المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قوله، فقال عليه الصلاة والسلام: «سيروا وأبشروا، فإن الله قد - خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم - جـ ٢

[محمد أبو زهرة]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة]

- ‌ الجزء الثانى

- ‌إنشاء دولة الإسلام

- ‌ الأهداف الاجتماعية والدولية للدولة الإسلامية

- ‌[تهذيب النفس]

- ‌[تكوين الأسرة]

- ‌رأى عام

- ‌الكرامة

- ‌العدالة

- ‌التعاون

- ‌مع اليهود

- ‌الرحمة والمودة

- ‌[رعاية المصلحة الاجتماعية بضوابط قرآنية]

- ‌أولهما: [المنفعة العامة والمنفعة الخاصة]

- ‌الأمر الثانى: [المصلحة امعنوية]

- ‌أول أعمال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌الإخاء

- ‌أولا: عقد الألفة بين الضعيف والقوي

- ‌وثانيا: [تطهير النفس من العصبية الجاهلية]

- ‌ثالثا: [نسيان الضغائن والأحقاد السابقة]

- ‌رابعا: [تشريع نظام يبني وحدة المسلمين]

- ‌الألفة بين سكان المدينة المنورة

- ‌التكليف الاجتماعى والاقتصادى والسياسى والحربى

- ‌عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على اليهود

- ‌نظرة في هذه الوثيقة:

- ‌الأذان

- ‌الإذن بالقتال

- ‌أول القتال

- ‌أول السرايا

- ‌سرية حمزة رضى الله عنه:

- ‌سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب:

- ‌سرية سعد بن أبى وقاص:

- ‌خروج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم للجهاد

- ‌الحرب الفاضلة أو حرب النبوة

- ‌الفضيلة في الحرب

- ‌قبل المعركة:

- ‌فى المعركة:

- ‌الفضيلة:

- ‌احترام الكرامة الإنسانية:

- ‌انتهاء الحرب

- ‌معاملة المهزومين

- ‌الأسرى

- ‌حرب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عبادة

- ‌الخلاصة

- ‌أدوار الحرب المحمدية

- ‌والدور الثانى:

- ‌الدور الثالث:

- ‌الدور الأوّل

- ‌غزوة ودان: [الأبواء]

- ‌غزوة بواط:

- ‌غزوة العشيرة

- ‌بدر الأولى:

- ‌سرية عبد الله بن جحش:

- ‌القتال في الشهر الحرام:

- ‌لماذا كانت هذه الغزوات:

- ‌تحويل القبلة وفرض الصوم

- ‌تحويل القبلة إلى الكعبة الشريفة

- ‌صوم رمضان

- ‌الدور الأوّل:

- ‌الدور الثانى:

- ‌ الدور الثالث

- ‌فريضة زكاة الفطر

- ‌يوم الفرقان بدر العظمى

- ‌العير:

- ‌الجيشان

- ‌التقاء الجمعين يوم الفرقان

- ‌القيادة والتنظيم

- ‌التنظيم:

- ‌المعركة

- ‌القتل والأسر:

- ‌نتائج المعركة وأعقابها

- ‌الكرامة الإنسانية في أعقاب المعركة:

- ‌الأسرى

- ‌بيان الله تعالى لخطأ الأسر

- ‌الأنفال

- ‌أثر المعركة في المدينة المنورة

- ‌ اليهود

- ‌إخراجهم من المسجد:

- ‌إفساد اليهود بين المسلمين

- ‌ليسوا سواء

- ‌الغيرة:

- ‌ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن

- ‌فى الفترة بين بدر وأحد

- ‌المعاقل والديات

- ‌بناء على بن أبى طالب بفاطمة رضى الله عنهما:

- ‌حروب في الفترة بين الغزوتين الكبيرتين

- ‌غزوة السويق

- ‌غزوة ذى أمر

- ‌غزوة الفروع من بحران

- ‌تكشف الوجه اليهودى في قينقاع

- ‌موقعة بنى قينقاع:

- ‌سرية زيد بن حارثة

- ‌كعب بن الأشرف اليهودى

- ‌غزوة أحد

- ‌القوة بدل العير

- ‌لقاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لهم

- ‌النبى عليه الصلاة والسلام يعد المؤمنين للقتال:

