الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فملأها، فذهبوا ليخرجوه فتزايل لحمه. فأقره، وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة.
وهكذا، فعل ليوارى سوآتهم، وليحمى أجسامهم من سباع البهائم، وسباع الطير.
قال ابن إسحاق: حدثنى بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال مخاطبا جثث القتلى: «يا أهل القليب، بئس عشيرة كنتم لنبيكم، كذبتمونى، وصدقنى الناس، وأخرجتمونى، وآوانى الناس، وقاتلتمونى، ونصرنى الناس، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا، فإنى قد وجدت ما وعدنى ربى حقا» .
ويروى أنه نادى طائفة من زعماء الشر فيهم، أو كبراءهم، فقد روى أنه كان يقول:«يا عتبة ابن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام- فعدد من كان منهم بالقليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإنى قد وجدت ما وعدنى ربى حقا» ويظهر أن الواقعة قد تعددت.
فقال الحاضرون: يا رسول الله، أتنادى قوما قد جيفوا، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم:«ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوا» .
ومعنى أسمع: أعلم بحقيقة ما أقول، لأن السمع الحقيقى يحتاج إلى جارحة السمع، وقد فقدوها بالقتل، ولأن الله سبحانه وتعالى يقول: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (فاطر- 22) وفي رواية عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «لقد علموا ما أقول» .
والعبرة في هذه المسألة أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد عمل على كرامة الإنسان بمواراة سوآت هؤلاء، وليبين للأحياء المسلمين الاعتبار في هذه المعركة، وهو أن الله صدق وعده، ونصر عبده، وهزم عدو الله سبحانه وتعالى وعدوهم.
الأسرى
388-
أسر من المشركين سبعون، وقد علمت أن سعد بن معاذ رضى الله تبارك وتعالى عنه كان يكره الأسر، ويريد القتل، حتى يثخن المشركين، وذكر للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم رأيه، وأنه كره الأسر، ولكن سياسة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كانت تتجه إلى الاستبقاء بدل القتل، عسى أن يسلموا، ويكونوا قوة للإسلام ولأن يكونوا مؤمنين ولو مالا، خير من أن يقتلوا كفارا في عجلة الحرب.
والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم لا يعمل عملا إلا بمشورة أصحابه، مادام الوحى لم ينزل بأمر، فهو يجتهد فيما يفعل، لا فيما يشرع، وإذا اجتهد في عمل، فالشورى روح العمل، وقوة الجماعة.
قال الإمام أحمد في مسنده بروايته: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما تقولون في هؤلاء الأسرى، فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك، استبقهم، واستأنهم، لعل الله أن يتوب عليهم.
وقال عمر: يا رسول الله، أخرجوك وكذبوك، قربهم فاضرب أعناقهم؟
وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب، فأدخلهم ثم أضرمه عليهم نارا.
استمع إليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد ابتدأ الرأى رفيقا ثم اشتد حتى صار حريقا، فدخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وتركهم مليا، ليتدبروا مغبة كل قول، ثم خرج عليهم.
فقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله ليلين قلوب رجال، حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله سبحانه وتعالى ليشد قلوب رجال، حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم، قال:
فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (إبراهيم- 36) . ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى، قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ، فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ، فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وإن مثلك يا عمر كمثل نوح، قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (نوح: 26) . وإن مثلك يا عمر، كمثل موسي، قال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (يونس- 88) .
انتهت الاستشارة بأن أبدى رأيان، أحدهما رفيق مؤلف، لا جفوة فيه وهو رأى الصديق رضى الله تعالى عنه، والثانى رأى عنيف، وهو رأى الفاروق عمر بن الخطاب، رضى الله تبارك وتعالى عنه، ويتبع ذلك فى عنفه بأشد في طريقته، وهو رأى عبد الله بن رواحة، إذ كان رأيه القتل بالحرق.
