الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمُؤْمِنِينَ، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ. وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ، فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ، وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ وقد حاصرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأجلاهم في ست عشرة ليلة.
أحكام شرعية اقترنت بغزوة بنى النضير
446-
أحكام شرعية ثلاثة اقترنت بغزوة بنى النضير، أو شرعت بعدها:
أولها منع التخريب:
وذلك أن النبي صلي الله تعالى عليه وسلم كان منه ما توهموا أنه سيقطع نخلهم بعد أن استطال حصارهم، فاحتجوا عليه صلي الله تعالى عليه وسلم بأنه نهي عن التخريب وعيبه، وكيف يقطع النخل مع هذا؟.
والحقيقة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يقطعه وإن هم بقطع النخل إفزاعا لهم، وتخويفا ليسارعوا بالاستسلام، وقد كانوا تحصنوا بحصونهم، ويرمون الحجارة من فوقها، وكان لا بد أن ينزلهم من صياصيهم، وهي الحصون، والآية الكريمة صريحة في أنه أمر بقطع الثمار، لا بقطع الأصول بل أبقي ما أبقى قائما علي أصوله كصريح الآية، ولو كان صلي الله تعالى عليه وسلم قد قطع الأصول ما بقي نخيل تقوم عليها ثمار.
ولبيان الموضوع كاملا نذكر الفقه فيه، وأساسه هذه الآيات التي تلوناها في واقعة الجلاء، أن النهي عن قطع النخيل والتخريب بشكل عام قد جاء في وصية أبي بكر الصديق لبعض جنده، وما كان أبو بكر إلا متبعا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وها هى ذى: -
روى الإمام أحمد في مسنده أن أبا بكر بعث الجيوش، وبعث يزيد بن أبي سفيان أميرا، فقال وهو يمشى ويزيد راكب: إما أن تركب، وإما أن أنزل، فقال الصديق: ما أنا براكب، وما أنت بنازل، إني أحتسب خطاى هذه في سبيل الله، إنك ستجد قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعهم وما زعموا، وستجد قوما قد فحصوا أوساط رؤوسهم من الشعر، وتركوا منها أمثال العصائب، فاضربوا ما فحصوا بالسيف، وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ولا صبيا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطعن شجرا مثمرا ولا نخلا ولا تحرقها، ولا تخربن عامرا، ولا تعقرن شاة أو بقرة إلا لمأكلة، ولا تجبن ولا تغل» .
هذه توصية أبى بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا بد أن تكون بهدى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذلك ننفى أن يكون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد قطع نخيل بنى النضير، فمحال أن يكون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أمر في موضع، وأبو بكر ينهى بإطلاق، ولأن القرآن الذى نزل في واقعة الجلاء لم يذكر قطع النخيل، وهى الأصول بل الذى فيه أنه قطعت ثمار، وبقيت أخرى على أصولها قائمة.
ولكن مع ذلك لما اشتدت لجاجة الحروب بين المسلمين والمشركين أو الكفار بشكل عام اختلفت الفقهاء في جواز التخريب في أرض العدو من قطع أشجار، وتهديم بنيان، وذبح الحيوان لغير مأكلة، أو إهلاكه بشكل عام.
فكثيرون من الفقهاء أجازوه، لأن الحرب لا تبقى ولا تذر، ولأنه إذا أبيحت الأنفس، فكيف يصان ما عداها وهو دونها، ويستندون في ذلك إلى أخبار نسبت للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم في غزواته.
أولها: وهو في قصة بنى النضير أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أمر بتخريب بنى النضير، وقال الله تعالى في ذلك يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ.
ثانيها: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أمر بأن يحرق قصر مالك بن عوف، وقد كان أميرا لجيش المشركين في الطائف، ورمى بالمنجنيق حصنا للطائف.
ثالثها: أنه عليه الصلاة والسلام أمر بقطع كروم العنب لثقيف في الطائف، وقد ذكر في المغازى أنهم عجبوا عند إرادة قطعها، وقالوا:«كيف نعيش بعد قطعها» .