- ‌المنافقون:

- ‌مقاعد القتال:

- ‌الجيشان

- ‌المعركة

- ‌ابتداء القتال:

- ‌الخسارة الفادحة- مقتل حمزة مع المضاء في القتال:

- ‌الغنائم القاتلة:

- ‌من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه

- ‌فرحة أبى سفيان بالنصر القريب

- ‌وصف المعركة في القرآن الكريم

- ‌تمام المعركة

- ‌خروج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:

- ‌رحمة النبى القائد صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌العدد والحساب

- ‌العبرة فيما أصاب المسلمين:

- ‌دعاء الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في أحد:

- ‌أعقاب أحد

- ‌اليهود:

- ‌الأحكام المستفادة مما أتبعه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في أحد

- ‌صدى أحد وسرايا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌سرية لبنى أسد

- ‌يوم الرجيع

- ‌سرية عمرو بن أمية ويوم بئر معونة

- ‌بئر معونة:

- ‌غزوة بنى النضير

- ‌إجلاؤهم:

- ‌أحكام شرعية اقترنت بغزوة بنى النضير

- ‌غنائم بنى النضير والحكم العام في الغنائم كلها

- ‌تحريم الخمر

- ‌أثر غزو بنى النضير في يهود

- ‌غزوة ذات الرقاع

- ‌صلاة الخوف

- ‌فى ذات الرقاع:

- ‌النبى بين أصحابه

- ‌غزوة بدر الآخرة

- ‌غزوة دومة الجندل

- ‌النبى في المدينة

- ‌غزوة الخندق

- ‌كيف كانت غزوة الخندق وأسبابها:

- ‌حفر الخندق:

- ‌الجوع والطعام:

- ‌اللقاء

- ‌عين من اليهود حول أطم آل النبى:

- ‌الجيشان:

- ‌اجتياز الخندق

- ‌الهجوم على بيوت المؤمنين

- ‌دعاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم واستجابته

- ‌نتائج غزوة الخندق

- ‌غزوة بنى قريظة

- ‌أمر الله:

- ‌نزولهم على حكم سعد بن معاذ:

- ‌نظرة في الحكم:

- ‌أحكام شرعية

- ‌توزيع الغنائم:

- ‌تنبيهات:

- ‌478- أولها:

- ‌الثانى:

- ‌الثالث:

- ‌الإيماء بالصلاة للضرورة

- ‌مدة غزوة الخندق

- ‌زواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأم المؤمنين زينب

- ‌منع دخول بيوت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من غير استئذان:

- ‌وجوب الاستئذان عامة:

- ‌غزوة بنى لحيان

- ‌غزوة ذي قرد

- ‌غزوة بنى المصطلق

- ‌إثارة فتنة وإطفاؤها:

- ‌الأسرى والسبايا من بنى المصطلق:

- ‌خطأ في الإدراك:

- ‌حديث الإفك

- ‌الأثر النفسى من على كرم الله وجهه:

- ‌حد القذف

- ‌حد اللعان

- ‌حد الزنا

- ‌الحديبية

- ‌غزوة الحديبية:

- ‌المراسلة بين الفريقين:

- ‌غدر وعفو:

- ‌رسول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:

- ‌بيعة الرضوان

- ‌عقد صلح على هدنة

- ‌كتابة الصلح:

- ‌أبو جندل:

- ‌التحلل من الإحرام:

- ‌أحكام ثبتت في الحديبية

- ‌تنبيهات:

- ‌514- الأوّل:

- ‌الثانى:

- ‌التنبيه الثالث:

- ‌أحكام فقهية أخرى:

- ‌كانت الحديبية فتحا

- ‌تنفيذ الصلح

- ‌هجرة المستضعفين:

- ‌سرايا وبعوث

- ‌سرية عكل وعرينة

- ‌حد الحرابة

الفصل: قوله، فقال عليه الصلاة والسلام: «سيروا وأبشروا، فإن الله قد

قوله، فقال عليه الصلاة والسلام:«سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدنى إحدى الطائفتين، والله لكأنى أنظر إلى مصارع القوم» .

