الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللقاء
462-
أقبلت قريش ومن معها من كنانة وتهامة والأحباش وكانوا في عدد كبير بلغ آلافا منهم وممن معهم ونزلوا في أسيال رومة بين مكانين أحدهما اسمه الجرف، والآخر اسمه زغابة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، ونزلوا عند أحد. وكان عدد قريش أربعة آلاف، وعدد من معهم ستة آلاف، وكانت لهم قيادات مختلفة، فكان يقود قريشا أبو سفيان بن حرب، وكانت غطفان بقيادة عيينة بن حصن وكان ثمة قواد يقودون أعدادا ليست بالكبيرة نسبيا، فكانت أشجع بقيادة مسعود ابن رخيلة وعددهم أربعمائة، وكانت سليم يقودهم سفيان بن عبد شمس، وعددهم سبعمائة.
لم تكن لهؤلاء قيادة موحدة ترسم الخطة، ويتبعها الجميع، وإن جعل كل قيادة علي قومها يتولي القوم رجل منهم، وقد يكون ذلك مفيدا في ذاته، ولكن يجب أن تكون ثمة قيادة عامة ترسم للجميع.
ومهما يكن فهم لم يختلفوا لأنهم جاؤا إلي المدينة، فلم يجدوا ما يمكنهم من الهجوم جميعا أو متفرقين، وما كان سبب الهزيمة التى منوا بها بنصر الله للمؤمنين بالريح والرعب.
ولقد جاؤا إلي المدينة يحسبون أنهم يغيرون عليها، وليفرقوا أو يقضوا عليهم ويسبوا نساءها، لقد جاؤا بعد ما تم حفر الخندق.
فوجئوا بأنهم لا قبل لهم بأن يدخلوا المدينة، فوجئوا بالخندق يحول بينهم وبين أن يقتحموا جند المؤمنين، ولم يكن لهم عهد بمثله، ورأوا كيدا لم يكن بتدبير عربي، بل بعقل آخر، وبذلك لم يروا أن مهمة القضاء علي محمد وأصحابه سهلة، إنها تحتاج إلي تدبير آخر غير ما دبروا، وأن يدخلوا إلي المدينة من غير هذا المكان. فإنه لا يمكن أن يدخل منه جند كثيف كعددهم.
عندئذ تحرك حيي بن أخطب الذي جمع متفرقهم، وإن لم يكونوا مندمجين موحدين في قيادتهم، وإنه إذا نجح في تحريضهم، لا يمكن أن يتخاذل عن أن يضم إليهم بنى قريظة، وقد كانوا يتمنون الغوائل للمؤمنين. ويريدون الوبال لهم، وربما كان لهم سعي في الحركة، وإن لم يكن ظاهرا، تسلل إليهم حيي ليكونوا وراء المؤمنين، وقد يحيط الجميع بهم، وليجدوا منفذا إلي المدينة عن طريقهم، ويعملوا معهم، ويكون المشركون من فوقهم، وبنو قريظة من أسفلهم.
لم يكن بنو قريظة ممن يغامرون وكانوا حريصين علي الحياة كشأن اليهود كما قال تعالى فيهم «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ» (البقرة- 96) .
دخل حيي بن أخطب علي كبيرهم كعب بن أسد القرظي، الذي وادع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم علي قومه وعاهده، وقد رده ابتداء ردا عنيفا، وقال له: إنك امرؤ مشئوم، وإني قد عاهدت محمدا، فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا، وبعد أن عرض بشجاعته، فتح له الباب.
ولننقل لك الحديث لتعرف ما كانت تجري به الأمور، وما كان يسري في النفوس.
قال حيي: ويحك يا كعب، جئتك بعز الدهر، وببحر طام، جئتك بقريش علي قادتها وسادتها حتي أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة، وبغطفان علي قادتها وسادتها حتي أنزلتهم علي جانب أحد، قد عاهدونى وعاقدوني علي ألا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه.
قال له كعب: جئتني والله بذل الدهر، وبجهام قد هراق ماؤه (أي بسحاب قد نزل ماؤها) فإني لم أر من محمد إلا وفاء وصدقا.
فلم يزل حيي يتحايل بالقول، ويفتل بالذروة والغارب حتي سمع له واستجاب لما يطلب، وبذلك كشف طبع اليهودي، فهو لا يفي بعهد شرفا وكرامة ولكن يفي مضطرا خوف الذل والمهانة، ولذلك وافق عند ما أقنعه بأن القوة مع قريش، وأمنه علي مستقبله، فأعطاه عهدا وأعطاه ميثاقا قائلا له: لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك، حتي يصيا بني ما أصابك.
