْمَكْتُومِ الَّذِي لَا يَجُوزُ التَّكَلُّمُ فِيهِ إلَّا مِنْ أَهْلِهِ لِأَهْلِهِ وَالْكَلَامُ فِيهِ مَعَ مَنْ يَطْلُبُهُ وَمَنْ لَا يَطْلُبُهُ عَبَثٌ. قَالَ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: إنَّ كَلَامَ الْقَوْمِ عَلَيْهِ أَقْفَالٌ لَا تُفْتَحُ إلَّا لِأَهْلِهِ، فَسَوْقُ هَذَا
فِي التُّحْفَةِ فِي مُنَاسَبَةِ اخْتِيَارِ اسْتِعْمَالِ الْأَسْمَاءِ السَّبْعَةِ: النَّفْسَ سَبْعَةَ أَقْسَامٍ، وَأَنَّ صَاحِبَ النَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ - الَّتِي مَقَامُهَا مَبْدَأُ الْكَمَالِ - مَتَى وَضَعَ السَّالِكُ قَدَمَهُ فِيهِ عُدَّ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ وَاسْتَحَقَّ لُبْسَ
ــ
[حاشية الصاوي]
الْكَلَامِ هُنَا كَمَنْ يَبِيعُ الْجَوَاهِرَ فِي سُوقِ الصَّدَفِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَشْرَحَ الْآيَةَ بِكَلَامِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، وَجَعَلَ الشَّيْخُ النَّفْسَ سَبْعَةً لَيْسَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ كَمَا تُوهِمُهُ عِبَارَةُ الشَّارِحِ، بَلْ هُوَ تَقْسِيمُ أَهْلِ الطَّرِيقِ قَدِيمًا أَخْذًا مِنْ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ يُؤْخَذُ مِنْهَا الْمُطْمَئِنَّةُ وَالرَّاضِيَةُ وَالْمَرْضِيَّةُ وَالْكَامِلَةُ وَالْمُلْهَمَةُ مِنْ قَوْله تَعَالَى:{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] وَاللَّوَّامَةُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2] وَالْأَمَّارَةُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ كِتَابِ السِّيَرِ وَالسُّلُوكِ.
قَوْلُهُ: [فِي التُّحْفَةِ] : مُتَعَلِّقٌ بِجَعَلَ وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ وَهِيَ اسْمُ كِتَابٍ لَهُ فِي التَّصَوُّفِ. وَقَوْلُهُ: [فِي مُنَاسَبَةِ] : مُتَعَلِّقٌ أَيْضًا بِجَعَلَ وَفِيهِ تَعَلُّقٌ حَرْفِيٌّ جَرَّ مُتَّحِدَيْ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى بِعَامِلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مَعِيبٌ.
قَوْلُهُ [عُدَّ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ] : أَيْ وَهِيَ الْوُقُوفُ مَعَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. قَوْلُهُ: [وَاسْتَحَقَّ لُبْسَ خِرْقَتِهِمْ] : أَيْ بِحَسْبِ مَا يَرَاهُ الشَّيْخُ الْعَارِفُ مِنْ حَالِهِ، ثُمَّ هِيَ إمَّا حُجَّةٌ لَهُ إنْ كَانَ عَلَى قَدَمِهِمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَإِلَّا فَهِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ.
قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ خِرْقَةُ الْقَوْمِ لِأَهْلِهَا نُورٌ وَزِينَةٌ وَلِغَيْرِهِمْ سَمَاجَةٌ وَظُلْمَةٌ، وَرُبَّمَا دَخَلَ فِي وَعِيدِ قَوْله تَعَالَى:{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 188] .
وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الْعَارِفِينَ:
فَتَشَبَّهُوا إنْ لَمْ تَكُونُوا مِثْلَهُمْ
…
إنَّ التَّشَبُّهَ بِالرِّجَالِ فَلَاحُ
فَإِنَّ الْمُرَادَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي الْعَمَلِ وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ.