هذه حجج الأكثرين من الفقهاء الذين قالوا ما قالوا تحت سلطان لجاجة الحروب وشدتها، وعدم تحرجها من قبل المشركين.
أما الفريق الآخر من الفقهاء وإن لم يكونوا الأكثر فقد تمسكوا بقول الصديق الذى لا يمكن أن يخرج عن قول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولا عن عمله، فمنعوا التخريب، وعلى رأس هذا الفريق فقيه الشام الأوزاعى، فقد قرر أنه لا يجوز التخريب إلا إذا ألجأت إليه ضرورة حربية، كأن يتحصن المحاربون بحصن ولا يمكن الوصول إليهم إلا بهدمه، أو تكون الأشجار غابة كثيفة، قد اتخذوها مستترا يكمنون للمسلمين فيها، وينقضون عليهم من مساترها.
وإن الناظر إلى أدلة الذين أباحوا التخريب في غير ضرورة ملجئة، لا يجدها منتجة لإباحته بإطلاق فإن تخريب النبى لبيوت بنى النضير، لأنهم اتخذوها حصونا يقذفون منها الحجارة على المؤمنين، فكان لا بد أن تزال تلك الحصون دفعا للأذي، فكانت الضرورة ملجئة لذلك، وقد قرر الجميع أن الضرورة تقدر بقدرها.
وإن قصر عوف بن مالك كان قد اتخذه حصنا، وكذلك الحصون التى رميت بالمنجنيق في ثقيف، فما كان رميها إلا لضرورة حربية، لا للتخريب والإفساد.
أما ما هم به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من قطع كروم العنب لثقيف؛ فلأنهم كانوا يتخذون منها الخمر، والخمر حرام، ويظهر أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يقطع، وإنما أمر فقط بالقطع، أو قطع قليلا لإفزاعهم، وذلك ليحملهم على التسليم بدل الاستمرار على القتال، وبذلك تحقن الدماء، ولذلك سلموا بمجرد أن رأوا المسلمين يعتزمون قطعها.
وإنه بمراجعة الشريعة في مصادرها من كتاب وسنة وآثار للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم وصحابته الكرام نجد أنها لا تدل على جواز التخريب، بل تمنعه.
ولنقف عند الآيات الكريمة التى تلوناها في قصة إجلاء بنى النضير، فنجد أن الآيات لا تبيح التخريب بإطلاق وفي كل الأحوال، وأن القطع الذى ذكره القرآن إنما هو في قطع الثمار لا في قطع الأشجار، وذلك في قوله تعالى: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها، فَبِإِذْنِ اللَّهِ (الحشر: 5) إلى آخر الآيات الكريمات التى تلوناها.
وذلك لأن اللينة المراد بها الثمرة، والمعاجم في اللغة تؤيد ذلك. لأن كلمة لينة جمعها لون وهو بالاتفاق نوع من ثمر النخل، ولأن الآية تخير بين قطع اللينة أو بقائها على أصولها. وذلك يقتضى أن تكون ثمرة قائمة على الأصول تبقى أو تقطع، والأصول النخيل، فلم يذكر في القرآن إباحة قطعها، ولأن الآثار الواردة في غزوة بنى النضير التى هى موضوع الآيات الكريمات تفيد أن الصحابة ما كانوا يقطعون النخيل، بل كانوا يقطعون الثمر.
فقد روى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم استعمل أبا ليلى المازنى وعبد الله بن سلام على نخيل بنى النضير قبل إجلائهم، فكان أبو ليلى يقطع العجوة، وهى تمر جيد، وابن سلام يقطع اللون وهو تمر ردىء، فقيل لأبى ليلى: لم قطعت العجوة؟ قال: لأنها أغيظ لهم، وقيل لابن سلام:
لم قطعت اللون؟ قال لأنى علمت أن الله تعالى مظهر نبيه ومغنمه أموالهم، فأحببت إبقاء العجوة، وهى خيار أموالهم، وإن قطع الثمار لا يعد تخريبا، لأنه سيكون مأكلة.