الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعركة
383-
بعد ذلك التنظيم الذى لم يكن للعرب عهد به كان لابد من اللقاء، بين جيشين أحدهما قوى الإيمان وقد عقد العزم، والثانى غير مؤمن بالله، ولا عزيمة عنده كما بينا في حال الفريقين، وينطبق عليهما قول الله سبحانه وتعالى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ. يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ إلى آخر الآيات الكريمات (الحج- 19، 20) .
وإنها إذا كانت الآية فيما يلقاه الكافرون يوم القيامة ففى لفظها ما يوميء إلى حالهم في المعركة.
ابتدأ القتال بالمبارزة، طلبها بعض كبار المشركين، فأجيبوا إليها، وجندلوا بسيفى أسد الله ورسوله حمزة بن عبد المطلب، وفارس الإسلام على بن أبى طالب.
خرج عتبة بن ربيعة، ومعه أخوه شيبة بن ربيعة، وابنه الوليد يطلبون المبارزة فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار، فقالوا: ما لنا بكم من حاجة، ولكن نريد أكفاءنا من قومنا، ثم نادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فاختار لهم الأكفاء من ذوى قرابته الأقربين عمه وابنى عمه، وقد آثرهم بالجهاد والعمل، ولم يرض لهم القعود.
أخرج عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وحمزة، وعليا، فلما رأوهم سألوهم عن أنفسهم، ويظهر أنهم قد تقنعوا بالسلاح، فلم يعرفوهم فعرفوهم بأنفسهم، فقالوا: أكفاء كرام، فبارز عبيدة عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز على الوليد، فقتل كل من حمزة وعلى صاحبه، أما عبيدة وعتبة، فاختلفا ضربتين كلاهما أصاب صاحبه، فكر حمزة وعلى بأسيافهما على عتبة فأجهزا عليه.
بعد ذلك أخذ النبل يرمى من الجانبين، وأصيب به بعض المسلمين، ورمى الجيش المحمدى نبلهم بمهارة متخيرا كبارهم، متصيدا زعماءهم، والرمى يمكن التصيد فيه، أما الملاقاة بالسيف، فلا تخير فيها، ولكن اللقاء هو الذى يحدها.
عند ما رأى المشركون ذلك هجموا، فكان لا بد من ملاقاتهم.
وعندئذ تقدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأمر جيشه بأن يحمل على المشركين حملة رجل واحد، وأخذ حفنة من تراب، فاستقبل بها قريشا، وقال: شاهت الوجوه، ولفحهم بها فلم يكن منهم إلا أصيب منها، ثم قال لأصحابه: شدوا.
فالتحم الجيشان والنبى عليه الصلاة والسلام ينظر من فوق العريش، وهو يحس بأن الله تعالى أنجز وعده، وهزم قريشا وحده وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى (الأنفال: 17) .
وسعد بن معاذ قائم على باب العريش، متوشح بالسيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، يخافون كرة العدو.
وقد أخذ الجيش المحمدى في تقتيل صناديد قريش وزعماء الشرك الذين كانوا يفتنون الناس عن دينهم، ويأسرون فريقا. وقد اشتدت النازلة بالمشركين، وعلموا أن كلمة الله تعالى العليا.
384-
هذا ويجب أن نلاحظ أمرين جديرين بالنظر: -
أولهما- أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم ينس رحمه وواجب الوفاء وأن يكون جزاء الإحسان لبنى هاشم الذين ذاقوا مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما ذاقوا، وقريش تقاطعهم في شعبهم، وهم على مثل قومهم من الشرك، فما كان من الوفاء بالعهد، وجزاء المعروف بمعروف مثله أن يقتلهم في الميدان وقد خرجوا لحربه كارهين، وكان من بعض رجالات قريش من لم يؤذ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل من سعى سعيه في منع حصار بنى هاشم وبنى عبد المطلب، فكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الوفى الأمين، لن ينسى إحسان محسن، والله سبحانه وتعالى يقول: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (الرحمن- 60) .