خِرْقَتِهِمْ لِانْتِقَالِهِ مِنْ التَّلْوِينِ إلَى التَّمْكِينِ، وَصَاحِبُهَا سَكْرَانُ هَبَّتْ عَلَيْهِ نَسَمَاتُ الْوِصَالِ يُخَاطِبُ النَّاسَ وَهُوَ عَنْهُمْ فِي بَوْنٍ لِشِدَّةِ تَعَلُّقِهِ بِالْحَقِّ تَعَالَى، يُنَاسِبُهُ الْإِكْثَارُ مِنْ اسْمِهِ تَعَالَى الرَّابِعِ فِي التَّلْقِينِ. يَعْنِي: حَقٌّ، وَإِنَّ الْأَمَّارَةَ ذَاتَ الْحُجُبِ الظُّلْمَانِيَّةِ الَّتِي مَقَامُهَا مَقَامُ الْأَغْيَارِ يُوَافِقُهَا فِي تَمْزِيقِ حُجُبِهَا الْإِكْثَارُ مِنْ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَأَنَّ اللَّوَّامَةَ: الْكَثِيرَةَ اللَّوْمِ لِصَاحِبِهَا - الَّتِي مَقَامُهَا مَقَامُ الْحُجُبِ النُّورَانِيَّةِ لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ كَثِيفَةً وَهِيَ تَوَّابَةٌ - يُنَاسِبُهَا
ــ
[حاشية الصاوي]
قَوْلُهُ: [لِانْتِقَالِهِ مِنْ التَّلْوِينِ إلَى التَّمْكِينِ] : عِلَّةٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَالتَّمْكِينُ هُوَ الطُّمَأْنِينَةُ وَالرُّسُوخُ فِي الْأَخْلَاقِ الْمَرْضِيَّةِ، وَالتَّلْوِينُ هُوَ عَدَمُ ذَلِكَ وَسُمِّيَ تَلْوِينًا لِكَثْرَةِ تَغَيُّرَاتِهِ.
قَوْلُهُ: [يُنَاسِبُهُ] إلَخْ: قَالَ الشَّيْخُ فِي التُّحْفَةِ وَهَذَا الْمَقَامُ لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ عَادَةً لِغَيْرِ السَّالِكِينَ وَلَوْ أَتَى بِعِبَادَةِ الثَّقَلَيْنِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ السَّالِكِ مُقَيَّدٌ بِقُيُودِ الشَّهَوَاتِ وَالشِّرْكُ الْخَفِيُّ لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا إلَّا بِأَنْفَاسِ الْمَشَايِخِ الْعَارِفِينَ مَعَ الْمُجَاهَدَةِ وَالْتِزَامِ الْآدَابِ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَغَيْرُ هَذَا لَا يَصِحُّ (اهـ) فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي مَبْدَأِ الْكَمَالِ فَمَا بَالُك بِصَاحِبِ النَّفْسِ الرَّاضِيَةِ وَالْمَرْضِيَّةِ وَالْكَامِلَةِ، فَتَعَذُّرُ الْوُصُولِ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ الْمَشَايِخِ أَوْلَوِيٌّ فَلِذَلِكَ قُلْنَا التَّكَلُّمُ فِي تِلْكَ الْمَقَامَاتِ لَا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَقَامَ.
قَوْلُهُ: [فِي التَّلْقِينِ يَعْنِي حَقٌّ] : هَذَا مِنْ كَلَامِ الشَّارِحِ وَلَيْسَ مِنْ كَلَامِ التُّحْفَةِ.
قَوْلُهُ: [ذَاتَ الْحُجُبِ الظُّلْمَانِيَّةِ] : أَيْ الشَّهَوَاتُ الْمُحَرَّمَةُ الْمَكْرُوهَةُ.
