الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ، لا تَخافُونَ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا، فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (الفتح- 27، 28) .
وهكذا كان ذلك الصلح فتحا وطريقا للفتح، ودخل به الناس في دين الله أفواجا، أفواجا.
يقول ابن شهاب الزهرى التابعى بحر العلم كما قال الإمام مالك، قال في الحديبية «فما فتح فى الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس بعضهم بعضا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يتكلم أحد في الإسلام ليقول شيئا، إلا دخل فيه، ولقد دخل في تلك السنين (أى التى كانت قبل فتح مكة المكرمة) قدر ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر» .
ونضيف: وقضى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على نفوذ اليهود قضاء كاملا، واتجه إلى خارج الجزيرة العربية ينشر الإسلام فيها.
تنفيذ الصلح
517-
كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حريصا كل الحرص على الوفاء بالعهد، لأن الوفاء بالعهد في ذاته قوة، ولأن الله تعالى يقول: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ، وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا.
ولقد شك بعض المؤمنين في وفاء المشركين في عهدهم هذا، فقال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: وفوا لهم، واستعينوا بالله تعالى عليهم.
ولذلك اتجه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الوفاء.
ولقد كان بعض المؤمنين ينظر إلى الأمر في هذا الاتفاق غير مطمئنين، إلا طاعة الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فقد شق عليهم أمران:
أحدهما: ألا يتمكنوا من دخول البيت الحرام وقد أحرموا، ومعهم القوة التى يستطيعون أن يدخلوا بها، وليس عند قريش القوة الكافية لردهم، ولذلك تباطئوا في الاستجابة للتحلل من الإحرام بالحلق أو التقصير، على ما قصصنا من قبل.
الأمر الثانى: الشطط في شروط قريش، وفي إملاء العقد، وأشد شطط وغبن أن من خرج مسلما لا يقبله النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، بل يرده إلى وليه، ومن عاد إلى مكة المكرمة مرتدا لا يردونه، فقد كان ظاهر الشرط أن فيه غبنا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ فيه عدم مساواة، ولكن إن نظرنا إلى الشطر الثانى وهو عدم رد من يخرج من الإسلام إلى الشرك، فإنه عند التأمل لا نجد فيه ضررا على المسلمين فما حاجة الإسلام إلى مرتد حائر، فليذهب إلى حيث شاء، بدلا من أن يكون شوكة في المسلمين، وقد يرضى أن يبقى منافقا، وينضم إلى صفوف أهل النفاق، فيكون عينا على المسلمين وعلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وأما بالنسبة للجزء الأوّل من الشرط، وهو أن من خرج من مكة المكرمة مسلما يرد إلى وليه، فقد كان بلا شك شاقا في ذاته، وخصوصا عند ما دخل عليهم أبو جندل يرسف في قيوده.
وإن هذا الجزء من الشرط وإن كان شاقا في مظهره صعب التحمل إلا لمن كان قوى الإيمان، فإن تطبيقه أدى في نتائجه إلى الضرر على المشركين، ولم يضار به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون، حتى إن المشركين الذين كان الشرط من جانبهم ولمصلحتهم هم الذين طلبوا إلغاءه.
ولنذكر تطبيقه كما أوضحت كتب السيرة وصحاح السنة:
كان أوّل من طبق عليه الشرط أبو بصير عتبة بن شيد بن جارية، وكان ممن أسلم وحبس بمكة المكرمة، وقد استطاع أن يخرج من محبسه، وأراد الذهاب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فكتب إليه بعض المشركين يطلبون تسليمه بمقتضى الشرط وبعثوا رسولين يتسلمانه، وهما رجل من بنى عامر ابن لؤي، ومولى له، فقدما على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعنده أبو بصير فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا» قال: يا رسول الله أتردنى إلى المشركين يفتنوننى في دينى. قال الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا أبا بصير انطلق، فإن الله تعالى سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا» .
انطلق معهما، واندمج معهما في الحديث، وأظهر الاستسلام، حتى اطمأن إليه العامري، فقال: يا أخا بنى عامر أصارم سيفك هذا؟ قال نعم، قال أنظر إن شئت، فاستله أبو بصير، وأراد أن يختبر صرامته ثم علاه به حتى قتله، فولى المولى مسرعا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو جالس فى المسجد، فقال: إن هذا الرجل قد رأى فزعا، ثم قال له: ويحك مالك؟ قال إن صاحبكم قد قتل صاحبي، وبينا هو يشرح حاله، وكيف قتل العامري، طلع أبو بصير متوشحا بالسيف حتى وقف على
رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال: يا رسول الله قد وفيت ذمتك، وأدى الله عنك عند ما أسلمتنى ليد القوم، وقد امتنعت بدينى أن أفتن أو يعبث بي، قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: ويل أمه إنه محش حرب إن كان معه رجال، وفي رواية البخارى أنه قال: ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد.
وقع في نفسه أنه سيرد إليهم بعد أن قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وإنها تفيد بلحنها أن له أن يعتمد على نفسه، وهو قادر على أن يعتمد.
خرج من حضرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وسار حتى وصل إلى سيف البحر. وقد علم المستضعفون بخبر أبى بصير، وقول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأنه محش حرب إن كان معه رجال، فكل مستضعف يعمل على تخليص نفسه ويكون من رجال أبى بصير، فانفلت أبو جندل الذى جاء إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يرسف في قيوده، ورده صلى الله تعالى عليه وسلم والتحق بأبى بصير.
وصار كل مستضعف لا يذهب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه سيرده، بل يذهب إلى رجال أبى بصير على سيف البحر.
وكونوا منهم عصابة تقطع طريق تجارة قريش؛ فما كانوا يسمعون بعير خرجت لقريش إلا تعرضوا لها، يقتلون رجالها، ويأخذون مالها، فلم يكن من مصلحتهم التمسك بشرطهم. بل إنهم تركوا الأخذ بالشرط، وأنهم إذ كانوا لا مأوى لهم، لهم الحق بأن يفعلوا بهم جزاء ما آذوهم، ولا حلف معهم إلا الأذى الذى قدموه لهم، وخوف الفتنة دفعهم لأن يقفوا ذلك الموقف منجاة لأنفسهم.
أرسلت قريش إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تناشده الرحمة إلا آواهم، وضمهم إليه، ولا يردهم. كان هذا الشرط الذى أزعج النفس المؤمنة ماله أن يكون خيرا للمؤمنين، وهو شرط عليهم، إنها النبوة التى أدركت ما لا يدركه عمر، ولا غيره، وإنه إلهام الله الذى جرى على لسان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم «سيجعل للمستضعفين فرجا ومخرجا» .
وإنه لما توسلت قريش إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في إلغاء العمل بهذا الشرط، أرسل إلى أبى بصير أن يجيء إلى المدينة المنورة هو ومن معه، ليكونوا قوة للمؤمنين، فكتب إليه بالمجيء إلى المدينة المنورة، ولكن الكتاب لم يصله إلا وهو على فراش الموت، فتوفي، ولكن رجع أصحابه إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.