الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكانوا في سبيل ذلك يسألون النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أسئلة معنتة لا لتتبين نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم، بل يرجون من توجيه هذه الأسئلة ألا يجيب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عن بعضها، فيتخذوا ذلك ذريعة للتشكيك، وإلقاء الريب في قلوب المؤمنين، ولنذكر شيئا من هذه المحاولة.
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن
398-
جادلهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالتى هى أحسن، وهو يعلم أنهم يريدون الكيد بالمسلمين وإلقاء الرعب في قلوبهم، رجاء أن يجدوا ثغرة في الرسالة يطيرون بها فرحا، ولكن الله سبحانه وتعالى أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يجادلهم، فقال الله سبحانه وتعالى وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (النحل- 125) . لأن ذلك سبيل من سبل الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
كانوا يسألون، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم يجيبهم بما آتاه الله سبحانه وتعالى من علم القرآن الكريم والحكمة، فيرد كيدهم في نحرهم، وتثبت الرسالة المحمدية، ويذهب ريب كل مرتاب.
لقد سألوه متى تقوم الساعة، وهم يعلمون من علم الكتاب أن الساعة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالي، ولكنهم سألوا السؤال، وهم يعلمون الإجابة، فيشككون في أمر البعث الذى يجادل فيه المشركون، وقد حكى الله سبحانه وتعالى السؤال والجواب الحكيم الصادق، فقال الله سبحانه وتعالى:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ، أَيَّانَ مُرْساها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً، يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (الأعراف- 187) .
ولقد كانت صيغة السؤال من بعضهم توميء بالتشكيك في الرسالة، فقد قال قائلهم: أخبرنا متى تقوم الساعة، إن كنت نبيا كما تقول.
فأمره الله سبحانه وتعالى بأن يجيب ذلك الجواب الصادق، ولو كان السؤال ممن لا يؤمن لأن ذلك هو الحق، والحق أحق أن يتبع.
وسألوه عن الروح، ليعنتوه أيضا، وليلقوا بالريب في نفوس المؤمنين فأمره الله سبحانه وتعالى بأن يقول أنها من أسرار هذا الوجود الذى لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالي، فقال الله سبحانه وتعالى في السؤال والجواب وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء- 85) .
وإن حقيقة الروح لا تزال سرا من أمر الله لا يعلمها أحد سواه، نرى مظاهر وجودها، ولا نعرف حقيقة أمرها، لقد عرف ابن الانسان الكون وظواهره، وأدرك بالاستقراء الأفلاك، وأبراجها وارتفع ابن الأرض إلى السماء، ووصل إلى القمر، بأسباب المادة، لكنه إلى الآن لا يعرف حقيقة الروح ولا كنهها، وإن كان يعرف بعض ظواهرها، وأعراضها.
399-
وسألوه عن ذى القرنين ما هو وما كان أمره، وما فعله، فذكر الله سبحانه وتعالى السؤال، وأعلم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بالجواب في قول الله سبحانه وتعالى:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً. فَأَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ، وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً، قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ، إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ، وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً. قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ، ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً. وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى، وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً.
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً. كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا. قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً، عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا. قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ، فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً. آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ، حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ، قالَ انْفُخُوا، حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً، قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً. فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ، وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً. قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي، فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ، وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا.
(سورة الكهف: 83: 98)
هذا سؤال قصد به الإعجاز، وإذا عجز محمد عليه الصلاة والسلام عن الإجابة طاروا فرحا، وألقوا بالريب في النفوس، وذلك ما يقصدون، وإليه يهدفون.
ولكن الإجابة كانت علما غزيرا، وتتبعا دقيقا لسيرة ذى القرنين، وما كان له من أعمال لها أثر وذكر ولسان صدق، وكان ذلك البيان العجيب الصادق مسترعيا لعقول وقلوب الذين يستمعون إليه، فكان أثر الإجابة حجة لأهل الإيمان مثبتا لدينهم الذى ارتضوا.
وقد سألوا سؤالا آخر عن القرآن الكريم ليشككوا في أمره، وهو حجة الرسالة المحمدية، ودليلها الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
قالوا: أحق يا محمد، إن هذا الذى جئت به الحق من عند الله، فإنا لا نراه منسقا، كما تنسق التوراة.
فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إنكم لتعرفون أنه من عند الله، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما جاؤا به» .