قَوْلُهُ: [مَقَامُ الْأَغْيَارِ] : أَيْ إنَّ صَاحِبَهَا مُنْهَكٌ فِي شُغْلِهِ بِغَيْرِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: [الْإِكْثَارُ مِنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ] : أَيْ حَتَّى تَمْتَزِجَ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ مَعَ الْخُرُوجِ عَنْ كُلِّ هَوًى كَمَا قَالَ الْعَارِفُ الْبَكْرِيُّ:
وَاخْرُجْ عَنْ كُلِّ هَوًى أَبَدًا
فَالْإِكْثَارُ مِنْهَا يُورِثُ التَّوْبَةَ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُلُهُ مِنْهَا إلَى اللَّوَّامَةِ وَلِذَلِكَ كَانَ الْجُنَيْدُ إذَا جَاءَهُ الْعُصَاةُ يَأْخُذُونَ عَنْهُ الطَّرِيقَ لَا يَقُولُ لَهُمْ تُوبُوا بَلْ يَأْمُرُهُمْ بِالْإِكْثَارِ مِنْهَا.
قَوْلُهُ: [مَقَامُ الْحُجُبِ النُّورَانِيَّةِ] : أَيْ وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ حُبِّهَا الطَّاعَاتِ لِأَغْرَاضٍ تَعُودُ عَلَيْهَا فَلِذَلِكَ كَانَتْ حُجُبًا وَلَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْوُقُوعِ فِي الْمَعْصِيَةِ
الْإِكْثَارُ مِنْ اسْمِهِ تَعَالَى: " اللَّهُ ".
وَأَنَّ الْمُلْهَمَةَ: الَّتِي أُلْهِمَتْ فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا مَقَامُهَا مَقَامُ الْأَسْرَارِ، صَاحِبُهَا نَشْوَانُ، يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْمَحَبَّةُ وَالْهَيَمَانُ وَالتَّوَاضُعُ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْخَلْقِ وَالتَّعَلُّقُ بِالْحَقِّ، يُنَاسِبُهُ كَثْرَةُ اسْتِعْمَالِ اسْمِهِ تَعَالَى " هُوَ " بِالْمَدِّ؛ لِتَخَلُّصٍ مِنْ وَرْطَتِهَا وَأَنَّ الرَّاضِيَةَ كَثِيرَةُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَالتَّسْلِيمِ مَقَامُهَا مَقَامُ الْوِصَالِ صَاحِبُهَا غَرِيقٌ فِي السُّكْرِ يُنَاسِبُهُ الْخَلْوَةُ وَكَثْرَةُ ذِكْرِ اسْمِهِ تَعَالَى:" الْحَيُّ " لِيُحْيِيَ بِهِ نَفْسَهُ. وَأَنَّ النَّفْسَ الْمَرَضِيَّةَ صَاحِبُهَا لَا يَرَى صُدُورَ الْأَفْعَالِ إلَّا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مَقَامَهَا مَقَامُ تَجَلِّيَاتِ الْأَفْعَالِ، فَلَا يُمْكِنُهُ الِاعْتِرَاضُ عَلَى أَحَدٍ، حَسَنُ الْخُلُقِ، يَتَلَذَّذُ بِالْحَيْرَةِ، كَمَا قِيلَ:
زِدْنِي بِفَرْطِ الْحُبِّ فِيك تَحَيُّرًا
…
وَارْحَمْ حَشَا بِلَظَى هَوَاك تَسَعُّرَا
وَيُنَاسِبُهُ كَثْرَةُ ذِكْرِ اسْمِهِ تَعَالَى: " قَيُّومٌ ". وَأَنَّ النَّفْسَ الْكَامِلَةَ مَقَامُهَا مَقَامُ تَجَلِّيَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ يُنَاسِبُهَا كَثْرَةُ ذِكْرِ اسْمِهِ تَعَالَى: " قَهَّارٌ " لِيَحْصُلَ لَهَا تَمَامُ الْقَهْرِ وَيَزُولَ عَنْهَا بَقَايَا النَّقْصِ وَحَالُهَا الْبَقَاءُ بِاَللَّهِ، تَسِيرُ بِاَللَّهِ إلَى اللَّهِ، وَتَرْجِعُ مِنْ اللَّهِ إلَى اللَّهِ، لَيْسَ لَهَا مَأْوَى سِوَاهُ عُلُومُهَا مُسْتَفَادَةٌ مِنْ اللَّهِ كَمَا قِيلَ: وَبَعْدَ الْفَنَا بِاَللَّهِ كُنَّ كَيْفَمَا تَشَاءُ فَعِلْمُك لَا جَهْلٌ وَفِعْلُك لَا وِزْرُ
ــ
[حاشية الصاوي]
وَإِنْ كَانَ يَكْرَهُهَا فَلِذَلِكَ كَانَ كَثِيرَ التَّوْبَةِ وَيُسَمَّى تَوَّابًا وَهُوَ مَمْدُوحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222] لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2] .
