الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
روى أبو هريرة عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «حدثونى عن رجل دخل الجنة لم يصل قط، فسألوه من هو؟ فقال: أصيرم بن عبد الأشهل عمرو بن ثابت» .
هذه أمور قد أحاطت أحدا، وأعقبتها في داخل المدينة المنورة، وما حولها، أما أثرها في بلاد العرب، والقبائل المصاقبة في المدينة المنورة، وما تحمله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون في أعقابها، فنتركه إلى الكلام في سرايا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وغزواته من بعدها.
الأحكام المستفادة مما أتبعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في أحد
437-
كانت غزوة بدر الكبرى إيذانا بشرعية القتال دفاعا عن النفس، ودفعا للاعتداء.
وحماية للدعوة، كما صرح بذلك القرآن الكريم، فى قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (الحج- 39) . وفي قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (البقرة- 190) . وفي قوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ (البقرة- 193) وقوله تعالى:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ، وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (البقرة- 216) .
وهكذا نزلت آيات كثيرة في إباحة القتال، بل وجوبه دفعا للفساد، كما قال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ.
(البقرة- 251) .
كان هذا لمناسبة أوّل قتال، أما في أحد، فقد شرعت أحكام تفصيلية في الجهاد من عمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من تكوينه لجيشه، ومن استقباله لعدوه:
(أ) ومن هذه الأحكام التى ثبتت في هذه الغزوة أنه لا يخرج إلى الجهاد من لم يبلغ الخامسة عشرة إلا إذا كان قوى الجسم، كقوة الشبان البالغين، أو كانت له مهارة فنية في الحروب، كالرمى بالنبل، فقد أجاز اثنين ممن دون الخامسة عشرة بقليل لمهارة أحدهما في الرمى، ولقوة الثانى في المصارعة.
وقد أجاز صلى الله تعالى عليه وسلم خروج النساء في الغزو، يسقين الغزاة، ويداوين الجرحى،
والقتال إن تعين القتال عليهن، كتلك التى كانت تناضل مع المناضلين عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد أحاط به المشركون يحاولون قتله، فردهم الله تعالى بغيظهم لم ينالوا منه عليه الصلاة والسلام شيئا.
ولذلك أجاز الفقهاء خروج المرأة مع الجيش مداوية ومقاتلة، وقال بعضهم: لا يحل لها ركوب الخيل إلا أن تكون محاربة.
(ب) ومنها أنه إذا أخذت الأهبة للجهاد لا يجوز أن يترددوا، فإن التردد يلقى بالخذلان في النفوس، والاختلاف والتدابر، ولذلك لما لبس النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لأمة الحرب، وغير المجاهدون رأيهم، قال صلى الله تعالى عليه وسلم «ما كان لنبى لبس لأمة الحرب أن يخلعها» وكذلك الأمر في كل أمر ينتهى بالشورى لا يصح أن يكون موضع تردد حسما للأمور وفضا للنزاع.
(ج) ومنها أنه يجوز للمجاهدين مجتمعين أن يأخذوا طريقهم، ولو في أرض مملوكة ملكا خاصا، كما اجتاز النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بجيشه بعض الحدائق، ولم يلتفت إلى اعتراض المعترضين، لأن الملك الخاص له حق الصيانة، إلا إذا ترتب على الحقوق الخاصة ضرر عام، فإذا لم يكن للجيش طريق إلا الملك الخاص، لم يمنع من سلوكه مهما يكن اعتراض صاحبه، ولذلك لم يلتفت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى اعتراض الأعمى صاحب الحديقة، وقال إنه أعمى البصر والبصيرة.
(د) ومنها جواز أن يتمنى المجاهد في سبيل الله الشهادة من غير مواناة ولا استسلام بل في حزم وعزة وقوة. وتمنى الموت منهى عنه في غير هذا المقام كما قال عبد الله بن جحش عند ما تقدم للجهاد «اللهم لقنى من المشركين رجلا عظيما كفره، شديدا حرده، فأقاتله، فيقتلنى ويسلبنى ثم يجدع أنفى وأذنى، فإذا لقيتك فقلت: يا عبد الله بن جحش، فيم جدعت!! قلت: فيك يا رب» .
ويظهر أن ذلك الدعاء بعد أن رأى المشركين يمثلون بالقتلى.
(هـ) ومنها أن المسلم إذا قتل نفسه أثم، ودخل النار، ولو كان ذلك من جراح شديدة، وذلك أن مسلما اسمه قزمان أبلى يوم أحد بلاء شديدا حتى أثخن بالجراح، فلما اشتدت به نحر نفسه، فأثمه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، لأنه يئس من روح الله تعالى وبأنه: لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (يوسف- 87) .
(و) ومنها أن السنة في الشهداء ألا يغسلوا ولا يكفنوا في غير ثيابهم التى كانوا يجاهدون بها، بل يدفن فيه بدمه وكلومه إلا أن يسلبها فيكفن في غيرها.