اطمأن كعب، فنقض العهد. وهو من شيمته، وما كان التمسك إلا حرصا منه علي نفسه، وخوفا عليها، فأتاه الشيطان من ناحية نفسه، فاقتنع، والعداوة فيه أصيلة.
ولذلك سرعان ما انضمت قريظة إلي الأحزاب التي جاءت من المدينة وكان ذلك فيما بينهم وبين حيي، وعمل علي أن يبلغه لقريش ومن معهم.
ولكن وصل الخبر إلي النبي صلي الله تعالى عليه وسلم، وهو الحذر الحريص الذي لا يؤتي من غفلة صلى الله تعالى عليه وسلم.
أراد النبي صلي الله تعالى عليه وسلم أن يستوثق ليكون الخبر كالعيان فأرسل إلي بني قريظة سيد الأوس سعد بن معاذ، وسيد الخزرج سعد بن عبادة ومعهما عبد الله بن رواحة. وقال لهم: انطلقوا حتي تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا، فإن كان حقا فالحنوا إليّ لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا علي الوفاء فيما بيننا فاجهروا به أمام الناس.
ذهبوا إليهم فوجدوهم علي أخبث حال، نالوا من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنكروا العهد وقالوا: لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد، وقالوا منكرين من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم يطق سعد بن معاذ صبرا فشاتمهم وشاتموه، وقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فما بيننا وبينهم أدني من المشاتمة.
عاد السعدان إلي رسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم، وذكرا لرسول الله صلي الله تعالى عليه وسلم غدرهم، ولكن بلحن القول، لا بصريحه حتى لا يفت ذلك في أعضاد المسلمين.
463-
جاء المشركون من أعلي واليهود من أسفل، والمنافقون في داخل المسلمين يقولون ويوهنون العزائم، ويضعون في النفوس روح التردد والهزيمة والنفاق، وزلزلت قلوب ضعفاء المؤمنين، وظنوا بالله الظنون، حتي قال بعض ضعفاء الإيمان قول غير المؤمنين: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن علي نفسه أن يذهب إلي الغائط، ووجد من يستأذن في التخلف من أولئك الضعاف في إيمانهم، حتى قال بعضهم: يا رسول الله، إن بيوتنا عورة من العدو، وذلك علي ملأ من رجال قومه، فأذن لنا أن نرجع إلي دارنا.
وإن أبلغ التصوير للنفوس في هذا الهول هو كلام الله تعالى عن الأحزاب وآثارهم، فيصف ما في الأنفس العليم بذات الصدور، يقول سبحانه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ، وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا.
هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ، يا أَهْلَ يَثْرِبَ، لا مُقامَ لَكُمْ، فَارْجِعُوا، وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ، يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ، وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ، إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً. وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها، وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً. وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا. قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ، وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا. قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً، وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ، وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا. أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ، أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ، أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً. يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ، وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا. لَقَدْ
كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً. وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً.
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (الأحزاب- 9: 27) .
هذا أدق وصف لحال النفوس في ذلك الهول، فهل وهنت إرادة النبي صلي الله تعالى عليه وسلم أوضعفت عزيمته، بل كان يؤمن بنصر الله تعالى ويدبر الأمور، ويأخذ الأهبة بعزم الرسول، وهو من أولي العزم من الرسل، فضرب المثل لمن معه من المؤمنين.
464-
تقدم للميدان بثلاثة آلاف من المقاتلين، وأمر بالذراري والنساء أن تكون في أطم، أي مبان متينة تكون كالحصون لكيلا يكونوا تحت عين بني قريظة، ولكيلا يكون المجاهدون في فزع علي نسائهم وذريتهم ولكيلا يصيبوا منهم غرة.
وإن النبي صلي الله تعالى عليه وسلم وضع حراسة علي المدينة خشية أن ينقضوا عليها، فأقام سلمة بن أسلم علي مائة من الرجال، وأقام زيد بن حارثة علي ثلاثمائة أخري لحراسة المؤمنين من اليهود.
وذلك كله حذرا من المشركين، وكان لا بد من اتخاذ المكيدة، والحرب مكيدة وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (الأنفال- 30) . فأراد عليه الصلاة والسلام أن يخذل المشركين بعضهم عن بعض بإثارة الطمع في بعضهم، فيتخلون عن باقيهم، فأراد أن يطمع غطفان ومن معها من نجد، فأرسل إلي عيينة بن حصن وإلي الحارث بن عوف بن أبي حارثة من قوادهم، فطلب إليهما المصالحة علي أن يأخذوا ثلث ثمار المدينة، فقبلوا ذلك طمعا منهم، وأن يعودوا، وكتبوا الكتاب من جانبهم ولم يكن من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم شهادة ولا عزيمة صلح، لأنه لا يمكنه أن يعزم ذلك من غير مشورة أهل الثمار، فلما عرض عليهم من بعد أن جاء الكتاب، وكان ذلك العرض أن بعث إلى سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج، فذكر لهما ذلك، واستشارهما.