قَوْلُهُ: [الْإِكْثَارُ مِنْ اسْمِهِ تَعَالَى اللَّهِ] : أَيْ لِأَنَّهُ الِاسْمُ الْجَامِعُ وَإِنَّمَا طَلَبَ الْإِكْثَارَ مِنْهُ مُجَرَّدًا؛ لِأَنَّ ظُلْمَةَ الشِّرْكِ وَمَا أُلْحِقَ بِهِ قَدْ أُزِيلَتْ عَنْ قَلْبِهِ.
قَوْلُهُ: [وَأَنَّ الْمُلْهَمَةَ] : أَيْ الَّتِي مَدَحَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7]{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8]{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] أَيْ طَهَّرَهَا مِنْ الذُّنُوبِ وَشَهَوَاتِهَا وقَوْله تَعَالَى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10] مَعْنَاهُ دَسَّهَا بِالْمَعَاصِي وَأَلْبَسَهَا بِهَا.
قَوْلُهُ: [يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْمَحَبَّةُ] إلَخْ: تَفْسِيرٌ لِنَشْوَانَ.
قَوْلُهُ: [مَقَامُ الْوِصَالِ] : أَيْ الْحُضُورُ مَعَ رَبِّهِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ.
قَوْلُهُ: [كَمَا قِيلَ زِدْنِي] إلَخْ: الْقَائِلُ لَهُ سَيِّدِي عُمَرُ بْنُ الْفَارِضِ.
قَوْلُهُ: [كَمَا قِيلَ وَبَعْدَ الْفَنَا] إلَخْ: الْقَائِلُ لَهُ سَيِّدِي مُحَمَّدُ بْنُ وَفَا.
(اهـ بِاخْتِصَارٍ وَتَصَرُّفٍ) .
وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَ مَنْ قَالَ: الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ وَاحِدَةٌ تَخْتَلِفُ بِالصِّفَاتِ، قَالَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ سَيِّدِي الشَّيْخُ مُحَمَّدٍ الْأَمِيرِ: وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَغْلَطُ فَيَقُولُ: إنَّ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ السَّبْعَةِ مِنْ خُصُوصِ طَرِيقِ الْخَلْوَتِيَّةِ، كَيْفَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] : وَقَالَ الْمُصَنِّفُ رضي الله عنه فِيهَا: وَاعْلَمْ أَنَّ طَرِيقَ أَهْلِ الْحَقِّ مَدَارُهَا عَلَى الصِّدْقِ وَرَأْسُ مَالِهَا الذُّلُّ وَنِهَايَتُهَا الْفَرْقُ، وَقَالَ الْعَارِفُونَ: حُكْمُ الْقُدُّوسِ أَنْ لَا يَدْخُلَ حَضْرَتَهُ أَرْبَابُ النُّفُوسِ كَثْرَةُ الْكَلَامِ تُوجِبُ عَدَمَ الِاحْتِرَامِ، كَثْرَةُ مُصَاحَبَةِ النَّاسِ تُوجِبُ الْإِفْلَاسَ، لَا يَتَطَهَّرُ مِنْ الرَّعُونَاتِ إلَّا مَنْ خَالَفَ نَفْسَهُ فِي الشَّهَوَاتِ، وَذَكَرَ اللَّهَ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ،
ــ
[حاشية الصاوي]
قَوْلُهُ: [اهـ بِاخْتِصَارٍ وَتَصَرُّفٍ] : أَمَّا الِاخْتِصَارُ فَقَدْ حَذَفَ جُمْلَةً مِنْ الْكَلَامِ وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى بَعْضِهَا وَأَمَّا التَّصَرُّفُ فَبِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي بَعْضِ الْعِبَارَاتِ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لِنَقْلِهَا.
