الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أول أعمال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم
336-
استطردنا إلى الكلام في الدولة المحمدية التى أقامها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأمر ربه، مشيرين إلى دعائم هذه الدولة، غير مفصلين النظم، ولا الأحكام، ولكن نبين مقاصدها وغاياتها بالإشارة الموجزة المبينة، لا بالعبارة المفصلة الموضحة، ليعلم الناس أمرين:
أولهما: أن المبادئ التى تقوم هذه الدولة عليها مبادئ تقبلها العقول السليمة التى لم تسيطر عليها الأهواء، ولم تتحكم فيها منازع التقليد من غير تفكير، ولا اتباع للهوى في ذاته، وإن جعلها مستمدة من أحكام القرآن الكريم والسنة المحمدية بوحى من الله تعالى لا يجعلها مضطربة، ولا مزلزلة بأهواء الناس، وهى متفقة مع مصالح الناس، ولقد سئل أعرابى: لماذا آمنت بمحمد عليه الصلاة والسلام؟ فقال الأعرابى المستقيم الفكر والنفس: «ما رأيت محمدا يقول في أمر افعل، والعقل يقول لا تفعل، وما رأيت محمدا يقول في أمر لا تفعل، والعقل يقول افعل» .
الأمر الثانى الذى جعلنا نشير إلى هذه الدولة لرد أقوال الذين يقولون على الله تعالى بغير الحق، إن الدين للعبادة، أما الدنيا فإن الناس ينظمون أمرها، فبينا أن العبادة لله تعم كل طاعاته، ومن طاعاته اتباع ما أحل وما حرم، وما نظم.
ولقد كانت التجارب الإنسانية تؤيد إقامة دولة إسلامية تمنع الظلم وتقيم الحق والعدل بين الناس.
ولقد رأينا من أقدم العصور دولا تقوم، وأخرى تهبط، والرعايا ضائعون بين الحكام المتغالبين، وبمقدار استعلاء الحكام يكون الظلم المستمر الذى يعم ولا يخص، فمن عهد الرومان والرعايا هم فرائس لمغالبة المتحكمين.
وإن القرآن الكريم الذى نظم الحكم في الإسلام يدعو إلى أن تحكم الشعوب نفسها بنفسها. وأن الحاكم مسئول أمام الله تعالى ينفذ أحكامه أولا. وأمام الشعوب لا يرهقهم ولا يظلمهم، ولا يشق عليهم ثانيا. إلا أن يكون في المشقة تنفيذ حكم الله تعالى.
الإخاء
337-
وقد ابتدأ عمله صلى الله تعالى عليه وسلم في المدينة المنورة بإيجاد الروابط التى تربط آحاد الجماعة الإسلامية، وتكون وحدة تضم بها العناصر المختلفة الأنساب والأماكن. وأن يجعل من ذلك المجتمع المختلف أنسابا وقبائل مجتمعا مؤتلفا في شعوره، تمحى فيه الفوارق، والأمور التى تفرق ولا تجمع.
وجد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مهاجرين من بطون مختلفة، ووجد أنصارا آووا ونصروا، ولكن الدماء لم تكن قد جفت بينهم فجاء إلى ذلك الجمع الذى كان متنافرا، ليؤلف بين قلوبهم، والأمم إنما تتكون بتأليف القلوب المتنافرة، وجمعها على الحق، وأشد ما يجمع توثيقا- الإيمان بالله والخضوع لأحكامه، فى ظل أطهر من في الوجود وهو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم.
قال السهيلى في كتابه الروض الأنف: «آخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين أصحابه حين نزلوا بالمدينة المنورة، ليذهب عنهم وحشة الغربة، ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة ويشد أزر بعضهم ببعض» .
وعندى أن ذلك أحد أغراض المؤاخاة، ولكن المؤاخاة أولا وبالذات تتجه إلى تكوين وحدة الجماعة المؤمنة، ولذلك كانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار أولا، وكانت بين المهاجرين بعضهم مع بعض ثانيا، وبين الأنصار بعضهم مع بعض ثالثا، أوسهم مع خزرجهم، ليقضى الرسول عليه الصلاة والسلام على الثغرة السابقة بالألفة التى تجمع القلوب، وتزيل نفارها.
فالمؤاخاة كانت لتكون الأخوة هى العلاقة بين النسيب الشريف والمولى الضعيف، لذلك كانت المؤاخاة جاعلة: حمزة بن عبد المطلب أخا لزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
فالمؤاخاة كانت لتكون الجماعة كما ذكرنا، ولوضع مبدأ المساواة عمليا، ولنترك الكلمة لابن إسحاق يشرح ما كان فيه.
يقول ابن إسحاق في سيرته بسنده: «آخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال فيما بلغنا، ونعوذ بالله تعالى أن نقول عليه ما لم يقل. «تاخوا في الله أخوين أخوين» ثم أخذ بيد على بن أبى طالب، فقال: هذا أخى، فكان رسول الله سيد المرسلين، وإمام المتقين، ورسول رب العالمين، الذى ليس له خطير ولا نظير من العباد، وعلى بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه أخوين، وكان حمزة بن عبد المطلب أسد الله تعالى، وأسد رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أخوين، وإليه أوصى حمزة يوم أحد حين حضروا القتال إذا حدث به حادث الموت، وجعفر بن أبى طالب ذو الجناحين، الطيار في الجنة ومعاذ بن جبل أخو بنى سلمة أخوين (وكان جعفر بن أبى طالب يومئذ غائبا بأرض الحبشة) .
وكان أبو بكر الصديق رضى الله تعالى عنه، وخارجة بن زهير.. أخوين.
وهكذا أخذ يحصى الأخوة بهذا التاخى بين المهاجرين والأنصار، فذكر المؤاخاة بين بلال مؤذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مع أبى رويحة.. وقد استمرت الأخوة بينهما لا تنقطع، كالشأن في كل من آخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بينهم.
ولما دون أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الدواوين بالشام، وكان بلال قد خرج إلى الشام، وأقام بها مجاهدا، قال له عمر: إلى من تجعل ديوانك، فقال: مع أبى رويحة، لا أفارقه أبدا، للأخوة التى كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد عقدها بينه وبينى، فضم إليه.
وقد أنكر ابن القيم مؤاخاة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لعلى بن أبى طالب كرم الله تعالى وجهه، وقال في ذلك:«وقد آخى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار» وذكر ما نقلناه عن محمد بن إسحاق، ثم قال:
«وقد قيل إن نبيه آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية، واتخذ فيها عليا أخا لنفسه» .
والثابت الأوّل «أن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار فقط» والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام وأخوة الدار وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة بخلاف المهاجرين مع الأنصار، ولو آخى بين المهاجرين، كان أحق الناس بأخوته أحب الخلق إليه، ورفيقه في الهجرة، وأنيسه في الغار، وأفضل الصحابة، وأكرمهم عليه، أبو بكر الصديق، وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم:«لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا، لا تخذت أبا بكر خليلا» .
وهكذا نرى الإمام ابن القيم ينكر الرواية لمجرد الاستبعاد، ولم يتعرض للطعن في الرواية، ويقصر المؤاخاة والباعث عليها على ما كان بين المهاجرين والأنصار، لأجل توثيق الإيواء، وحاجة المهاجرين إليه، ولا يحتاج إليه المهاجرون بعضهم لبعض، ولا الأنصار بعضهم لبعض.
(1) البداية والنهاية للحافظ ابن كثير ج 2 ص 237.