قالا له: يا رسول الله، أمر تحبه فتصنعه أم شيء أمرك الله به لا بد لنا من العمل به؟ قال صلي الله تعالي عليه وسلم: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك، إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم إلي أمر ما.
قال سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء علي الشرك بالله، وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا شراء أو بيعا، أفحين أكرمنا الله تعالى بالإسلام، وهدانا إليه، وأعزنا به وبك تعطيهم أموالنا، والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فأنت وذاك. فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب، وبذلك انتهت إرادة الصلح، إن كانت.
وقد أفاد عرض الصلح أمرين عظيمين.
أولهما: أن النبي صلي الله تعالى عليه وسلم علم عزمة أصحابه، وأنهم يريدون لقاءهم.
ثانيهما: أن ذلك أطمع غطفان ومن معها من القبائل، والطمع إذا سكن حل العزيمة وقد ترتب علي ذلك الإطماع، أنهم تململوا بطول الحصار وجري بينهم وبين القرشيين خلاف، وهموا أن يعودوا من حيث جاؤا من غير أن ينالوا شيئا.
465-
بهذا العرض خذل النبي صلي الله تعالى عليه وسلم بين قريش وبين من جاؤا بهم من الأعراب، وبقي أن يخذل بين اليهود وبين المشركين، وساق الله تعالى إليه من رضي بأن يكون لسان ذلك التخذيل.
فقد أتي رجل من غطفان هو نعيم بن مسعود وقال: يا رسول الله إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال صلي الله تعالى عليه وسلم: إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة.
خرج نعيم بن مسعود حتى أتي بني قريظة وكان لهم نديما في الجاهلية فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون علي أن تجلوا منه إلي غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاؤا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فإن رأوا نهزة أصابوها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم، وخلوا بينكم وبين الرجل، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم،
حتي تأخذوا منهم رهناء من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم علي أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه.
قالوا: لقد أشرت بالرأى.
كان هذا تنبيه صدق لبني قريظة، وإن كان القصد تخذيلهم عن قريش، ولم يكن كاذبا.
ذهب من بعد إلي أبي سفيان بن حرب قائد قريش، وقال: عرفتم ودى لكم، وفراقي محمدا، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت عليّ حقا أن أبلغكموه نصحا لكم، فاكتموا عني! فقالوا: نفعل، قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا علي ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وأرسلوا إليه، إنا قد ندمنا علي ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم، فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك علي ما يبقي فنستأصلهم، فأرسل إليهم أن نعم، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا، فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا.
ثم خرج إلي غطفان فقال لهم مثل ما قال لقريش.
بعد هذا التحذير من ذلك المسلم التقي المدرك، أرسل أبو سفيان عكرمة بن أبي جهل يستنهض قريظة للقتال وقال لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك منا الخف والحافر، فاغدوا للقتال حتي نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه، وكان اليوم يوم سبت، فاعتذروا، وقالوا: لا نعمل فيه شيئا، وكان بعضنا قد أحدث فيه حدثا، فأصابه ما لم يخف عليكم
…
ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا، حتي تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا، حتي نناجز محمدا، فإنا نخشي إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال، أن تتشمروا إلي بلادكم وتتركونا، والرجل في بلدنا لا طاقة لنا به، ولا طاقة لنا بذلك منه.
هكذا أدركت قريش أن بني قريظة تريد أن تأخذ لنفسها أمانا من الرجعة فيما تقول، وهي تريد قتلهم، وأدركت قريظة أنهم لا يريدون تأمينها. وبذلك تم ما أريد من التخذيل بينهم، وأشد التخذيل ما يكون بفقد الثقة وأن يتظنن كل فريق.
ولكن الفريقين مع ذلك استمروا في غيهم، فكانوا يبثون العيون علي أطم المسلمين التي بها الذراري والنساء، لينقضوا عليهم، وينالوا من النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه.
فإذا كان للتخذيل أثر، ففي فقد الثقة بين الفريقين، ولكن عداوة النبي صلي الله تعالى عليه وسلم ما زالت تجمع بينهما، فلم تنخلع قريظة عن الإيذاء وإرادة الانقضاض علي بيوت المؤمنين.