الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واليهود قد وجدوها فرصة لائحة تشفى غيظهم، فأخذوا ينثرون من أفواههم ما تنغر به قلوبهم من إحن وعداوة للإسلام أخفوها ابتداء، ولكن بدت من أفواههم رغم أنوفهم. وما تخفى صدورهم أكبر.
حدث هذا، والمجاهدون الأطهار تكاد نفوسهم تذهب حسرات حتى نزل قول الله سبحانه وتعالى:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ، قِتالٍ فِيهِ، قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ، وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا (البقرة- 217) .
كانت هذه الآيات الكريمات بردا وسلاما للمؤمنين، وردا قاطعا حاسما للكافرين، وإنه ليس لأولئك الذين انتهكوا الحرمات، من كفر بالله وبالمسجد الحرام وصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى، وقتل فى البيت الحرام- أن يتكلموا في انتهاك الأشهر الحرم.
على أنه يجب أن يعلم أن الذين ابتدأوا بالقتال هم المشركون، فقد أغاروا ابتداء على فناء المدينة المنورة، نعم إنهم لم ينالوا مأربا، وفروا فرارا، فهل كان لأهل الإيمان أن يتركوهم ليعيدوا الكرة عليهم، لا يمكن أن يتركوهم ليغزوهم في عقر دارهم.
ومهما يكن من الأمر، فقد كانت هذه الغزوة إرهاصا لبدر الكبرى، فقد كانت العير هى التى استولى عليها المؤمنون.
لماذا كانت هذه الغزوات:
370-
قد خرجت غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاث مرات، وخرجت أربع سريات لم يحصل قتال في السرايا، ولا في الغزوات إلا سهما أرسله سعد بن أبى وقاص في سرية عبيدة ابن الحارث بن عبد المطلب، وسهما قتل ابن الحضرمى في سرية عبد الله بن جحش، وكانت سهما عائرة، لأخذ العير، ولا يمكن أن يسمى ذلك قتالا، إنما يسمى محاولة لأخذ مال هو من بين ما اغتصبه المشركون من المؤمنين، إذ أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.
إذا لم يكن قتال بمعنى كلمة قتال التى تكون مفاعلة من الجانبين، فلماذا كلف النبى صلى الله تعالى عليه وسلم نفسه ورجاله مئونة هذا الخروج؟ ونقول في الإجابة عن ذلك:
أ- أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خرج من مكة المكرمة، وهو هضيم، أو شبه مطرود في ظاهر الأمر، وما هو إلا ليجمع قوة الحق، فكان لابد أن يعمل على إظهار ما أيده الله سبحانه وتعالى به من قوة، تستطيع أن تشعر الظالمين بأن للحق شوكة، وأنهم إذا لم يتركوا الدعوة في طريقها رغبا، فإنهم لا بد أن
يتركوها رهبا، ولا بد للحق في هذه من صولة تكف أذى الباطل، أو على الأقل تجعل الباطل يتردد عند إنزال أذاه، وأنه إن لم يخش صوت الضمير، فإنه يخشى صلصلة السيوف. فكانت هذه السرايا، وتلك الغزوات مظاهر من صولة الحق ليتركوا الدعوة إلى الحق تسير في سبيلها، ولتستيقظ ضمائر كانت نائمة، فمن الضمائر ما لا يستمع لصوت الحق الوادع الرفيق، ولكنه يستيقظ إذا رأى جلجلة القوة، فيخفف من حدة الأذى، ويتبع ذلك أن يسير في طريق الهداية إن لم يكن الضلال قد كتب عليه.
ب- وإنه إذا لم يكن قتال، فقد كان هنا دراسة للمؤمنين في البلاد العربية يتعرفون وهادها، وجبالها، ويدرسون مجاهلها، فيعرفها من لم يكن يعرفها، ويلتقون فيها بالأعراب في أخبيتهم، ومساكنهم، وفي ذلك إعلان الدعوة لمن لم يكن يعلمها، وتوجيه العقول إليها وتوضيحها وبيانها.