قَوْلُهُ: [وَهَذَا لَا يُنَافِي] : أَيْ بَلْ هُوَ عَيْنُهُ لِأَنَّ الْأَقْسَامَ الْمَذْكُورَةَ لِصِفَاتِهَا لَا لَهَا.
قَوْلُهُ: [الْمُحَقِّقُونَ] إلَخْ: مَقُولُ الْقَوْلِ.
قَوْلُهُ: [قَالَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ] إلَخْ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ أَنَّ طَرِيقَ الْخَلْوَتِيَّةِ فَتْحُهَا مَقْصُورٌ عَلَى تِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْأَسْمَاءُ مَقْصُورَةً عَلَيْهِمْ، وَقَدْ أَجَابَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ الْمَذْكُورُ بِهَذَا الْجَوَابِ فُسُوقُ بَحْثِهِ مِنْ غَيْرِ جَوَابٍ غَيْرُ مُنَاسِبٍ.
قَوْلُهُ: [فِيهَا] : أَيْ التُّحْفَةِ.
قَوْلُهُ: [وَنِهَايَتُهَا الْفَرْقُ] : أَيْ وَالْجَمْعُ فَمَعْنَى الْفَرْقِ شُهُودُ الْعَبْدِ لِصُنْعِهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى الْجَمْعِ شُهُودُهُ لِرَبِّهِ وَيُسَمَّى بِمَقَامِ الْبَقَاءِ وَمَقَامِ الْكَمَالِ.
قَوْلُهُ: [حُكْمُ الْقُدُّوسِ] إلَخْ: أَيْ أَخْذًا مِنْ الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ فِي مُنَاجَاةِ دَاوُد عليه السلام: " قَالَ كَيْفَ الْوُصُولُ إلَيْك يَا رَبِّ؟ قَالَ خَلِّ نَفْسَك وَتَعَالَ ".
قَوْلُهُ: [تُوجِبُ الْإِفْلَاسَ] : أَيْ كَمَا قَالَ الْعَارِفُ الْبَكْرِيُّ:
فَإِنَّ مِنْ عَلَامَةِ الْإِفْلَاسِ
…
كَوْنُ الْفَتَى يَأْلَفُ قُرْبَ النَّاسِ
فَإِنَّ جَمْعَهُمْ يَضُرُّ بِالْوَلِيِّ
…
فَكَيْفَ مَنْ يَحْجُبُهُ جَهْلًا مَلِيِّ
قَوْلُهُ: [مِنْ الرَّعُونَاتِ] : أَيْ الطَّبَائِعِ الشَّهْوَانِيَّةُ.
مَنْ لَمْ يُحْرِقْ الْبِدَايَةَ لَمْ تُشْرِقْ لَهُ نِهَايَةٌ، مَنْ لَمْ يُخَالِفْ النَّفْسَ وَالشَّيْطَانَ لَمْ يَتَحَقَّقْ بِصِفَاتِ أَهْلِ الْعِرْفَانِ، مَنْ لَمْ يَكُنْ عَبْدًا لِلرَّحْمَنِ فَهُوَ عَبْدٌ لِلشَّيْطَانِ، فَانْظُرْ أَيَّهُمَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ (اهـ بِاخْتِصَارٍ) . وَقَصَدْت بِنَقْلِ ذَلِكَ التَّبَرُّكَ، لَعَلَّ الْجَوَادَ الْكَرِيمَ يَنْفَحُنَا بِحُبِّهِمْ. {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر: 28] لِرُؤْيَتِهِ تَعَالَى وَمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ مِمَّا لَا يَتَنَاهَى مِنْ الْإِكْرَامِ، وَقِيلَ: إلَى صَاحِبِك وَهُوَ الْجَسَدُ عَلَى أَنَّ النِّدَاءَ عِنْدَ الْبَعْثِ. {رَاضِيَةً} [الفجر: 28] بِمَا أَعْطَاك رَبُّك. {مَرْضِيَّةً} [الفجر: 28] رَضِيَ رَبُّك عَلَيْك.
