الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التنبيه الثالث:
أنه لم يكن ذلك الحكم هو الوحيد الذى كان في غزوة الحديبية، وإن كان ثبوت هذا الحكم بالنفي، بل هناك أحكام أخرى ثبتت بعمل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قد عقد لها ابن القيم في كتابه (زاد المعاد في هدى خير العباد) فصلا قائما بذاته فلنتبعه في ذلك.
أحكام فقهية أخرى:
515-
نشير هنا إلى بعض ما ذكره ابن القيم:
(أ) منها إن الإحرام بالعمرة في أشهر الحج يجوز ويصح ويلزم الاستمرار فيه، وأن الإحرام بالعمرة وإن كان يجوز من غير مواقيت الإحرام، وهى الأماكن التى خصها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن المسافر عليه أن يحرم بالحج قبل اجتيازها، غير أن الإحرام من الميقات للعمرة أفضل، فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم أحرم بها من ذى الحليفة، كما أحرم بالحج.
(ب) ومنها أن إشعار الهدى سنة وأنه لا مثلة فيه، وذلك بأن يحدث في جسمه عند سوقه ما يدل على أنه مخصص للذبح في مكة المكرمة، وبالتالى فإن سوق الهدى للعمرة سنة في ذاته عند الإحرام، وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ساق الهدى وأشعره، وكان في جملة ما ساق من هدى جمل لأبى جهل كان من أنفال بدر، وإن كان مغايظة للمشركين، وهذا يدل على أن غيظ المشركين ليفل من حدة سلطانهم، ولإثبات أن كلمة الله هى العليا، وأن العاقبة للمتقين، وأنه سبحانه وتعالى قال: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ، إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (التوبة- 120) ومنها جواز الاستعانة بالمخلص من غير المسلمين إذا كان في الاستعانة به فائدة ولا ريب فيه، ولا مظنة لأن يترتب على الاستعانة إيذاء، من أى نوع كان، وإلا يمنع سدا للذريعة وذلك لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم استعان بعيينة الخزاعى، وكان كافرا، وجعله عينا على المشركين وكان أقرب إلى أن يعرف أحوالهم، لاختلاطه بهم، والمصلحة في ذلك، ولا ضرر. والحق في هذه القضية أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يستعن به ابتداء، بل إنه هو الذى قدم معلوماته، وإن خزاعة مسلمهم وكافرهم كانوا على مودة بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
ولذلك عند ما تم العهد بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وبين قريش دخلوا في عهده ولم يدخلوا في عهد قريش كبنى بكر، ورد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم للمشركين عهدهم عند ما عاونوا بنى بكر على خزاعة واستعد لفتح مكة المكرمة.
وذكر ابن القيم أن من الأحكام الفقهية التى ظهرت في الحديبية استحباب مشورة الإمام رعيته وجيشه استخراجا لوجه الرأى وأمنا لطاعتهم، وتعرفا لمصلحة يختص بها بعضهم دون بعض، واستجابة لأمر الله في قوله تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (آل عمران- 159) . وقد مدح سبحانه وتعالى عباده المؤمنين، بقوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ (الشورى- 38) .
ونحن نرى أن النصوص توجب أن يستشير الإمام الرعية في إدارة شئونهم، وقد نرى استحباب ذلك في القتال، لا في شئون الكافة.
ومنها أن المشركين والفجار والفسقة وأهل البدع إذا طلبوا أمرا يعظمون به حرمة من حرمات الله تعالى، أو أمرا هو حق في ذاته أجيبوا إليه، فكل من يطلب أمرا هو حق في ذاته، أو محبوب لا إثم فيه، أجيب الطلب، ولو كان فاسقا مبتدعا، أو باغيا على الحق، أو مشركا، إلا أن يكون في ذلك ما يؤدى إلى التجرؤ على أهل الحق أو معاونة آثم لذات الإثم وإن ذلك موقف دقيق، إذ التعرف على حق لا يجر إلى باطل أمر دقيق لا يدركه إلا أهل الإيمان وأهل الإدراك السليم.
ومنها أن الحرم ليس مقصورا على المسجد الذى هو مكان الطواف؛ بل الحرم يشمل ذلك، وما حول مكة المكرمة، وأن كلمة الحرم تشمل كل ما حول مكة المكرمة.
ومنها أن المحصر بالحج أو العمرة وهو الذى يمنع من الوصول إلى البيت الحرام، وقد أحرم لزيارته معتمرا أو حاجا ينحر الهدى حيث أحصر، ومنها أن المصالحة مع الكفار جائزة، ولو كان فيها ضيم ظاهر إذا ترتب على ذلك مصلحة للمسلمين، والضيم ظاهر، والعبرة بالنتيجة، وإن كان الضيم في ذاته ضرر، فإنه يقدم بدفع أقل الضررين، وإن الصلح بين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وكفار قريش في هذا الوقت كان خيرا في عواقبه، وإن لم يكن ظاهرا لكل المؤمنين أو لكثرتهم.
وهكذا كانت أعمال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تفيد أحكاما شرعية، سواء أكانت تتعلق بتدبير مصلحى، أو عبادة مقررة ثابتة.
وإنه إذا كان الأمر مصلحة، وجب على كل مؤمن ومؤمنة أن يبدى ما يراه مصلحة، أو يعين على الواجب، لأن ذلك من قبيل النصيحة في الدين التى تجب المبادرة بها، فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم، «الدين النصيحة لله ولرسوله، ولكتاب الله، ولخاصة المسلمين وعامتهم» .
ولذلك تقدمت السيدة أم المؤمنين أم سلمة تطلب إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يبادر هو بالعمل، فإذا حلق ونحر تبعوه، لأن العمل يؤثر في الاتباع أكثر من القول، ولم يجد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غضاضة في أن يتبع ما أشارت به غير متردد، لأن الحق أحق أن يتبع، ولأن الحق