وإن في هذه الجولات التى كان يجولها أولئك المؤمنون في السرايا التى بعث بها النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تعرفا لمساير عير قريش، وما كانت إلا للتجار الأغنياء فيهم، فما كان للشعب فيها إلا النزر اليسير، وما كانت تلك البعوث التى تتبع عير قريش لأخذها، إلا ليكون هذا بدل ما اغتصبوا، وقد قلت من قبل، إن ذلك لم يكن حصارا اقتصاديا، كما يجرى في عبارات الكاتبين والمحاربين والسياسيين في هذا الحصار. كالذى تجرى كلماته في عصرنا يقصد به التضييق على الأمة التى يعادونها في موارد رزقها، فلا يرسل إليها طعام، ولا المواد الضرورية للحياة والعمران، بحيث يعم الضيق الشعب كله، وما كان ذلك في سرايا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ولا في غزواته إنما كان الاتجاه إلى محاربة التجار الذين كانوا يقومون بالتجارة، وجلهم أو كلهم ممن حاربوا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم واشتركوا في إيذاء أصحابه، وإخراجهم من أموالهم وديارهم، فما كان فعله عليه الصلاة والسلام حربا اقتصادية تعم البرىء والسقيم، بل هو مصادرة لمال ظالم اغتصب أموال المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله كما تلونا الآيات من قبل ذلك.
ج- وإن غزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع ما فيها من نشر الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة كان فيها تأليف للقلوب، ففيها عقدت اتفاقات على النصرة والإيواء، ففى غزوة الأبواء (ودان) اتفق عليه الصلاة والسلام مع بنى ضمرة على أن ينصروه إذا دعاهم إلى النصرة وينصرهم إذا دعوه.
وفي غزوة العشيرة عقد مع بنى مدلج، وحلفائهم من بنى ضمرة اتفاقا على المناصرة بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم ووثقه بكتاب كتب، كما نقلناه من قبل من الروض الأنف للسهيلى.
وإذا كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يغز لحرب، فقد غزا قلوبا، وألفها لتكون قوة لأهل الحق، وليدخل الإيمان إلى قلوبهم، لأن تالف القلوب هو السبيل إلى دخول الحق إليها لكيلا تنفر، فتعمى.
ويلاحظ أن هذه البعوث كلها كان جنودها من المهاجرين، فأمراؤها من المهاجرين، وغزوات النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان الجنود فيها من المهاجرين، ولم يكن فيهم من الأنصار أحد، فلم يندب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أحدا من الأنصار إلا في بدر، ولماذا كان ذلك! لا بد أنه كان مقصودا منه صلى الله تعالى عليه وسلم، ولم يجيء إذا اتفاقيا من غير قصد له بالذات.
والجواب عن ذلك:
أولا: إن المهاجرين هم الذين أوذوا في أبدانهم وكراماتهم من أولئك المشركين، فهم أشد الناس رغبة في القصاص ممن آذوهم والقصاص شريعة لحكمهم، فكانوا أولى بلقاء قريش من غيرهم، ولأنهم هم الذين استضعفوا وأراد المشركون إذلالهم، فكانوا في لقائهم بالمشركين وفرارهم منهم أشد تبيينا لبيان أن الحق قد علا، وأنهم مكن لهم في الأرض، وإن ذلك يكون أروع وأوقع، وماذا تكون حال الصناديد من قريش إذا رأوا عمار بن ياسر وقد أوذى هو وأبوه وماتت أمه تحت حر العذاب، حتى قال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:«اصبروا آل ياسر فإن موعدكم الجنة» ، فماذا يكون وقع ذلك في نفوس الغلاظ إذا رأوا عمارا العملاق واقفا لهم بتمكين الله سبحانه وتعالى.
ثانيا: إن الذين أخرجوا من أموالهم وديارهم هم المهاجرون، فكانوا أحق الناس بأن يطالبوا بمالهم الذى اغتصب، وديارهم التى خربت، وأن يكفوا عن أهليهم وضعفائهم الذين لم يهاجروا شر أولئك العتاة أو يعطوهم وبال أمرهم جزاء بما اكتسبوا.
ثالثا: وهو عمدة الأسباب وقوتها- أن عهد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان على الإيواء والنصرة وأن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وذرياتهم، ولم يكن في ذلك النص على أن يخرجوا معه في حرب، وإن فهم ضمنا أنهم يكونون معه في الحرب والسلم، فلم يرد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يخرجوا معه في غير ما نص عليه العقد نصا صريحا لا تأويل فيه، ولذا لم يدعهم إلى الخروج معه في هذه الغزوات وتلك السرايا، وكان في المهاجرين غناء بالنسبة لهذا الغزو المحدود.
ولذلك لما جد الجد، وجاء جيش كثيف من المشركين عدته تجاوزت الألف استشارهم، لتكون الإجابة رضا بأن يشتركوا في الحرب، وتلك الاستشارة كانت عند الإقدام من قريش برجلها وعتادها وفرسها، فكانوا عند رجاء النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فيهم، وعلى ما دفعهم إليه إيمانهم، وهو أوثق العهود.