هذا هو جيش النبى صلى الله عليه وسلم عقد العزم، وتؤيده قوة الله سبحانه وتعالى.

‌الجيشان

378-

رأيت الجيش النبوى قد ربط نفسه وقلبه بالحق، ولكن عدده قليل، وعدته ناقصة، فلم يكن فيه إلا فرسان وأربعون بعيرا لأكثر من ثلاثمائة مجاهد، فكانوا يعتقبون البعير، يتبادله أكثر من أربعة، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يعتقب معهم، حتى إذا كان سيره أرادوا إعفاء النبى صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: لست أقل منكم قوة، ولا أقل منكم طلبا للأجر.

وجيش الشر كان خمسين وتسعمائة كما ذكرنا، وكان معهم سبعون فرسا، وكان معهم العدد الكثير الذى يركبونه والذى يذبحونه في مأكلهم، ولكنه تنقصه العزيمة والإيمان، بل الرغبة القاطعة في القتال، فالتردد فيه قد كان من كثيرين منهم، ومنهم من تورط في القتال، ولم يكن له فيه إرادة.

(أ) إنهم خرجوا من أجل حماية عيرهم، ودفعتهم الرغبة في حماية حماها. إلى أن يتقدموا على الصعب والذلول لحمايتها. وإنهم إن لم يفعلوا فقدوا المال ومعه النعمة، ونالتهم المهانة في العرب، وقد أرسل إليهم أبو سفيان يذكر لهم أنه نجا بالعير، وقال:«إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله فارجعوا» .

وإذا زال السبب فليس لهم ما يبعث حميتهم لقتال، ولكن الحقد الدفين، والحسد لبنى هاشم حرك أبا جهل، فدفعهم إلى المضى في القتال حقدا وحسدا، واندفع معه من هو على شاكلته.

(ب) وجاء بنو زهرة فتخلفوا جميعا لهذا السبب، وقال قائلهم، لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة، ورموا أبا جهل بالحمق والجهل.

(ج) إن بعض القرشيين الأقوياء الذين لهم مكانة في قومهم ترددوا في الخروج كأمية بن خلف، فإنه امتنع عن الخروج، جاء في سيرة ابن إسحاق أن أمية بن خلف، كان قد أجمع القعود، وكان شيخا جليلا جسيما فأتاه عقبة بن أبى معيط وهو جالس في المسجد بين ظهرانى قومه بمجمرة يحملها نارا ومجمرا (أى بخورا) حتى وضعها بين يديه. ثم قال: يا أبا على استجمر فإنما أنت من النساء.

ص: 549

قال أمية: قبحك الله، وقبح ما جئت به- وتجهز ذلك الرجل ذو المكانة من غير حماسة، ولكن خشية الملامة، وأبو لهب الذى كان يخذل الوفود العربية في الحج عن متابعة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، امتنع عن أن يذهب إلى القتال بنفسه وأناب عنه العاصى بن هشام بن المغيرة في نظير تركه دينا له كان قد أفلس به، فجعله في نظير خروجه.

ولم يذهب طالب بن أبى طالب، لأنه كما قال بعض القرشيين: كان هوى بنى هاشم مع محمد الهاشمى صلى الله تعالى عليه وسلم.

وكان خروج العباس، وهو الهاشمى الأوّل غريبا لأنه كان يذهب مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عند لقائه مع الأوس والخزرج في العقبة الثانية، ويطمئن على حمايتهم للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ويبين لهم أنه في منعة من قومه، وأنهم إن لم يمنعوه، فليتركوه في حماية قومه، فما كان ليخرج ويقاتل جيش ابن أخيه. وهو يريد هزيمته، بل خرج ليدرأ عن نفسه ملامة قريش الذى يعد من كبرائها، وليكون له دائما السلطان فيهم، ولا يكون فردا ما بينهم.

وإنا نحسب أن أبا سفيان نفسه لم يكن مؤمنا بضرورة هذه الحرب بدليل رسالته التى أرسلها إلى قريش.

