الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ما يدبر له في مكة، وما يريدونه منه، وقد انتقلوا من الحرب إلى الاغتيال، وبدا ذلك يوم الرجيع، ثم تبين أنه يبيت لشخصه الكريم في مكة.
فأرسل سرية لتعرف ما في مكة، وتفعل مع أبى سفيان ما كان سيفعله بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ، فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ (البقرة- 194) .
أرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري، وكان فارسا فاتكا من فتاك العرب، قد آمن وحسن إسلامه، وسلمة بن أسلم، ليتعرفا أحوال مكة المكرمة، وليصيبا من أبى سفيان.
ذهبا إلى مكة المكرمة وصليا وطافا بالبيت.
وقد علم أهل مكة المكرمة بهما، وكان عمرو كما ذكرنا فاتكا في الجاهلية يخشى بأسه، فتجمعت الجموع لملاقاته، ولكنه تركهم، وقد عرف حالهم وما يدبرون، ولم يتمكن من أحد، وعاد وصاحبه، وقد تمكن هو من قتل الذين كانوا يتبعونه فرادى، فقتل بعضهم، وأسر بعضهم، وأتى بمن أسر للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وكان قد سبقه سلمة بن أسلم.
بئر معونة:
442-
فى نفس هذا الشهر وهو صفر في السنة الرابعة من الهجرة وكان أمر هذه السرية أن أبا براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة قدم المدينة، فعرض عليه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الإسلام ودعاه إليه، ويقول ابن إسحاق «فلم يسلم ولم يبعد عن الإسلام، قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد تدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنى أخشى عليهم أهل نجد. قال أبو براء:
أنا لهم جار، فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك.
اطمأن النبى الكريم الحريص على تبليغ رسالة ربه، حينما وجد موطنا من موطن التبليغ، وخصوصا عند ما أعلن أبو البراء أنهم في جواره.
اختار النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لإمرتهم المنذر بن عمرو أخا بنى ساعدة، وكانوا كما روى ابن إسحاق أربعين، وكما روى البخارى سبعين. ولنترك الكلمة للبخارى:
قال: بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سبعين رجلا لحاجة يقال لهم القراء، فعرض لهم حيان من بنى سليم، رعل وذكوان عند بئر يقال له بئر معونة فقالوا: والله ما إياكم أردنا وإنما نحن مجتازون في حاجة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقتلوهم.
ويقول البخارى بروايته في أوصافهم وبيان أنهم طلبوا من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أن يمدهم بمن يعلمهم وإن رعلا وذكوان وعصية وبنى سليم استمدوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على عدد فأمدهم بسبعين من الأنصار، كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، حتى إذا كانوا ببئر معونة قتلوهم وغرروا بهم، فبلغ ذلك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقنت شهرا يدعو في الصباح على أحياء العرب من رعل وذكوان وعصية.
ولقد روى أنهم قالوا وقد عملت السيوف فيهم «بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا» كانوا يعلمون الناس الإسلام، وقد بعثهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم لذلك، ولذا نرجح أنهم ما كانوا مقاتلين، ولم يستمدوا على العدو، كما يفهم من الرواية الأولى للبخارى.
ولننظر من بعد ذلك إلى تفصيل الرحلة التى انتهت بالغدر المقيت عند الله وعند كل كريم.
ذهبوا كما أمرهم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم هداة مرشدين كما طلب أبو البراء، وأرسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مع المنذر بن عمرو كتابا إلى عامر بن الطفيل يبين فيه أنهم مبلغون لا محاربون، ولكنه إبان ذاك كان عدوا للمؤمنين، فلم يرع جوار ولا ذمة صاحبه في الشرك أبى براء الذى ما زال بالنبى حتى أرسل من أرسل وكان كارها ابتداء، ولكنه التبليغ الذى حمله سهل إرسال هؤلاء، ولم يكن الغدر متوقعا.
ولذلك قتل من أعطاه الكتاب.
