الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، كما سنرى حرب فاضلة فيها الرفق وفيها الفضيلة، وإن اشتجرت السيوف، وتلاقى الناس بالحتوف، فهى تعلم الناس كيف تكون الفضيلة، والسيوف تقطر دما، وكيف تكون المرحمة في الحرب، وهى في أصلها أمر مكروه في ذاته، فإذا دخلتها الرحمة، فإنها تكون كالنسيم العليل في الحر اللافح، وكالظل في الحرور. وقبل أن نتكلم في غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نتكلم في بيان الفضيلة فيها، وإنا نأخذ ذلك من أوامر القرآن الكريم للمجاهدين وعمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في سيرها وفي انتهائها، وفي وصاياه عليه الصلاة والسلام لجيوشه. وقد كان أصحابه من بعده يتبعونها ويحكمونها غير منحرفين عنها.
الفضيلة في الحرب
353-
إن الرحمة من الفضائل الإنسانية العالية، ورحمة الإسلام ليست انفعالا نفسيا وقتيا.
ولا شفقة أو رأفة شخصية تكون على الفاضل والآثم، والبر والفاجر، بل إن رحمة الإسلام هى الرحمة بالعامة وقد تكون الحرب رحمة بالعامة، بل إنها يجب أن تكون كذلك ما دامت حربا فاضلة، كما تلونا من قبل قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ. فالشفقة على الظالم والامتناع عن الاقتصاص منه ليست من الرحمة في شيء، لأنها تخفى في ثناياها قسوة على المظلوم، ولذلك قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:«من لا يرحم لا يرحم» .
فالحرب الإسلامية شرعتها الرحمة، وأظلتها الرحمة، وأنهتها الرحمة، وإذا كان من الرحمة بجسم الإنسان أن تقطع بعض الأجزاء المئوفة، حتى لا تفسد الجسم، فإن من الرحمة بالناس أن تقطع عناصر الفساد، لأنها تئوف الجماعة، وأن يرد الاعتداء بقطع عناصره لسلامة الناس، وأن يعيشوا آمنين، وكلمة الحق تسرى بينهم ولا محاجزات تحول دون النطق بها.
ولنتكلم في حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، معتمدين على كتاب الله تعالى، وعلى السنة النبوية.
فالباعث عليها. كما نص القرآن الكريم رد الاعتداء على المسلمين، فقد قال تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وقال تعالى:
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (البقرة- 193) وبين سبحانه أن يعامل المعتدون بمثل اعتدائهم. قال تعالى: فَمَنِ
اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وذلك بعد قوله تعالى الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ (البقرة- 194) .
ونجد من هذه النصوص أن ابتداء الاعتداء كان من المشركين، وأنه كان لاعتداء المشركين على الحرية الدينية وفتنة المؤمنين في عقائدهم ليحملوهم على تركها. وإننا إذا أمرنا برد الاعتداء بمثله، طلب منا مع ذلك طلبان جليان آخران وهما: النهى عن الاعتداء، فنهينا عن الاعتداء، والاعتداء بأن نقاتل من لم يبدأنا بالقتال، ولم يمنع الدعوة الإسلامية من السير في طريقها، والطلب الثانى أمرنا بالتقوى، وهو التزام الفضيلة، فإن كانوا يعتدون على الأعراض لا نجاريهم، وإن كانوا يمثلون بالقتلى لا نمثل بقتلاهم كما سنبين إن شاء الله تعالى.
لقد علمنا مما قصصنا من السيرة الطاهرة أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مكث يدعو إلى الإسلام ثلاث عشرة سنة توالى فيها الأذى على المؤمنين، وخصوصا ضعفاءهم، ولم يسلم من أذاهم إلا من يكون ذا بطش يخشى بطشه كعمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب، ومع ذلك لم يسلموا من الأذى تماما، بل كانت سلامتهم نسبية.
ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يسلم من آذاهم، حتى رموا عليه وهو ساجد فرث جزور، حتى لقد هموا بقتله عليه الصلاة والسلام، ليلة الهجرة، وقد هاجر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهاجر من كان عنده قدرة على الهجرة.
ترك المهاجرون ديارهم وأموالهم فرارا بدينهم الذى ارتضوا، والمشركون سادرون في غيهم. وترك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ضعفاء، لا قدرة عندهم على الهجرة، وهم يعذبون أشد العذاب، فهل من مقتضى الرحمة أن يترك هؤلاء يعذبون، ويلقى بهم في المحابس، إنه لا بد من أن يذوق الذين يؤذونهم وبال أمرهم.
وننتهى من هذا ومن النصوص السابقة إلى أن الباعث على الحرب دفع الاعتداء، ومنع الأذى المستمر، وعقوبة الظالمين، وتأمين الدعوة الإسلامية حتى لا تكون فتنة في الدين، ويتبع الناس الدليل، ولم يتبعوا الحكام الذين يرهقونهم ويسومونهم الخسف والهوان.
هذا هو أمر القتال في شبه الجزيرة العربية، الذى ابتدأ في قريش. ثم عمم أجزاءها عند ما اجتمعت القبائل على حربه في غزوة الأحزاب، أو غزوة الخندق، وأرادوا اقتلاع الإسلام من قصبته في المدينة الطاهرة، فنزل قوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً (التوبة- 36) .