وهذا العباس بن عبد المطلب الذى كان يذهب مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في بيعة الأوس والخزرج ليستوثق من منعة يثرب للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فهل يتركه تعتوره السيوف.
ولذلك قال لجيشه في رواية ابن عباس:
«إنى عرفت أن رجالا من بنى هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها، لا حاجة لنا بقتالهم، فمن لقى منكم أحدا من بنى هاشم، فلا يقتله، ومن لقى أبا البختري «1» فلا يقتله، ومن لقى العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلا يقتله» .
فقال بعض من قتل ذووه، وهو أبو حذيفة، (ويظهر أن قوله لم يكن في حضرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم) ، أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا، ونترك العباس، والله لئن لقيته لألجمنه السيف، فبلغت هذه المقالة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأثرت في نفسه، فقال لعمر بن الخطاب آسيا: يا أبا حفص:
أيضرب وجه عم رسول الله عليه الصلاة والسلام بالسيف. وفي ذلك إشارة الى موقف العباس في العطف على رسول الله عليه الصلاة والسلام، والفرق بينه وبين أبى لهب.
ولقد ندم أبو حذيفة (ولعله قالها لقتل أبيه)«2» أشد الندم، فكان يقول: ما أنا بامن من تلك الكلمة التى قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عنى الشهادة، فقتل يوم اليمامة شهيدا.
(1) عند ابن هشام: بالحاء وليس بالخاء.
(2)
هذا التعليل وقع سهوا وما نظنه مقصودا فإن أباه قد قتل في أحد وليس في بدر.
هذا وإن الذين حضروا الموقعة من بنى هاشم لم تمسهم السيوف استجابة لطلب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لرحمه، ولحدبهم عليه ولمشاركتهم له في الضراء، وما كان القتال لأجل الكفر، بل كان للاعتداء.
أما أبو البخترى وله مقام مشهود في نقض الصحيفة، وقد عرفها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم له فى شديدته كما كانت منه المعونة في الشديدة، فقد لقيه المجذر بن زياد البلوى حليف الأنصار، فقال لأبى البخترى: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد نهانا عن قتلك.
وكان أبو البخترى له زميل قد خرج معه من مكة المكرمة، فجمعتهما رفقة السفر ولعله كانت بينهما مودة موصولة، فطلب ألا يقتل صاحبه، فقال المجذر:«والله ما نحن بتاركى زميلك، ما أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا بك وحدك» .
فقال أبو البخترى: لا والله، إذن لأموتن أنا وهو جميعا، ولا تتحدث عنى نساء مكة أنى تركت زميلى حرصا على الحياة.
فتنازلا، ولم يسلم أبو البخترى سيفه إلا أن يكون مقتولا، وقال في ذلك:
لن يسلم ابن حرة زميله
…
حتى يموت أو يرى سبيله
هذا وفاء محمد عليه الصلاة والسلام في ميدان القتال، والبلاء بلاء.
الملاحظة الثانية: أن الشرك وإن فرق النفوس، قد كانت المودة بين بعض الرجال ما زالت موصولة، لقد كان أمية بن خلف صديقا ودودا لعبد الرحمن بن عوف، فلقيه في بدر فلم يرد أن يقتله بل أراد أن ينقذه، لقد رآه وابنه عليا، وإنه ليقودهما بدل أن يقتلهما- إذ رآه بلال الذى كان عبدا لأمية، وكان يعذبه ليترك الإسلام، فيخرجه إلى رمضاء مكة المكرمة إذا حميت فيضجعه على ظهره، ثم يأتى بالصخرة العظيمة، فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد، فيقول بلال: أحد أحد.
وجدها بلال الفرصة التى يقتص فيها منه جزاء ما فتنه في دينه، فقال رضى الله تعالى عنه: رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا، ثم صرخ بأعلى صوته: يا أنصار الله رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، فأحاطوا به، وعبد الرحمن بن عوف يذب عنه، ولكنه قتل هو وابنه.