فوجهوا السؤال إلى ناحية أخري، لأن اعتراضهم واهن، إذ أن نسق القرآن الكريم لا يمكن أن يوزن به نسق التوراة، ولو كانت هى الألواح العشر التى نزلت على موسي، فلكل نبى معجزته وآياته.
حولوا السؤال إلى ناحية أخرى قد توجد شكا. قالوا: يا محمد. أما يعلمك هذا إنس ولا جن؟
قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «والله إنكم لتعلمون أنه من عند الله، وإنى لرسول الله تجدون ذلك مكتوبا عندكم في التوراة» .
قالوا في لجاجة: يا محمد، فإن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما يشاء، ويقدر منه على ما أراد، فأنزل علينا كتابا نقرؤه، وإلا جئناك بمثله.
يذكرون بهذا أنهم يستطيعون أن يأتوا بمثله، فيقول الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (الإسراء- 88) .
ولسان الحال يقول: ائتوا إن استطعتم، ولكنكم لا تستطيعون، وفيصل الأمر أن تأتوا، ليتبين أمركم، وينكشف خبىء مكركم وضلالكم، إذ تسفهون في أنفسكم بما لم يسفه به المشركون.
ويسألون سؤالا آخر يدل على عقليتهم المادية، وعلى عدم معرفتهم الله سبحانه وتعالى، وصفاته العلية الذى ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم.
وذلك أنهم كانوا متأثرين بالفلسفة اليونانية التى كانت تؤمن بالأسباب والمسببات، ولا تؤمن بغيرها.
فالأسباب العادية جعلوها قانون الوجود، فكل شيء نشأ بالعلية، فالوجود الإنسانى والخلق كله معلول لعلة، والعلة سبب عن آخر، وبهذا أخذت الفلسفة اليونانية، فيحسبون أن العالم كله نشأ بقانون العلية، عن الأوّل، وهو علة لما قبله، وبذلك يكون التسلسل لما لا نهاية.
أرادوا أن يظهر عجز النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بسؤال من هذا النوع، وتناسوا أن الله سبحانه وتعالى هو الفاعل المختار، الفعال لما يريد، وأن إنشاءه للكون، ليس بالسببية أو العلية، بل أنشأه بإرادته المختارة، وهذا سؤالهم الذى دل على كفرهم.
قالوا للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا محمد، هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟» فغضب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حتى انتقع لونه، ثم ساورهم غضبا لربه.
ولقد كان غضب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، لأن هذا السؤال كان من اليهود، وهم أهل كتاب مفروض أنهم يعرفون الله سبحانه وتعالى ويعرفون صفاته، وأنه الأوّل والآخر والظاهر والباطن، وأنه الفاعل المختار، القادر على كل شيء، وليس فوقه شيء، وهو مبدع الوجود، بديع السموات والأرض.
ولم يقع من العرب مثل هذا السؤال، فهم كانوا يعرفون أن الله سبحانه وتعالى وحده خالق الوجود، وأنه ليس فوقه أحد، وإنما شركهم في أنهم كانوا يعبدون مع الله الأوثان التى ابتدعوها، وما أنزل الله تعالى بها من سلطان، فغضب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لأن اليهود أهل الكتاب أسفوا في التفكير إلى ما لم ينزل إليه المشركون أهل الأوثان، وهكذا تذهب اللجاجة في التعصب إلى أن قالوا ما لا يعقلون.
ويقول راوى هذا الخبر، وهو سعيد بن جبير: فجاءه جبريل عليه السلام، وهو غضبان أسفا، فسكنه وقال له: خفض عليك يا محمد- صلى الله عليه وسلم وجاءه بجواب ما سألوه عنه:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.
كان هذا تنبيها لهم إلى ما أسفوا فيه، ولكنهم نزلوا مرة ثانية عن مرتبة الوثنيين من العرب، وظنوا الله تعالى مادة كالأحياء، وتلك بقية من نزعتهم المادية.
قالوا: «فصف يا محمد، كيف خلقه؟ ذراعه، كيف عضده؟» .
فغضب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كغضبته الأولي، وساورهم، فأتاه جبريل الأمين وجاءه بجواب من الله سبحانه وتعالى عما سألوه، وهو قول الله سبحانه وتعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (الزمر- 67) .
هذه بعض مجاوبات بين اليهود الذين لا يتقيدون بفكر ولا منطق ولا علم بكتاب، ولا إيمان بالله الواحد الأحد، الفرد الصمد الذى ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، والنبى صلى الله تعالى