{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] الصَّالِحِينَ الْمُصْطَفَيْنَ. {وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 30] . فِي الْحَدِيثِ: «أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ
ــ
[حاشية الصاوي]
قَوْلُهُ: [مَنْ لَمْ يَحْرُقْ الْبِدَايَةَ] : أَيْ إذَا لَمْ يُجَاهِدْ فِي بِدَايَتِهِ فَيَخْرُجُ عَنْ كُلِّ هَوًى لَمْ تَظْهَرْ لَهُ أَنْوَارٌ فِي النِّهَايَةِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ صَاحِبِ الْحِكَمِ ادْفِنْ وُجُودَك فِي أَرْضِ الْخُمُولِ فَمَا نَبَتَ مِمَّا لَمْ يُدْفَنْ لَمْ يَتِمَّ نِتَاجُهُ.
قَوْلُهُ: [عَلَى أَنَّ النِّدَاءَ عِنْدَ الْبَعْثِ] : أَيْ وَأَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ فَعَلَى أَنَّ النِّدَاءَ عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ الْبَعْثِ.
قَوْلُهُ: {رَاضِيَةً} [الفجر: 28] إلَخْ: أَيْ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 8] .
قَوْلِهِ: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] : أَيْ وَقْتَ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا حُشِرَ مَعَهُمْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] الْآيَاتُ وَقَالَ تَعَالَى: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [الزخرف: 68] وَالْإِضَافَةُ لِلتَّشْرِيفِ وَإِلَّا فَالْكُلُّ عِبَادُهُ.
قَوْلُهُ: {وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 30] : أَيْ مَعَ الصَّالِحِينَ وَلِأَهْلِ الْإِشَارَاتِ تَفَاسِيرُ مِنْهَا أَنَّ اللَّهَ يُنَادِيهَا فِي الدُّنْيَا بِهَذَا النِّدَاءِ حَيْثُ اتَّصَفَتْ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ يَقُولُ لَهَا يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلَى رَبِّك بِفَنَائِك عَمَّا سِوَاهُ، رَاضِيَةً بِأَحْكَامِهِ، مَرْضِيَّةً لَهُ بِأَوْصَافِك، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي الصَّالِحِينَ أَيْ فَكُونِي مَعْدُودَةً فِيهِمْ
الْحَامِدُونَ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ» . (دَارُ السَّلَامِ) : السَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ مَخُوفٍ مَصْحُوبَةٍ (بِسَلَامٍ) أَمْنٍ مِنْ كُلِّ مُكَدِّرٍ. {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس: 10] أَيْ كَلَامُهُمْ أَوْ دُعَاؤُهُمْ فِي الْجَنَّةِ وَالتَّسْبِيحُ تَنْزِيهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ يَتَلَذَّذُ بِهِ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَفِي الْحَدِيثِ: «يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ» وَوَرَدَ: «إذَا أَرَادُوا طَعَامًا قَالُوا سُبْحَانَك اللَّهُمَّ فَيُحْمَلُ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ عَلَى الْمَوَائِدِ، كُلُّ مَائِدَةٍ مِيلٌ فِي مِيلٍ، عَلَى كُلِّ مَائِدَةٍ سَبْعُونَ أَلْفَ صَحْفَةً فِي كُلِّ صَفْحَةٍ لَوْنٌ
ــ
[حاشية الصاوي]
وَمَحْسُوبَةً مِنْهُمْ، وَادْخُلِي جَنَّتِي شُهُودِي فِي الدُّنْيَا مَا دُمْت فِيهَا وَهِيَ الْجَنَّةُ الْمُعَجَّلَةُ، وَيُقَالُ لَهَا عِنْدَ الْبَعْثِ ذَلِكَ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمُتَقَدِّمِ وَيُرَادُ جَنَّةُ الْخُلُودِ وَفَسَّرُوا بِذَلِكَ
قَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] أَيْ جَنَّةُ الشُّهُودِ فِي الدُّنْيَا الَّتِي قَالَ فِيهَا ابْنُ الْفَارِضِ:
أَنِلْنَا مَعَ الْأَحْبَابِ رُؤْيَتَك الَّتِي
…
إلَيْهَا قُلُوبُ الْأَوْلِيَاءِ تُسَارِعُ
وَجَنَّةُ الْخُلْدِ فِي الْعُقْبَى وَهَذَا النِّدَاءُ الْوَاقِعُ فِي الدُّنْيَا يَسْمَعُهُ الْعَارِفُونَ إمَّا فِي الْمَنَامِ أَوْ بِالْإِلْهَامِ.
