الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن صعود جيش المسلمين إلى الجبل بعد أن أبعدهم المشركون فيصل بين الاضطراب في جيش المؤمنين، وبين إعادة الخطة، والسير على المنهاج من غير اضطراب، وحامل اللواء على كرم الله وجهه، ولذا أخذوا يضربون أقوى في المشركين بقيادة خالد بن الوليد، وينتصفون منهم، وقد زال عنهم وعث الجروح، وانتظم جيش النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذلك أنهوا القتال وشيكا، ولم يستمروا خشية أن تدور عليهم الدائرة كما ابتدأ المسلمون يحسونهم بإذنه.
فرحة أبى سفيان بالنصر القريب
427-
أنهى أبو سفيان الحرب فرحا، راضيا بما وصل إليه، وإن لم يكن نصرا لهم وسحقا للمسلمين، ولكنه أدرك الثأر وكفى، والوقائع أقنعته بأن يكتفى بذلك، حتى لا يضيع من يده ما أخذ، وهو أنه ثأر، وأخذ ترته، وكفاه ذلك، ولم يقتلع المدينة المنورة، ولم يستطع أن يمنع أسباب مصادرة ماله وعيره، ولكن وقف يفاخر بما وصل إليه، وينادى المؤمنين، يقول:
أفى الجيش محمد؟ أفى القوم محمد؟ أفى القوم محمد؟ نادى ثلاثا، فنهاهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال: أفى القوم ابن أبى قحافة؟ أفى القوم ابن أبى قحافة؟ ثم قال: أفى القوم ابن الخطاب، ثم أقبل على أصحابه، قال: أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم فما ملك عمر نفسه فقال: كذبت والله يا عدو الله، إن هؤلاء لأحياء كلهم، وقد بقى لك ما يسوءك. فقال:
يوم بيوم بدر والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها، ولم تسؤنى.
ثم أخذ يرتجز فرحا: اعل هبل، اعل هبل.
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ألا تجيبونه؟ قالوا: يا رسول الله وما نقول؟ قال قولوا:
الله أعلى وأجل، قال إن لنا العزى، ولا عزى لكم. قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:
ألا تجيبونه؟! قالوا يا رسول الله فما نقول؟ قال قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم.
وصف المعركة في القرآن الكريم
428-
وصف القرآن الكريم المعركة وصفا دقيقا، ووصف نفوس جيش النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وخصوصا الذين كانوا يطلبون المال في المعركة، وآثارهم فيها، فقال الله سبحانه وتعالى:
«هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ. وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها
بَيْنَ النَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ. وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ، فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ. وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا، وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (آل عمران- 138: 145) .
هذه الآيات الكريمات تصور النتيجة التى انتهت إليها المعركة بالنسبة لما أصاب المسلمين من قرح، وأنه كان اختبارا للمؤمنين ليتميز المجاهدون الصابرون من الضعفاء المترددين، كما أشرنا في وصف الجيش.
وفي النص الكريم ما يشير إلى حقائق ثابتة، ومنها أن الإصابة مرة لا يصح أن تحدث الوهن والحزن، فهما يولدان اليأس من رحمة الله، وليس اليأس من شأن أهل الإيمان، فإنه لا يبأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
ومنها أن القياس بالمماثلة بين ما أصابهم في الماضى، وما أصاب المؤمنين يريح النفوس، وقانون الحياة الذى سنه الله تعالى في الوجود المداولة، حتى يكون النصر النهائى، وما النصر إلا من عند الله العلى الحكيم.
ومنها بيان أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن كان صاحب الرسالة لا يصح أن يكون موته أو قتله منهيا لدعوته، بل على المؤمنين من بعده ألا ينقلبوا خاسرين، وعليهم أن يتحملوا الرسالة ويبلغوها للناس ويجاهدوا في سبيلها غير وانين ولا مقصرين.
هذه حال المسلمين في أعقاب المعركة والعبرة فيها.
ولقد وصف الله سبحانه وتعالى المعركة في ابتدائها، ووسطها وما أصاب النفس المحاربة، إن كانت مترددة، والنفس إن كانت مجاهدة، وبين سبحانه وتعالى سبب العجز، فقال تعالت كلماته: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ، حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ، وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ، وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ، فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ، لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ، وَلا ما أَصابَكُمْ، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ. ثُمَّ أَنْزَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ، وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ، يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ، يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا، قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ، وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ، وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا، وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (آل عمران- 152: 155) .
ونرى في هذه الآيات الكريمات وصفا دقيقا للمعركة، ووصفا للنفوس بينه العالم بما في الصدور.
ونرى الآيات تبين ابتداء المعركة، وقد كان فيها جيش الإيمان يحس الشرك بأن يصيب حسه، وإصابة الحس قتل الأنفس. وإزالة عنصر الحياة فيها، بإزالة الحس الذى هو مظهر.
ويجيء من بعد ذلك الخلاف حول الغنائم، بسبب التردد بين أخذها وبين تركها، وفي الأولى عصيان القائد الأعظم، وفي الثانية عصيان النفس، وطاعة القائد هو أولى بها، وإن كل تنازع عجز، ولذا بين القرآن الكريم أن ذلك فشل ذريع، ثم غلب بعد ذلك العصيان.
وانبثق في هذا الخلاف ما تكن النفوس، فكان منها من يريد الدنيا، وهم الذين تبعوا الغنائم، وأخلوا بالصفوف، وصرف الله تعالى جيشه الذى كان موحدا في الظاهر، لتكون تلك الجراح، والمقتلة التى أصابت المسلمين.
وصور الله تعالى المعركة في انتصارها وكبوتها، إذ هم يصعدون، والرسول عليه الصلاة والسلام يدعوهم في أخراهم.
ثم من بعد ذلك كانت الحسرة، فلم ينالوا مالا، ولم يحافظوا نفسا، وأصابهم غم شديد، بل أصابهم غمان. غم بسبب ضياع الأنفس وضياع المال إذ تعجلوا قبل ميقاته، وغم إذ نالهم، وأحسوا بما كان منهم، فلا يحزنون على مال فاتهم، ولا جروح أصابتهم، إنما هو الغم والغم إنزال غمة بالنفس، تكون منها في ظلام لا يرى ما وراءه، ويصيب النفس بالإعياء المرهق كدا وحسرة.
وإن ذلك كان عاما لمن كان يريد الدنيا، ومن كان يريد ما عند الله، وقد خص الذين يريدون ما عند الله تعالى بعد الغم المتوالى، غما بعد غم، كان الاطمئنان والرضا بما كان مستفيدين من العبر، وكان مظهر هذا الاطمئنان النعاس الذى لا يكون إلا من قرار نفس، واطمئنان حاضر، ورضا بما قدر الله تعالى،