الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنه يتبين من هذا الكلام أنه بعد أن أظهر الله سبحانه وتعالى قوة المسلمين وأعلى كلمة الدين، صار الذين يخالفونه، ويعاشرون المؤمنين بالجوار على ثلاثة أقسام:
أولهم الذين نطقوا بكلمة الإسلام والكفر يسكن قلوبهم، ويستولى عليها وهؤلاء هم الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (البقرة- 14، 15) فهؤلاء بقوا على كفرهم، وأمد الله تعالى في طغيانهم، لأن مظهرهم كان غير مخبرهم، وقد استمرؤا ذلك حتى زادوا عتوا وفسادا.
والقسم الثانى قوم ضعفت نفوسهم، وانحل تفكيرهم، فهم منافقون، فى إظهارهم الإسلام، ولا عقيدة لهم يؤمنون بها، وإن كانوا إلى عقيدتهم الأولى أميل، ولكن قد انحلت بالتعارض، بين ما يظهرون وما يبطنون، فقد خدعوا المؤمنين وأوغلوا في الخديعة، حتى خدعوا أنفسهم، وهم الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ، لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ، وقد وصف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هذا النوع من المنافقين بقوله عليه الصلاة والسلام:«مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين لا تدرى إلى أيهما تذهب» .
والقسم الثالث وهم أكثر
اليهود
الذين ثبتوا على دينهم من بنى قينقاع، وبنى النضير، وبنى قريظة وبنى الحارث، وأولئك ثبت أكثرهم على اعتقادهم وجاهدوا بالبقاء عليه، والاعتراض الدينى على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكنهم نافقوا في أنهم لم يخلصوا في العهد الذين عاهدهم عليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل يخفون الخيانة، ويتربصون بالمسلمين الدوائر، ويكاتبون أعداء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ويحرضونهم عليه، ويسرفون على أنفسهم، فينافقون المشركين، ويقولون إن ما هم عليه من شرك خير مما يدعو إليه النبى من توحيد.
وفي الجملة ظهر النفاق بعد النصر المحمدى من أعداء هذا الدين.
ولنخص اليهود، ومن والاهم بكلمة موجزة موضحة:
اليهود
393-
عقد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حلفا مع اليهود، جعل فيه له ما لهم، وعليه ما عليهم، وتعاهد معهم على البر والتقوى، لا على التعاون على الإثم، وأنهم في أحيائهم متعاونون على دفع الإثم، وعقل الجانى الذى يجب عليه الدية، وفي الجملة أعطاهم الحرية والحماية، وعقد معهم جماعة،
وأحياء متفرقة عقدا ملزما، ولكن الحسد كان يسكن قلوبهم من أن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الذى بعث كانوا يتمنون أن يكون من ولد إسحق لا من ولد إسماعيل، وقد كانوا يعرفون أن نبيا سيبعث، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به حسدا من عند أنفسهم، وكلما استيقنوا أنه النبى المبشر به في التوراة ازدادوا ضيقا وغضبا وكفرا، وكلما وجدوا آيات النبوة زادتهم طغيانا وضلالا، وعتوا وفسادا في الأرض، وكأنهم وحدهم سلالة قابيل الذى قتل أخاه، لأنهما قربا قربانا فتقبل من أحدهما، ولم يتقبل من الآخر (قابيل) .
ولننقل شهادة أم المؤمنين صفية بنت حيى بن أخطب، قالت رضى الله تبارك وتعالى عنها:
عند ما قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة المنورة، ونزل قباء في بنى عمرو بن عوف، غدا عليه أبى حيى بن أخطب، وعمى أبو ياسر بن أخطب مغلسين (أى في غلس) قلت لم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا ساقطين يمشيان الهوينى، قالت فهششت إليهما كما كنت أصنع، فو الله ما التفت إلى واحد منهما، مع ما بهما من الغم، وسمعت عمى أبا ياسر، وهو يقول لأبى حيى بن أخطب: أهو هو..؟ قال: نعم والله، قال أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال ما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت. تلك شهادة صادقة من سيدة برة على أبيها، فما جعلته الآية المثبتة لرسالة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم مؤمنا مصدقا بل جعلته عدوا لجوجا في عداوته، وذلك فعل الحسد الذى كان من قابيل على أخيه هابيل إذ تقبل منه الإيمان وحده، والله تعالى يختص برحمته من يشاء.
وحيى بن أخطب وأخوه صورة نفسية لكل يهودى ممن كان بجوار المسلمين بالمدينة المنورة، وبهذه العداوة كانوا يتحركون، وطويت قلوبهم على الضغينة المستكنة.
فلما انتصر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ازدادوا ضيقا، وظنوا أن الدائرة من بعد ستدور عليهم، فأرادوا بغريزة حب البقاء أن يعملوا عملا يظنون فيه بقاءهم، لكيلا يجد المسلمون السبيل لإخراجهم، واتحدوا مع المشركين ممن بقوا في المدينة المنورة، وحملوا أولئك على أن يظهروا الإيمان، ويخفوا الكفران إذ أو عزوا إليهم بخلقهم، الذى اشتهروا به في ماضى أمرهم ونفذوه في حاضرهم.
ولقد انضاف بذلك إلى اليهود بإغرائهم من كانوا قد بقوا على الوثنية من الأوس والخزرج، وإن لم يكونوا الكثرة، ولكنهم بما أظهروا من إيمان يبثون الوهن في قلوب المؤمنين، ويلقون بأسباب الفشل وقد ظهرت رؤوسهم فيما ظهر بعد بدر من الغزوات.