قَوْلُهُ: [دَارُ السَّلَامِ] إلَخْ: قَالَ تَعَالَى: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 127] وَقَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] فَالْحُسْنَى هِيَ الْجَنَّةُ وَالزِّيَادَةُ هِيَ رُؤْيَةُ وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ.
قَوْلُهُ: [أَوْ دُعَاؤُهُمْ فِي الْجَنَّةِ] : أَيْ طَلَبُهُمْ لِمَا يَشْتَهُونَهُ مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ فِي الْجَنَّةِ.
قَوْلُهُ: [وَفِي الْحَدِيثِ: «يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ» ] : أَيْ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ كَمَا فِي أَصْلِ الرِّوَايَةِ.
قَوْلُهُ: [وَوَرَدَ إذَا أَرَادُوا طَعَامًا] إلَخْ: الْمُنَاسِبُ التَّفْرِيعُ بِالْفَاءِ؛ لِأَنَّهُ مَعْنَى الْآيَةِ.
قَوْلُهُ: [فَيُحْمَلُ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ] : أَيْ يُوضَعُ لَهُمْ عَلَى الْمَوَائِدِ.
قَوْلُهُ: [فِي كُلِّ صَحْفَةٍ لَوْنٌ] : أَيْ لَا يُشْبِهُ بَعْضُهَا لَوْنَ الْآخَرِ كَمَا فِي الرِّوَايَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ اشْتِغَالُ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِالتَّسْبِيحِ
فَإِذَا فَرَغُوا قَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ»
. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» . وَفِي الْعَيَّاشِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ ذَنْبٍ وَلِوَالِدِيهِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ ذَنْبٍ» . {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [يونس: 10] يُحَيِّيهِمْ اللَّهُ وَالْمَلَائِكَةُ وَبَعْضُهُمْ بَعْضًا قَالَ تَعَالَى {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} [الواقعة: 25]{إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة: 26]{وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ - سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23 - 24] .
ــ
[حاشية الصاوي]
وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّقْدِيسِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَفِي هَذَا الذِّكْرِ سُرُورُهُمْ وَابْتِهَاجُهُمْ وَكَمَالُ لَذَّاتِهِمْ وَهَذَا أَوْلَى. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَهْلُ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ وَلَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَمْتَخِطُونَ قَالُوا فَمَا بَالُ الطَّعَامِ؟ قَالَ جُشَاءٌ وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ» (اهـ خَطِيبٌ)
قَوْلُهُ: [فَإِذَا فَرَغُوا قَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ "] : أَيْ قَالُوا: " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] فَتُرْفَعُ حِينَئِذٍ.
قَوْلُهُ: [وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ] : كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَتِهَا أَيْ تُغْفَرُ وَلَوْ كَثُرَتْ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَلَوْ كَانَتْ كَبَائِرَ لَكِنْ قَيَّدَهُ الْعُلَمَاءُ بِغَيْرِ الْكَبَائِرِ لِأَنَّ الْكَبَائِرَ لَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ.
قَوْلُهُ: قَالَ تَعَالَى {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] : دَلِيلٌ لِسَلَامِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة: 26] : دَلِيلٌ لِسَلَامِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَقَوْلُهُ: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 23] إلَخْ: دَلِيلٌ لِسَلَامِ الْمَلَائِكَةِ فَهُوَ لَفٌّ وَنَشْرٌ مُلَخْبَطٌ وَقَدْ وَرَدَ: " إنَّ الْمَلَائِكَةَ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْقُصُورِ بِهَدَايَا مِنْ التُّحَفِ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ "