الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنشاء دولة الإسلام
334-
هاجر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وخرج من مكة المكرمة، وهى أحب أرض الله تعالى إليه، لأن بها البيت الحرام، ولأنها منزل الوحي، ولأن بها الأهل والأقربين، وأن بها ماثر إبراهيم، ولكنه انتقل مع كل هذا إلى المدينة المنورة، وما كان ذلك إلا لأنه بأمر ربه أنشأ دولة، ولأنه ما جاء لرهبانية أو روحانية مجردة، أو لتهذيب النفوس فقط، بل بعث رحمة للعالمين ولا بد من أن تقوم دولة تقيم الحق، وتخفض الباطل، وتمنع الظلم، وتجمع الإنسانية، وتنشر التعاون بين الناس، وتمحو كل الفوارق التى تجعل بعض بنى الإنسان يتحكم في الآخر، وتمنع الفساد في الأرض.
ولذلك هاجر عليه الصلاة والسلام حيث يستطيع إقامة الدولة المؤمنة التى تتناهى عن الشر، وتتعاون على الخير، وكذلك كل رسول يأتى بشريعة تقوم عليها دولة، كما فعل موسي، إذ خرج من أرض فرعون، لينشيء من قومه قوة ترفع الحق، وحاول ذلك مع بنى إسرائيل، وحاول أن يربى فيهم روح العزة والكرامة، وهما لا يسكنان في قلب إلا إذا سكن معهما حب الإنصاف، وحب الرحمة والمؤاخاة، والرفق، فالعزيز الكريم هو الذى ينصف ويرحم، ويرفق، واللئيم هو الذي يظلم، ويشق على الناس، ولا ينزل بهم رحمة، بل عداوة وبغضاء، حاول موسى عليه السلام أن يبث فيهم البأس بعد البؤس والخنوع، فقالوا له، وهو يريد بهم العزة والدفاع عن أنفسهم فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا، إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24- المائدة) .
وعيسى عليه السلام الذى أثر عنه قوله «دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله» لم يشن حربا، ولم يقم دولة، وإن دعا إلى الفضيلة والمحبة، والروحانية في وسط الغلظة المادية التى آل إليها اليهود، فكانوا متنابذين مع الإنسانية، ولكن خاضعون خانعون للدولة الرومانية، لا يتمردون، ولا يلاحون، ولكن يرضون بالمنزل الهون، كما قال الله تعالى ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ (112- آل عمران) ، فعيسى لم يحاول أن يكوّن دولة، ولكن كان داعى رحمة ومحبة، ورفق ومؤاخاة في قوم غلاظ الرقاب يثيرون العداوة والبغضاء، مع من لا قوة لهم، ويخضعون في ذلك للقوي، ويعيشون بالسعاية والإفساد.
جاء محمد عليه الصلاة والسلام على فترة من الرسل لإقامة الدولة الفاضلة لأنه خاتم النبيين، ولأنه آخر صرح في بناء النبوة الإلهية، فكان لا بد من أن تودع رحمته في جماعة مؤمنة، وأن تكون هى حاملة تبليغ الرسالة من بعده، تقاوم في سبيلها، وتسالم في الدعوة إليها ومد مبادئها، وتنتقل الرسالة في الأجيال مع هذه الأمة التى حملت الأمانة، ومع دولة تحميها.
وإن قيام الدولة الفاضلة، بعمل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم في حياته والحواريين من بعده فيه تطبيق عملى للفضيلة والعدالة والمساواة. وإذهاب روح التفاوت والعنصرية، وبث الإيمان والفداء، ورجاء ما عند الله تعالى. ويكون ذلك حجة في الأرض على الذين يدّعون، أن قيام دولة فاضلة على مبادئ الأخلاق ليس حلما لا يتأتى تطبيقه، ولكنه عمل ثبت تحقيقه، وقامت في الوجود أعلامه، وأن الذين يفرطون في حقوق الإنسانية، يسرفون على الناس في ظلمهم زاعمين أن الفضيلة والأخلاق علاقات شخصية، ولا تصلح أن تكون أساسا للعلاقات الاجتماعية والإنسانية عامة.
وأن قيام الدولة الإسلامية حجة قائمة على الذين يزعمون أن الدين علاقة بين العبد وربه. وأنه مقصور على المساجد والكنائس والصوامع، لأنه لو كان الدين كذلك ما هاجر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ولارتضى البقاء في مكة المكرمة، واكتفى أن يطلب من المشركين أن يتركوه وما يعبد، وأن يتركهم وما يعبدون، ولعلهم كانوا يرتضون بذلك، وخصوصا أنهم كانوا يعلمون فيه الأخلاق الفاضلة، والصدق وشرف المحتد، والنسب الرفيع.
ولكن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كانت رسالته أبعد من ذلك أثرا، وأعم من ذلك عملا، وإنا نقول مقالة الذين يقولون أن الدين هو العلاقة بين العبد وربه، ولكنا نعمم العلاقة بين العبد وربه، فنجعلها عامة شاملة، وليست خاصة بالصلاة والصوم، إنما علاقة العبد بربه تقتضى الرحمة بعباده، والعدل بينهم أيا كان جنسهم، وأيا كان لونهم، كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم «لا يؤمن أحدكم، حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله» وأن كل عمل خير فيه صلاح الجماعة من عدل يقام، وظلم يخفض، وإعلان مساواة ورفق بالناس، كل هذا عبادة إذا قصد به وجه الله، ولا يمكن أن يكون مصلح قادرا على الإصلاح، إلا إذا أخلص النية لله تعالى، وأراد نفع الناس مرضاة لله تعالى العلى القدير، فالذين يفصلون بين عبادة الله تعالى وحده، وحسن المعاملة، وتنظيم المعاملات بين الناس، يفصلون بين الدين ولازمه، والحقيقة وما يترتب عليها، والمقدمة والنتيجة.
335-
وإن العرب كانوا أصلح الناس لتجربة الدولة الفاضلة التى وضع الله تعالى في الكتاب الكريم وعلى لسان رسوله الأمين، دعائمها وأسس إقامتها، وقد سن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم السنن العملية لتطبيق أحكام الله تعالى، فبين العبادات المفروضة من صلاة وصوم، وحج وزكاة، وإن كانت الصلاة قد ابتدأت في آخر أيامه صلى الله تعالى عليه وسلم في مكة المكرمة، عند الإسراء والمعراج.