الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غزوة الخندق
457-
كانت غزوة دومة الجندل في ربيع الأوّل من السنة الخامسة، وبعدها بستة أشهر كانت غزوة الخندق، إذ كانت في شوال من السنة الخامسة، وفي هذه الأشهر الستة كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يبلغ الدعوة، ويعلم المؤمنين مباديء الإسلام في المجتمع والفضيلة. والمعاملات المالية، وغير المالية، ويبث دعاته في البلاد العربية، وأخبارها تتجاوزها إلى ما وراء تلك البلاد، تسرى فيها كما يسرى النور، وهو آمن مطمئن، لم يزعجه غاز يغزو مدينته، ولا غادر يغدر به في دعوته الحق، يجيئه المؤمنون به فرادى من كل القبائل، ينضمون إلى صفوفه، أو يعودون دعاة إلى أقوامهم إن وجدوا فيهم.
وكان اليهود من بنى خزاعة بجواره، قد يكيدون له، وإن كانوا لا يظهرون، يمالئون الأعداء، ويتضافرون مع المشركين ممن يرسلونهم من بنى النضير الذين أجلوا، فهم جميعا ملة واحدة في الكيد للمسلمين وإرادة اقتلاعهم، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يسالمهم، ويحذرهم، يخادعونه، والله خادعهم.
ونوجه الأنظار إلى أن الغزوات المحمدية ما كانت تتجاوز شهرا في سيرها، وذلك قليل في عمر الدعوة الإسلامية. وهى كأمر يعرض فيدفع، ثم ينصرف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى تبليغ رسالة ربه. وبيان شرعه والدفاع بالحجة والبرهان عن العقيدة والرسالة أمام اليهود، وأمام المشركين لا يألو جاهدا، فهو يجادل ويبلغ ويعلم، ويحفظهم القرآن ويعلمهم الحكمة، فيرددون أحاديثه، وينقلون أعماله، والرسالة يتكامل تبليغها.
كيف كانت غزوة الخندق وأسبابها:
458-
إن السياق التاريخى للوقائع يشير إلى أن القرشيين تضعضعت نفوسهم ويظهر أنهم ما كانوا ليقدموا على حرب وحدهم، خشية من محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من جند أشداء فقد مكثوا لا يقاتلونه ولا يذهبون سنتين كاملتين. وإن كانوا يشجعون عليه غيرهم من غطفان وغيرهم، ممن غدروا وخانوا، وهم كانوا يهابون لقاء المؤمنين الأشداء الذين يطلبون الحياة من وراء الموت، ولا يضنون بنفوسهم على الاستشهاد.
كل قبيلة من الأعداء كانت تخاف المؤمنين وحدها، وإذا كانوا قد اجتمعوا على الشرك والكفر فإنهم أرادوا أن يجتمعوا على القتال، ينتفضون على المؤمنين مجتمعين، ويقتلعونهم من المدينة لتعود كما كانت دار شرك ويهود كما كانت أولا.
وإذا كانت الحاجة إلى نصر الشرك تدعوهم إلى الاجتماع، فقد أخذ كبار اليهود الذين طردوا من المدينة يدبرون لهم، ويدخلون في صفهم، فاجتمع ناس من بنى قينقاع، وبنى النضير، بالمشركين يحرضونهم على الاجتماع، وأن يكونوا معهم، والمنافقون يرونهم، وبنو قريظة من ورائهم، فكان اليهود مدبرين، أو مشتركين في التدبير.
قال ابن إسحاق بسنده «إنه كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود منهم سلام بن أبى الحقيق النضري، وحيى بن أخطب النضري، وكنانة بن الربيع بن أبى الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلى في نفر من بنى النضير، وبنى وائل.... وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقالوا إنا سنكون معكم عليه، حتى نستأصله.
قالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأوّل، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه، قال اليهود أهل الكتاب الذين يدعون أنهم يتبعون التوراة: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق. وهكذا نرى حقدهم وعنادهم دفعهم إلى الكفر في دينهم، ولقد نزل فيهم قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (النساء- 51، 52) .
ولم يكتف هؤلاء اليهود بتحريض قريش الذين لم يكونوا محتاجين إلى تحريض، ولكن يحتاجون إلى من يؤازرهم، بل إن أولئك النفر من اليهود خرجوا إلى غطفان من قيس بن غيلان فدعوهم إلى حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأخبروهم أنهم يكونون معهم، وأن قريشا قد تابعوهم. اجتمعت الأرض كلها، واجتمعت قريش، وغطفان، اجتمع هؤلاء ومعهم اليهود وغيرهم فخرجت قريش بقيادة أبى سفيان بن حرب.
وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن، وكان في بنى فزارة.
وبنو مرة وقائدهم الحارث بن عوف المرى.
وغير هؤلاء من القواد الذين كانوا يقودون جماعات.
اجتمع هؤلاء ومعهم قبائل من العرب، ليغزوا المدينة، وقد أمر الله تعالى نبيه بأن يقاتلهم كافة، وإنه لناصره كما قال تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (التوبة- 36) .
سمع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بمسيرهم، وجاءه الخبر بكثرة الجموع، وما دبروا، وما استحصدوا له.
وروى أن أبا سفيان أرسل مرعدا مهددا بهذه الجموع التى جمعها، وكتب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كتابا هذا نصه:
أما بعد
…
فإنك قد قتلت أبطالنا، وأيتمت الأطفال، وأرملت النساء والآن قد اجتمعت القبائل والعشائر يطلبون قتالك، وقلع آثارك، وقد جئنا إليك نريد نصف نخل المدينة، فإن أجبتنا إلى ذلك، وإلا أبشر بخراب الديار وقلع الآثار.
تجاوبت القبائل من فزار
…
لنصر اللات في بيت الحرام
وأقبلت الضراغم من قريش
…
على خيل مسومة ضرام
وقد نقل هذا الكتاب في كتاب السيرة لابن جرير الطبرى.
وقد أكد هذا الكتاب ما وصل إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من أخبار ولم يجد تهديده لاعتماد النبى والمؤمنين على الله.
ورد عليه الصلاة والسلام كتابه قائلا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصل كتاب أهل الشرك والنفاق، والكفر والشقاق، وفهمت مقالتكم، فو الله ما لكم عندى جواب إلا أطراف الرماح وأشفار الصفاح، فارجعوا ويلكم عن عبادة الأصنام، وأبشروا بضرب الحسام وبغلق الهام وخراب الديار، وقلع الآثار، والسلام على من اتبع الهدى.
ونشك في نسبة هذا الكتاب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لما فيه من السجع.
ومهما تكن قيمة الرواية، فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مضى في الاستعداد.
فجمع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم صحابته، واستشارهم فيما يصنع مع هذه الجموع، لقد كانوا أكثر من أن يخرجوا إليهم، ولا أن يتركوهم يدخلون المدينة، وخصوصا أن بنى قريظة على مقربة من المؤمنين يدلونهم على عورات المسلمين، لا هذا ولا ذاك يصلحان للعمل، ولا بد من عمل يكون وقاية حتى يجىء نصر الله تعالى، وقد وعد به، فقال تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
(الروم: 47)