الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن هذا يدل على أن الردة توجب القتل، ويصدق عليه قول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:
ودلالة إباحة دم مقيس هذا لقتله قاتل أخيه أو لردته، ولذلك كانت الدلالة احتمالية من حيث تعيين السبب.
إثارة فتنة وإطفاؤها:
492-
فى هذه الغزوة ثارت فتنة، ولكن أطفأها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بحكمته.
ذلك أن الناس كانوا يردون الماء، وفيهم أجير لعمر بن الخطاب يقال جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم أجير عمر هذا مع سنان بن وبر الجهنى حليف بنى عوف من الخزرج فاقتتلا، فصاح الجهنى: يا معشر الأنصار، وصاح أجير عمر: يا معشر المهاجرين.
ولم يجب الأنصار صرخة حليفهم، ولا المهاجرون صرخة أجيرهم، ولكن النفاق استغل ذلك لتكون تارة ثائرة.
غضب عبد الله بن أبى بن سلول زعيم المنافقين مع رهط من رجاله، وكان في مجلسهم زيد ابن أرقم، ولم يكن منافقا بل كان مؤمنا.
قال ابن أبى بن سلول: قد ناقرونا، وكاثرونا في بلادنا والله ما عدنا وجلابيب قريش (أى المهاجرين) إلا كما قال الأوّل: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير دوركم.
سمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأبلغه الخبر بعد فراغه من غزوة عدوه، وكان عنده عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فقال له عمر: مر به عباد بن بشر فليقتله.
قال ذلك عمر بحمية الإيمان، ولكن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو الحليم الذى يعالج النفوس والأمور قال:«فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» ولكن أذن بالرحيل، فارتحل الناس.
فالعلاج إن لم يكن حاسما للفتنة، فهو مانع من أن تتأجج نيرانها، ذلك أن الفتن إذا عرضت للنفوس، وتبادلتها الأقوال، ورددتها الألسنة يكثر القول الذى يلهبها، وإطفاؤها أو تخفيفها يمنع ترديدها، وشغل الناس بغيرها.
فكان الأمر بالرحيل شغلا للناس عنها.
جاء عبد الله بن أبى بن سلول إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ينفى ما نسب إليه، لأن المنافق يستتر دائما، ويمنع أن ينكشف، فإذا بدا بعض أمره حاول إعادة ستره.
قال ساترا كاذبا حالفا: ما قلت ما قال، ولا تكلمات به.
وكان في زعم قومه شريفا عظيما، فقال بعض من حضر من الأنصار من أصحابه حدبا على ابن أبى، أو تخفيفا لوقع الأمر، قال: عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل.
ومهما يكن من الأمر فقد عالج النبى الموقف بشغل الناس بالرحيل قبل ميقاته، حتى لقد قال أسيد بن حضير للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: يا نبى الله لقد رحت في ساعة مبكرة ما كنت تروح فى مثلها.
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أو ما بلغك ما قاله صاحبكم؟ قال: وأى صاحب يا رسول الله؟ قال: عبد الله بن أبى بن سلول. قال: وما قال؟ قال زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال: فأنت يا رسول الله والله تخرجه إن شئت وهو الذليل وأنت العزيز.
ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فو الله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبت منه ملكا.
مشى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصار في صدر ذلك اليوم الثانى حتى آذتهم الشمس.
ويقول في تعليل ذلك ابن إسحاق: وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ليشغل الناس عن الحديث الذى كان بالأمس.
إنه عند ما نزل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن آذتهم الشمس، ومست جنوبهم الأرض حتى ناموا.
وفي النوم لم يذكروا ما كان من خلاف، ولم يحسوا إلا بالتعب، فشغلهم التعب الجسمى عن القلق النفسى، فانطفأت نار هذه الفتنة، لتكون فتنة أشد إيذاء، وأبلغ تأثيرا، وكانت أيضا من النفاق والمنافقين، وشاعت نيرانها، حتى شملت بعض المؤمنين من الأنصار، وبعض المهاجرين من ذى القربى ممن أشيعت حولها الفتنة.
ولقد قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند ما بلغه التنادى يا معشر المهاجرين، ونادى الآخر يا معشر الأنصار، قال النبى: دعوها فإنها منتنة، أى دعوى خبيثة جاهلية، حتى نتنت بقدمها.
وعند ما علم عبد الله بن عبد الله بن أبى، وقد كان مؤمنا قوى الإيمان بما قال أبوه، وما حرض به، مشى إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنه قد بلغنى أنك تريد قتل عبد الله بن أبى فيما بلغك عنه، فإن كنت لابد فاعلا فمرنى، فأنا أحمل إليك رأسه. فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده منى، وإنى أخشى أن تأمر به غيرى فيقتله فلا تدعنى نفسى أنظر إلى قاتل أبى يمشى في الناس، فأقتل رجلا مؤمنا بكافر، فأدخل النار، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بل نرفق به، ونحسن صحبته ما بقى معنا.
وكان لفعله أثر شديد في نفس النبى وإن كان قد عالجه بما كان فيه الوقاية من تفاقمها، فقد كان لها أثر في نفوس المؤمنين، فكان قوم ابن أبى حريصين على منعه من أى فتنة ولومه على كل قول يكون منه بما يدل على قلبه، فكانوا هم الذين يعاقبونه، ويأخذونه فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لعمر بن الخطاب، كيف ترى يا عمر، أما والله لو قتلته يوم قلت لأرعدت أنوف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. فقال عمر رضى الله تعالى عنه مذعنا: قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أعظم بركة من أمرى.
هذا وقد أنزل الله تعالى جزآ من سورة المنافقين في هذا الأمر، فقد قال الله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ. اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ. وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ، وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ، يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ، وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ. سَواءٌ