الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحويل القبلة وفرض الصوم
371-
لم يكن عمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الحرب وإرسال البعوث، وعقد المعاهدات، وتنظيم شئون المدينة المنورة وما حولها. لم يكن ذلك عمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقط، بل كان عمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع ذلك تنظيم الدولة بوحى من الله سبحانه وتعالى، فما كان ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحى يوحى، فأصل الجهاد بوحى من الله سبحانه وتعالى، ولكن الترتيبات الجزئية والترتيبات التنفيذية، وكل ذلك إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ليقوم بمثله من بعده عند انقطاع الوحى، وله في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أسوة حسنة، ولم يكن تنظيم الدولة فقط، بل كانت التكليفات التى يتلقاها عن الله سبحانه وتعالى من العبادات، والتكليفات الاجتماعية التى من شأنها أن تربى روحا قوية لتجعل من أتباع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قوة متحدة، فى نظام اجتماعى متماسك قوى تربطه أشد عناصر الترابط الاجتماعى الذى يكون مجتمعا متكافلا.
ولذلك كانت الفترة ما بين جمادى الآخرة، أو بالأحرى ما بين رجب ورمضان، أو الشطر الأكبر منه كانت تلك الفترة زمان شرعية أمور من العبادة، تتصل بتقوية النفس وتقوية المجتمع.
وفي هذه الفترة شرع تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة الشريفة، وفي هذه الفترة فرض صوم رمضان، وفرض مع صوم رمضان صدقة الفطر، وهما فرضان اجتماعيان كما سنبين.
وتحويل القبلة إيذان من الله سبحانه وتعالى بإزالة الأصنام، أو الأخذ في أسباب هذه الإزالة.
تحويل القبلة إلى الكعبة الشريفة
372-
عند ما فرضت الصلاة بعد الإسراء والمعراج على أنها خمس صلوات، وإن كان لها ثواب خمسين صلاة، إن أقيمت على وجهها، كانت قبلة المسلمين إلى الشام إلى بيت المقدس، ولكن تتوسط الكعبة الشريفة، فيكون الاتجاه إلى الكعبة الشريفة على ناحية بيت المقدس، فكان المصلى يجمع في صلاته بين القبلتين بأمر ربه.
ولما هاجر إلى المدينة المنورة لم يكن الجمع ممكنا، بل لا بد من استدبار إحدى القبلتين، وقد ترك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مكة المكرمة، والكعبة الشريفة تحيط بها الأوثان، ولم يكن ثمة ما يؤذن من الأمور بزوالها، فكان استقبالها لا يخلو من استقبال الأوثان المحيطة بها، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان حريصا على أن تكون الكعبة الشريفة هى القبلة، وحريصا على أن تزول الأصنام عنها.
وقد أمره الله سبحانه وتعالى بأن تكون القبلة إلى بيت المقدس مؤقتا، لأن الله سبحانه وتعالى لم يؤذن بأن تخرج الكعبة الشريفة عما هى عليه، ولعل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم علم بأمر ربه رأى أن استقبال بيت المقدس، واستدبار الكعبة الشريفة أمر مؤقت وأن النهاية إلى الكعبة الشريفة، وأن الاتجاه إليها إيذان بذهاب دولة الأوثان، وطهارة البيت الحرام.
ولذلك كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يضرع إلى الله سبحانه وتعالى أن يقرب الوقت الموعود بالعودة إلى الكعبة الشريفة، لأن العودة إلى الكعبة الشريفة عودة إلى كعبة إبراهيم أبى الأنبياء، ولأن الاتجاه إليها إيذان بنصر الله سبحانه وتعالى، وإيذان بإزالة الأوثان بعد زمن طال أو قصر، وإن كان في عمر السنين والحساب ليس كثيرا.
وفي هذا الوقت كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يضرع إلى الله سبحانه وتعالى أن يقرب البعيد، وكان اليهود يتوهمون أن جعل القبلة إلى بيت المقدس معناه أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم لا يكون خارجا عن أنبياء بنى إسرائيل، وهو وهم باطل سكن في نفوسهم التى تتخيل ثم تخال ثم تعتقد، كشأن أصحاب الديانات الذين لا يؤمنون بالديانة إلا على أن تكون أمانى لهم أو تتفق مع أمانيهم.
قبيل بدر كان الإيذان بزوال دولة الأوثان التى كان يومها يوم الفرقان، قد أذن الله سبحانه وتعالى بتحويل القبلة إلى الكعبة الشريفة، أو بالأحرى إعادة القبلة إلى الكعبة الشريفة، إذ نزل قول الله سبحانه وتعالى:
(البقرة- 142: 145) .
كان تحويل القبلة إلى الكعبة الشريفة، بهذا النص وهو يدل على أمرين:
أحدهما: أن أهل الكتاب هم الذين كانوا يقولون: ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا عليها، وأنهم كانوا فرحين، إذ أن المؤمنين كانوا يتبعون قبلة بيت المقدس.
ثانيهما: أن نص الآية يشير إلى أن جعل القبلة إلى بيت المقدس كان حكما مؤقتا يزول بزوال سببه، ولذلك لا نعتقد أنه نسخ، ولكنه انتهاء حكم مؤقت بانتهاء وقته المعلوم، وقد بين الله سبحانه وتعالى ذلك.
بقى أن تعرف الميقات الذى كان فيه التحويل!! لقد رويت في هذا روايات ظاهرها الاختلاف، ولكن الاتفاق على أنها كانت بعد جمادى الآخرة، والاختلاف أكان ذلك التحويل في رجب أم كان فى شعبان فروى عن قتادة وزيد بن أسلم وعبد الله بن عباس أن ذلك كان في رجب، وروى أنه كان في شعبان، وكلام ابن إسحاق يوميء إلى ذلك، إذ يقول إنها كانت بعد سرية عبد الله بن جحش، وما كانت في آخر رجب ويقول في هذا المقام:
«قال ابن إسحاق كانت بعد غزوة عبد الله بن جحش، ويقال صرفت القبلة في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدم رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم. وحكى هذا القول ابن جرير عن ابن عباس، وناس من الصحابة.. قال الجمهور الأعظم: إنما حولت في النصف من شعبان، على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة.. وعن محمد بن سعد الواقدى أنها حولت يوم الثلاثاء في النصف من شعبان.
ومهما يكن فقد ذكر الحافظ ابن كثير، أنه يميل إلى هذه الرواية التى تقول إنها في النصف من شعبان وذلك لأنه رأى الجمهور الأعظم، كما يقرر ابن كثير، وما كان الجمهور ليتجه إلى رواية إلا إذا ثبتت لديه صحتها، ورأينا دائما أن ما يتلقاه الناس وفيهم العلماء بالقبول لا يرد إلا إذا ثبت بدليل قاطع أو راجح بطلانه.
وإننا قد رأينا أن نصف شعبان يحتفل به المسلمون على أساس أنه يوم مبارك، والاحتفال به يتفق مع كونه اليوم الذى تحولت فيه القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة الشريفة، وكلاهما مقدس، إذ هو فرحة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم.
وعلى أننا نلاحظ أن ابن كثير قدر المدة بين الهجرة، أو مقدم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بثمانية عشر شهرا، وإنه باستقراء عدد الأشهر من وقت مقدم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى منتصف شعبان لا يكون قد مضى ثمانية عشر شهرا، ذلك أن الهجرة كانت في ليلة الثانى عشر من ربيع الأوّل، فإذا احتسبنا ربيع الثانى وجمادى الأولى والآخرة، ورجبا يكون سبعة عشر شهرا وأياما.