وقد رأى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأخذ بمبدأ الفداء، إذ فيه رفق أبى بكر، ونفع لجماعة المسلمين، وقد كانوا في غير غنى، ورخص في غير ذلك، فرخص لنفسه في القتل، ورخص لنفسه في المن من غير فداء، وإن كان الأكثر كان الفداء، وكان يسير في الفداء على مقدار الثروة للأسير، وفي العفو بالمن على مبدأ من كان يظن أنه أسلم، وخرج تقية، ويمن أيضا على من يرى في المن عليه كسبا للمسلمين.
وأنه يلاحظ أنه لم يمن على أحد من بنى هاشم مع أنه نهى عن قتلهم، وأنه يعلم أنهم خرجوا مستكرهين ولم يخرجوا محاربين.
وكيفما كانت حالهم من منّ أو فداء فقد أوصى بهم خيرا، وقد نزلوا عند الأنصار، وكأنهم في
ضيافة، لا في أسر، حتى إن الأنصارى كان يفضل الأسير في الطعام على أهله وعياله، وكان يرى الأسير ذلك، فيتعفف، فيشدد عليه الأنصارى، فكانوا يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة.
389-
لقد أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقتل عقبة بن أبى معيط، والنضر بن الحارث؛ لأنهما كانا قائدى الشرك في المعركة، ولأن عقبة هو الذى كان يحرض على القتال بعد أن نجت العير، وأراد بعض كبراء قريش أن يكتفوا بذلك، ولا يقاتلوا حفظا للرحم، كأمية بن خلف، وعتبة ابن ربيعة.
وروى الشعبى أنه لما أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بقتل عقبة قال: أتقتلنى يا محمد من بين قريش؟ قال: نعم، ثم التفت النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أصحابه، وقال: أتدرون ما فعل هذا بى؟ لقد جاء وأنا ساجد خلف المقام فوضع رجله على عنقى، وغمزها فما دفعها حتى ظننت أن عينى تدوران. وجاء مرة أخرى بسلا شاة فألقاها على رأسى وأنا ساجد، فجاءت فاطمة، فنسلت عن رأسى.
وكان مثل ذلك النضر بن الحارث، وكان حامل لواء المشركين. فكان قتله لما قدم من أذى، ولما فيه من إذلال الشرك وأهله.
وقد أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الفداء من ذوى الثراء من بنى هاشم، بل شدد فى الأخذ منهم ولم يقبل منهم إلا الفداء.
ولعل أدل شيء على شدته في أخذ الفداء من بنى هاشم مجاوبته مع عمه العباس بن عبد المطلب الذى كان يحبه، وكان يألم لأسره، والشد عليه بالوثاق.
ادعى العباس أنه أسلم من قبل، ومعنى ذلك أنه ليس عليه فداء، لأنه جاء مكرها لا محاربا.
فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم: أما ظاهرك فكان علينا، والله أعلم بإسلامك، وسيجزيك خيرا. فادعى أنه لا مال عنده يفدى به نفسه، ومن معه من بنى هاشم عقيل ونوفل ولدى أخيه، فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فأين المال الذى أودعت أنت وأم الفضل، وقلت: لو أصبت في سفرى هذا فهذا لبنى الفضل وعبد الله وقثم، فقال العباس رضى الله تعالى عنه: والله إنى لأعلم أنك رسول الله، إن هذا شيء ما علمه إلا أنا وأم الفضل.
وقد أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مائة أوقية من ذهب فداء له ولا بنى أخيه عقيل ونوفل، وعن حليف له هو عتبة بن عمرو أحد بنى الحارث بن فهر.
وهكذا أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الفداء، لاينى عن ثرى، ولا يعفو إلا عمن يرجى منه خير للإسلام، أو من يمن عليه في نظير أن يمن على مسلم أخذوه عنوة من غير حرب، كما فعل أبو سفيان في معتمر من أصحاب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أخذه، حتى يفك أسار ابن له، ففك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إساره لذلك.
وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يقبل من الفداء نوعا معنويا، وهو تعليم الأميين من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فإذا كان الأسير ليس له مال يفدى به نفسه، ولكن له علم بالقراءة، فإنه يكون فداؤه أن يعلم بعض الأميين من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم القراءة.
وقد من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم على ناس من الأسرى، منهم من كان يظن فيه الإسلام، وقد شهد عبد الله بن مسعود لسهيل بن بيضاء بالإسلام، فقد قال سمعته يذكر الإسلام.
فقبل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم شهادته، ومن عليه.
وممن من عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبو العاص بن الربيع الأموى زوج زينب بنت الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، فكان زوجا بارا مكرما لزوجه غير مضار لها. وقد أرادت قريش أن تحمله على طلاقها كما طلق ابن أبى لهب ابنة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فتأبى عن ذلك.
فقد كانت زينب رضى الله تعالى عنها بمكة المكرمة فأرسلت فداء لزوجها البار الطيب وبعثت في ضمن الفداء قلادة لها، كانت أم المؤمنين خديجة قد أدخلتها بها على أبى العاص حين بنى بها، فلما رآها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أثارت ذكريات الزوج الرفيقة الشفيقة والرحم، فرق لذلك رقة شديدة.
وكان للرسول الأمين أن يطلق سراحه، كما أطلق سراح غيره من بنى مخزوم وغيرهم، ولكن لكيلا يكون في نفس أحد ضيق أو حديث نفس، ولتطيب النفوس كلها جعل إطلاق سراحه للصحابة، فقال:«إن رأيتم أن تطلقوا أسيرها، وتردوا عليها الذى لها» ففعلوا.
ويجب أن ننبه هنا لأمرين:
أولهما- أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رأى ألا تبقى من بعد في مكة المكرمة، وألا تكون في فراش العاص من بعد، فأخذ عليه عهدا أن يخلى سبيلها رضى الله عنها، بأن تهاجر إلى المدينة المنورة، فوفى أبو العاص بذلك.
ثانيهما- أنه لم يكن قد نزل التفريق بين المسلم وغير المسلم، لأنها لا تحل له، إذ أن ذلك نزل عند الحديبية في سورة الممتحنة، فقد قال الله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ
الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ، فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ، فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ، وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ، وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا، ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (الممتحنة- 10) .
ويلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى أشار إلى سبب التحريم وهو الكفر، إذ قال الله سبحانه وتعالى:
فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ولم يقل إلى المشركين، والكفر يشمل الشرك وما عليه النصارى واليهود الذين كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام، وآمنوا بالتثليث، وألوهية المسيح، كما قال الله سبحانه وتعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وقال الله سبحانه وتعالى:
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ.
وهكذا منّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أناس كان يرى خيرا في المن عليهم، أو يرى فيهم عجزا عن أن يقدموا فداء.
فمنّ على المطلب بن حنطب بن الحارث من بنى مخزوم، ومنّ على صيفى بن أبى رفاعة ابن عائذ من بنى مخزوم، وممن منّ عليه أبو عزة عمرو بن عبد الله بن عثمان، وكان محتاجا ذا عيال فمن عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأخذ عليه عهدا ألا يظاهر عليه أحدا، وكان شاعرا، ولكنه نقض ما عاهد عليه الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، ولعب المشركون بعقله، فرجع إليهم بعد أن قرب من الإسلام أو دخل فيه، فقد قال مادحا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ من عليه من غير فداء في قصيدة:
من مبلغ عنى الرسول محمدا
…
فإنك حق والمليك حميد
فلما كان يوم أحد أسر أيضا، فطلب أن يمن عليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال له النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:«لا أدعك تمسح عارضيك، وتقول خدعت محمدا مرتين» ويروى أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال فيه «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» .
وهكذا فوض النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتصرف في الأسرى بما يكون خيرا في ذاته وللمؤمنين، فقتل من قتل منهم، وفدى كثيرين، ومنّ على بعضهم.