(د) وإن قريشا في جملتها خافت من الحرب، ذلك أنهم بعد أن فرغوا من جهازهم وأجمعوا المسير، ذكروا ما كان بينهم وبين بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، فخشوا أن يأتوهم من ورائهم، وقال قائلهم إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا. ونراهم قد فزعوا من الحرب، وظنوا أن ما وراءهم من عورات أكثر مما يستقبلهم من حروب، فما كانوا مؤمنين بالحرب، ولا معتزمين لها إلا ما كان ممن أعماهم الحقد والجهل والحسد- وهم أيضا كانوا يرهبون المؤمنين، ويخافونهم، وكان من بعضهم عند ما التقى الجمعان أو أوشكا على اللقاء في وقت يثبط عن القتال، وقد صار قاب قوسين أو أدنى، ولعله كان يثبط لحقن الدماء، وقد بدا من كلامه ما يدل على أنه يريد الرحم لا الحرب مع الاختلاف في العقيدة.

روى ابن إسحاق بسنده، أنه لما اطمأن القوم (أى المشركون) بعثوا عمير بن وهب الجمحى فقالوا: أحزروا لنا أصحاب محمد. فاستجال بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا، أو ينقصون، ولكن أمهلونى حتى أنظر للقوم كمينا أو مددا فضرب في الوادى حتى أبعد، فلم ير شيئا، فقال: ما وجدت شيئا- ولكنه بين رهبة الموقف وأن العبرة ليست بالعدد، ولكن بقوة النفس وإرادة الموت، فقال مخاطبا الجيش، وهو على أهبة القتال:

ص: 550

«يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح «1» يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم، فإن أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك، فروا رأيكم» .

سمع حكيم بن حزام ذلك القول، ومشى في الناس، فذهب إلى عتبة بن ربيعة فقال له: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، هل إلى أمر لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر، قال:

وما ذاك يا حكيم، قال: ترجع بالناس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمى (أى الذى قتل في سرية عبد الله بن جحش) قال: قد فعلت أنت على بذلك. إنما هو حليفى، فعلى عقله.

بعد ذلك مباشرة قام عتبة بن ربيعة خطيبا، وقال:

يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه أخيه يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذلك الذى أردتم، وإن كان غير ذلك ألقاكم، ولم تتعرضوا منه ما يريدون.

تسامع الجيش بذلك، ولكن كان أبو جهل حامل الحطب يريدها ويدفعه الحسد، فحرض عامر ابن الحضرمى أخا عمرو الذى قتله أصحاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على المناداة بثأره فصرخ واعمراه. فحميت النفوس واشتد الناس واجتمعوا على ما هم عليه من الشر.

وننتهى من هذا إلى أن إرادة الحرب كانت ضعيفة مترددة عند قريش وفي جيشها، إذ زال باعثها وداعيها وتردد ذوو الرأى فيهم، ومنهم من تنادى بالرحم ومنهم من أفزعه حال أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وإرادتهم الموت في سبيل الله سبحانه وتعالى.

فكانت إرادة القتال غير ثابتة، وقوة الجيش تبتديء بالعزمة والإرادة، وما كان من بعضهم إلا انفعالة الحقد، وهى إن أجدت في الابتداء والتحريض لا تستمر عند اللقاء، وعند ما تعض الحرب بنابها، هذه حال جيش الباطل يبدو التخاذل في صفوفه، ووراء التخاذل والتردد الهزيمة لا محالة.

وإنا نقول إن رحمة الله سبحانه وتعالى بأهل الإيمان أن جعل جيش الباطل يحمل في نفسه ذرائع انهزامه، وعوامل خذلانه.

(1) النواضح: الإبل التى يستقى بها الماء، أو تحمله.

ص: 551

379-

ولننتقل إلى الجانب الفاضل. وهو جيش محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فقد أجمع القتال، ولم يكن الباعث عليه ما لا يبتغونه، ولا عرضا من أعراض الدنيا يريدونه، ولكنه عدو الله قد جاء إليهم، فلا بد لهم من أن يخوضوا استجابة لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن لهم إحدى الحسنيين، إما الغنم وإما الشهادة وكلاهما غنيمة في ذات نفسه.

عند ما رأى المشركون المؤمنين بعين المتحسس منهم هالهم حالهم فاسترهبوهم، وهم القلة الذين بلغوا نحو ثلاثمائة وازدادوا تسعة، وقال ابن كثير: إنهم كانوا ثلاثة عشر وثلاثمائة عدا.

