الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونحن لا ننكر خوارق العادات، ولا يمكن أن ننكرها قط على نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ولكن يجب أن نؤكد هنا، ما أكدناه من قبل، وهو أن هذه الخوارق التى أجراها الله تعالى على يد رسوله محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ليست هى معجزته التى تحدى فيها الناس أن يأتوا بمثلها، إنما المعجزة الكبرى هى القرآن الذى تحدى العالمين أن يأتوا بمثله، ولا يمكن أن يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
الجوع والطعام:
461-
قلنا إن حفر الخندق اقترن بمشقة شديدة في الحفر ذاته، وبمشقة أشد في الجوع للبعد عن قلب المدينة، ولانقطاع المؤمنين عن العمل للرزق، بالانصراف للحفر، غير مدخرين أى جهد لغيره، وحتى ما يقوم به الأود، وإن الجهاد في سبيل الله غذاء النفوس يقبلون عليه ولو تعبت في سبيله الأبدان، وأرهقت الأجساد؛ لأنهم يريدون ما عند الله، وعنده الفوز العظيم.
وإن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هو الأسوة الحسنة في الصبر وضبط النفس، والجلادة وتحمل الجوع، حتى إنه صلى الله تعالى عليه وسلم ليشد الحجر على بطنه حيث لا يجد ما يذوقه.
لقد عرض البخارى حديث جابر عن الكدية، وجاء فيه «إنا يوم الخندق نحفر حفرة، فعرضت كدية شديدة، فجاؤا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام، لا نذوق ذواقا» .
تلك صورة للجوع الذى كانوا فيه، وهم يجالدون، ويبذلون ما لا يبذله إلا أقوياء الرجال في دينهم ونفوسهم، وهنا نجد الخوارق تكون في بركة الطعام القليل الذى يتغذى منه العدد الكثير.
ويذكر ابن إسحاق في ذلك روايتين في بركة الطعام.
أولاهما: البركة في تمر ابنة بشير: ذكر ابن إسحاق بسنده «أن ابنة لبشير بن سعد أخت النعمان بن بشير حدثت فقالت: دعتنى أمى عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة الشاعر الأنصارى فأعطتنى حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أى بنية اذهبى إلى أبيك وخالك عبد الله بن رواحة بغذائهما فأخذتها، فانطلقت بها، فمررت برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا ألتمس أبى وخالي، فقال عليه الصلاة والسلام: «تعالى يابنية ما هذا الذى معك» فقلت: يا رسول الله هذا تمر بعثتنى به أمى إلى أبى بشير بن سعد وخالى عبد الله بن رواحة يتغذيانه.
قال صلى الله تعالى عليه وسلم: هاته. فصببت في كفى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فما ملأهما ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دعا بالتمر عليه، فتبدد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده اصرخ في أهل الخندق أن هلمّ إلى الغداء فاجتمع أهل الخندق، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب.
الثانية: وهى تشبه هذه. وإن كان قد اختلف موضوعها، ذكر ابن إسحاق عن جابر بن عبد الله أنه قال: عملنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الخندق، وكانت عندى شويهة ليست جد سمينة، فقلت: لو صنعناها لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأمرت امرأتى فطحنت لنا شيئا من الشعير، صنعت لنا منه خبزا، وذبحت تلك الشاة، فشويناها لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. فلما أمسينا وأراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الانصراف من الخندق، قلت: يا رسول الله إنى قد صنعت لك شويهة كانت عندنا، فأحب أن تنصرف معى إلى منزلي، وإنما أريد أن ينصرف معى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وحده، فلما قلت له ذلك قال نعم، ثم أمر فصرخ صارخ أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى بيت جابر بن عبد الله. قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون.
أقبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأقبل الناس معه، فجلس وأخرجناها إليه فبرك وسمي، ثم أكل، وتواردها الناس، وكلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس، حتى صدر أهل الخندق عنها، أى أن الشاة غير السمينة كفتهم جميعا.
ولا شك أن هذين الخبرين بهاتين المسألتين يدلان على خارق للعادة جرى على يدى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكم للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك من خوارق، منه ما ذكرنا، فى لقائه عليه الصلاة والسلام، وغذائه في بيت أم معبد وهو في طريقه إلى الهجرة.
وإن الخبر يدل فوق ذلك على الجهد الشديد الذى أصاب الصحابة ومعهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم من قلة الطعام.
ويدل على أمر سام، وهو فضل التعاون، وهو أنه كان لا ينفرد أحدهم بطعام عن الباقين بإرادة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وهديه وحكمته.