(ز) ومنها أن السنة في الشهداء أن يدفنوا في مصارعهم، ولا ينقلوا إلى مكان آخر، وذلك لتكون زيارة قبورهم فيها عبرتان: عبرة الاستشهاد والجهاد، وعبرة رؤية المكان الذى صارعوا فيه وجاهدوا حتى نالوا أعلى الحسنيين.
وقد حصل في أحد أن بعض الصحابة نقلوا قتلاهم إلى المدينة المنورة، فنادى منادى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم برد القتلى إلى مصارعهم، قال جابر بن عبد الله بينما أنا في النظارة، إذ جاءت عمتى بأبى وخالى، كما دلّتهما على ناضح فدخلت بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا، وجاء رجل ينادى: ألا إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا القتلى فتدفنوهم في مصارعهم حيث قتلت، فرجعنا بهما، حيث دفناهما في القتلى حيث قتلا.
وبعمل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم صارت السنة في الشهداء أن يدفنوا في مصارعهم.
(ح) ومنها جواز أن يدفن الرجلان والثلاثة في قبر واحد فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، كان يدفن الرجلين والثلاثة في القبر، ويقول أيهم أكثر أخذا في القرآن؟ فإذا أشاروا إلى رجل قدمه في اللحد وإذا كان رجلان بينهما محبة في الدنيا دفنهما معا في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة فدفن عبد الله بن عمرو بن حزم، وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة.
(ط) ولقد حدث عند ما كان الاضطراب في جيش المؤمنين بسبب المفاجأة أن قتل بعض المؤمنين مؤمنا يحسبه كافرا، فإنه لا يذهب دم المقتول هدرا، بل تكون ديته في بيت المال، كما فعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فودى الذين قتلوا خطأ من المؤمنين، لأنه بقيادته صلى الله تعالى عليه وسلم وهو ولى أمر المؤمنين.
(ى) ومنها أن ذوى الأعذار يرفع عنهم واجب الجهاد، ولكنهم إن خرجوا مجاهدين كان لهم ثواب الجهاد، وإن قتلوا كانوا شهداء، فرخصة التخلف لعذرهم رخصة ترفيه، لا تسقط الواجب، ولكن تسوغ التخلف، كمن يصوم وهو صاحب رخصة كمرض أو سفر، فإن الصوم يجزى عنه إذا صام، وإن أفطر فعدة من أيام أخر.
وقد خرج عمرو بن الجموح وهو أعرج، وليس على الأعرج حرج، فلم يمنعه النبى من أن يجاهد، فجاهد حتى استشهد، وتولى دفنه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع شهيد كان له معه صحبة ومحبة.
(ك) ومنها أن العدو إذا طرق الديار لا يجب على المؤمنين أن يخرجوا لقتاله، ولا يجب عليهم أن ينتظروا حتى يدخل عليهم الديار، بل ينظرون إلى ما يكون المصلحة والمكيدة في الحرب، فإن كان الأوّل أشد نكاية اتبع وإن كان الآخر التزم كما فعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
(ل) ومنها وجوب الشورى، كما استشار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم جند المؤمنين، ليدخل الجند مطمئنين، آمنين راضين، غير مرهقين في نفوسهم، ولا في تفكيرهم، فيكون ذلك أرجى للنصر.
(م) ومنها ألا يصلى على الشهيد، فإنه ثبت أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يصل على شهداء أحد، ولم يصل على شهيد مات في المعركة في أى غزوة من الغزوات، لأن شهادته تغنيه عن دعاء الأحياء، وصلاة الجنازة دعاء وتضرع واستغفار.
(ن) وقد قال ابن القيم أنه يجوز للمجروح أن يصلى قاعدا، ولو كان إماما. ويقول في ذلك:
إن الإمام إذا أصابته جراحة صلى بهم قاعدا، وصلوا وراءه قعودا، كما فعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه الغزوة واستمرت على ذلك سنته إلى حين وفاته.
ولكن، هل يجوز أن يصلى المأموم واقفا وراء الإمام الذى يصلى قاعدا! إن ذلك موضع خلاف بين الفقهاء، ليس هذا موضعه.
هذه الأمور التى ذكرناها كلها كانت من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه الغزوة، وما يعمله يكون بيانا لحكم شرعى يتبع، ولا شك أن بعض هذه الأحكام تدخل تحت أنواع ثلاثة من الأحكام التكليفية، فمنها ما يدخل تحت حكم الجواز، والمصلحة ترجحه أو توجبه، كما رأينا في خروج النساء في الحرب والجهاد، فإنه جائز أو مباح، وقد يكون مستحبا إذا كان في الرجال كفاية وفي النساءعون. وقد يكون واجبا إذا كان الجرحى يحتاجون إلى عدد كبير من المداوين.
وكما رأينا في الذى خرج وعنده عذر فإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أجازه، فإنه يكتفى بالجواز، ابتداء، ولكن إن كان ذا بأس وشدة مع عذره، فإن الأولى الخروج مع رخصة القعود.
وهو في الحالين شهيد إن استشهد، له جزاء الشهداء، ومجاهد إن نجا، له جزاء المجاهدين
…
والله أعلم.