الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعد هذا لم يرد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يلقى مقاتليهم، حتى لا يسبق السيف الرأى، وهو يريد أن يحج، ولا يريد أن يرغمهم، بل يريدهم مختارين، لأن الاختيار يؤلف، والقتال ينفر، والإجبار بالسيف يرمض النفس، ويكلمها، ولا يريد عليه السلام كلما، بل يريد شفاء للقلوب من غيظها.
ندب رجلا يخرج بالمسلمين إلى طريق غير طريقهم فسار في طريق وعث، حتى وصل ثنية المراد مهبط الحديبية من أسفل مكة.
ولما رأت خيل قريش كروا راجعين ليكونوا بمكة المكرمة والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالجيش إلى ثنية المراد. بركت ناقته، وكأن الله تعالى قد اختار له هذا المكان، فلما بركت الناقة قال الناس خلأت، فقال عليه السلام:(ما خلأت) وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعونى قريش اليوم إلى خطة يسألونى فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها، قال ذلك لأنه جاء وهو الهادى الداعى إلى الحق ليقرب نفوسهم بعد الحرب التى شنوها، ومكنه الله تعالى منهم.
قال لجيشه: انزلوا، فقالوا: ما بالوادى ماء، ولم يكن به ماء، ولكن قلب مطمورة، فأعطى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم سهمه رجلا من رجاله، فنزل به في قليب من تلك القلب وغرز فيه السهم، فجلس النبى للرواء حتى شرب الناس.
المراسلة بين الفريقين:
505-
كان مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم جيش قوى، ولم تكن مكة على استعداد للحرب، ولو أراد أن يدكها بجيشه دكا لفعل، ولكنه أتى للحج، وليطفئ حربا، ويبر رحما، ويزيل نفرة، وليذهب بوحشة الحروب التى خلفتها.
ولذلك أعلن المسالة وإرادة الحج من غير أن يقهرهم أو يذلهم.
جاء إليه بديل بن ورقاء مع رجال من خزاعة فكلموه صلى الله تعالى عليه وسلم، وسألوه ما الذى جاء به، فأخبرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه ما جاء يريد حربا، وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته، وقال ما قاله من قبل لغيره.
رجعوا إلى قريش، فقالوا لهم: يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد وإن محمدا لم يأت لقتال، إنما جاء زائرا لهذا البيت، فاتهموهم وجابهوهم، وقالوا: وإن جاء لا يريد قتالا، فو الله لا يدخلها علينا عنوة ولا تحدث بذلك العرب، ولكنهم مع هذه العنجهية لم يزيلوا ما بينهم وبين النبى صلى الله
تعالى عليه وسلم، فأرسلوا له مكرز بن حفص بن الأخيف أخا بنى عامر بن لؤى، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما رآه مقبلا: هذا رجل غادر، وقد كلمه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأنه ما جاء للقتال، ولكن لزيارة البيت.
ومع أن قريشا لا تريد حتى زيارة البيت أرسلت حليس بن علقمة، وكان يومئذ سيد الأحباش الذين كانوا يعينونهم في القتال فلما رآه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال عليه السلام: إنه من قوم يتألهون- أى يذعنون- لظاهر العبادة، فابعثوا الهدى في وجهه حتى يراه، فلما رأى ما يسيل عليه من عرض الوادى من قلائد أشعرت بأنه هدى للحج، قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله.
اكتفى حليس بالنظر إلى الهدى عن المحادثة، فرجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، إعظاما لما رأى. حدثهم بما رأى فقالوا له: اجلس فإنما أنت أعرابى لا علم لك.
غضب الحليس عند ذلك، وقال:
يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أفصد عن بيت الله تعالى من بعد ما جاء معظما له، والذى نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد.
فقالوا لحليس: مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.
ما زالوا طامعين في أن يكون لهم من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما يرضيهم من غير أن يقاتلوه، فأرسلوا إليه عروة بن مسعود الثقفى، وقد ذكر لقريش أنه بمنزلة الولد، لأن أمه كانت من بنات عبد شمس، وقد ذكر من جاء إليهم بعد لقائه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنهم لقوه بالتعنيف وسوء الحظ كما قالوا لبديل الخزاعى، وكما قالوا للحليس سيد الأحباش، تبين أن صلتهم به وثيقة، وأنه سيكون أمينا في رسالته مع رغبته في نصرتهم، وقال في ذلك: قد سمعت بالذى نابكم، فجمعت من أطاعنى من قومى ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسى، قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم.
خرج عروة بن مسعود هذا، وقد اطمأن إلى ثقتهم به، حتى أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قال: جمعت أوشاب الناس، ثم جئت بهم إلى بيضتك لنقضها (أى يكسرها لهم) .
إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل «1» قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، والله الكافى بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا.
(1) العوذ المطافيل، النوق التى معها أولادها، والعوذ جمع عائذ، وهى هنا الناقة أى الناقة ذات الأطفال.