وعلى ذلك أرى الله سبحانه وتعالى المؤمنين المشركين قلة يستهان بها، ولا تهولهم حالها، وقد رأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك بالرؤيا الصادقة، ورأوهم كذلك رأى العين، وقد قال الله سبحانه وتعالى في ذلك: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا، وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ، وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ، وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا، وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا، وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (الأنفال 43- 44) .

ونرى من هذا أن المشركين كانوا يهلعون من اللقاء، ويترددون ساعته إلا من ركبت الحماقة رؤوسهم، بينما المؤمنون في بشرى من الله سبحانه وتعالى، يستصغرون شأنهم، ويتقدمون غير راهبين، ولا يستنيثون إلا بالله، والله سبحانه وتعالى يلقى في نفوسهم الطمأنينة، والروحانية تظلهم والله سبحانه وتعالى يعينهم، ويمدهم في ذات أنفسهم بالملائكة وفي قلوبهم بالأمن والدعة، وهم ينامون مطمئنين واثقين بالنصر راجين ما عند الله سبحانه وتعالى ولا يستعينون إلا بذاته الكريمة، ولقد قال الله سبحانه وتعالى في حالهم، وهم مقبلون على المعركة:

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ، فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ.

وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً، لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ، وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ، وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ. إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ، فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا، سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ، فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (الأنفال: 9: 13) .

ثم يقول سبحانه: ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (الأنفال- 18) .

ص: 552

جيشان قد تلاقيا أحدهما كثير العدد، والعدة، ولكنه فاقد الإيمان، حتى بالحرب التى أقدم عليها، فقد أوهن الله سبحانه وتعالى كيده وتدبيره، أوهنه بإزالة الباعث على القتال، وأوهنه بالتردد في بعض كبرائهم، وأوهنه بانفصال بعض بطونهم، وأوهنهم بإثارة الأرحام التى قطعوها، وألقى الله سبحانه وتعالى في قلوبهم الرعب عند ما التقى الجمعان.

هذه حالهم، أما حال المؤمنين فإرادة مؤمنة مجمعة، وبشرى من الله سبحانه وتعالى بالملائكة وإيحاء إلى الملائكة بتثبيت المسلمين وإلقاء الطمأنينة في قلوبهم، حتى غشاهم النعاس أمنة، وأرسل لهم المطر خفيفا لتثبت الأرض تحت أقدامهم، واستبدلوا بطلب العير طلب العزة، فقد أرادوا المال ابتداء، ثم أرادوا إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، كانوا يودون المال، وبعزة الله سبحانه وتعالى أرادوا القوة والعلياء، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ، وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ (الأنفال- 7) ، جيشان درع أحدهما بالعدد والعدة مع الوهن، والثانى درع بالعزيمة والإيمان والصبر، والرغبة في الشهادة، وإنها إحدى الحسنيين، فإما نالوها، وإما نالوا النصر، وفي كليهما الغنم الكثير.

فهل هما متكافئان؟ أقول إن أهل الخبرة في الحروب يقولون إنهما غير متكافئين، ذلك أن قواد الحروب في القرنين الحاضر والسابق قدروا أثر القوة الحربية المادية بالنسبة للقوة المعنوية بواحد إلى ثلاثة أى أن نتائج النصر أو الهزيمة يكون للقوة المادية فيها الربع. وللقوة المعنوية الروحية ثلاثة الأرباع، وإذا كان عدد المشركين ألفا فهو ألف، أما عدد المؤمنين في ميزان القوة فهو مائتان وألف على الأقل فوق تأييد الله سبحانه وتعالى بالملائكة إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا (الأنفال: 12) ، وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى (الأنفال- 17) .

وإن تقدير النسبة بين قوة المادية إلى قوة الروح بواحد إلى ثلاثة هو تقدير أهل الخبرة، وهم يخطئون ويصيبون، أما تقدير الله سبحانه وتعالى فهو أعلى من ذلك إذ قدر الواحد من أهل الإيمان في حال القوة التى لا ضعف معها، بعشرة من أهل الكفر، فقال الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ، وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ، وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (الأنفال- 64، 65) .

ص: 553