ولقد ذكر البخارى في أخبار عامر بن الطفيل، أنه حسب النبوة ملكا، فخير النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بين ثلاث خصال بثلاث يكون للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أهل السهل، وله أهل المدر، أى يكون للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم الوبر في الصحراء، وله هو أهل القرى، أو أن يكون خليفة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، أو أن يغزو النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بغطفان.
كانت هذه حال عامر بن الطفيل إبان ذاك، وقد علم بالجوار.
ولم يكتف بذلك، بل استصرخ بنى عامر على أولئك المؤمنين، وقد علموا بجوار أبى البراء، فامتنعوا وقالوا: لن نخفر جوار أبى البراء وقد عقد لهم عقدا وجوارا.
فاستصرخ عليهم قبائل من بنى سليم عصية وذكوان ورعل فأجابوه إلى ذلك الغدر اللئيم، فخرجوا حتى غشوا المؤمنين، فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم حملوا سيوفهم، وقاتلوا، ولكنهم كانوا يقاتلون من أحاطوا بهم حتى قتلوا عن آخرهم كما ذكر.
ولم ينج منهم إلا كعب بن زيد أخو زيد بن النجار، فإنهم تركوه وبه رمق، فحسبوا أنه مات، وكان عمرو بن أمية الضمرى في سرح القوم ورجل من الأنصار.
وفرا من القتل، فأخبرا النبى صلى الله تعالى عليه وسلم. فقنت ثلاثين يوما لما أصاب رسله، صلى الله تعالى عليه وسلم.
443-
تلك قصة بئر معونة في صفر، وبئر معونة بين مكة المكرمة والمدينة المنورة.
ونلاحظ في هذه القصة بعض أمور:
أولها: أن أبا براء ما كان مسلما، وربما له ميل إلى الإسلام ولكنه زعيم في قومه، ويريد أن يكون مع قومه، فلا يكرههم حتى لا ينفروا ولكن يريد الدعوة إليهم، حتى إذا استأنس بإسلامهم أعلن إسلامه واكتفى بأن جعل الدعاة إلى جواره.
ثانيها: أن الغادر عامر بن طفيل كان يعمل لحساب الشرك أو لحساب مكة، وما كان ليفعل لولا أنه وجد في قريش قوة، وهى ما أشاعوها من هزيمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم.
وثالثها: أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد أرسل إليهم مبلغين حفظة عبادا يحتطبون نهارا، ويقومون ليلا، ولم يرسل معهم أبطال حرب كالزبير وسعد بن أبى وقاص وعلى بن أبى طالب، وإن كان هؤلاء في عبادتهم وزهادتهم لا يقلون عن الأولين، لأنهم أسود فوارس بالنهار قوامون بالليل.
رابعها: أن هذه ثانى غدرة برسل النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، مبلغين ليغدر بهم، وكانت الأولى في يوم الرجيع، وهذه في بئر معونة.
فهل كان خدع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو قائد الأمة سهلا بهذا الشكل، فنقول:
لم يكن الخدع بعيدا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو بشر كسائر البشر، يحتاط، وكفاه، وقد فرض الله سبحانه أن يخدع، والكريم المخلص يخدع، والخب اللئيم الذى يفرض الشر لا يسهل خدعه كالكريم الطيب الذى يفرض في الناس الخير، وقال سبحانه وتعالى في ذلك: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ، فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ. وَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ، لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
(الأنفال: 64- 63) .
ففرض أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد يخدع من الخب الغادر اللئيم.
وأن الرجل المؤمن الحكيم، - وقد أوتى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الحكمة وعلمها الناس-، يخدع من ناحية ما يريد وما هييء له.
وقد أحب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تبليغ رسالة ربه وهداية العرب إلى الوحدانية، وعبادة الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، وذلك عمله الذى بعثه الله تعالى له، وما كان قتاله إلا دفاعا. فالقتال لحماية الدعوة من الاعتداء، ولم يكن هدفا مقصودا لذاته، فإذا جاء من سهل له الدعوة استجاب، والحر الأبى لا يفرض الغدر ابتداء، ولكن يفرض الغدر حتما إذا كان الأمر من غادر.
وفي الحق أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم خدع في المرة الأولى لأنه رسول يريد تبليغ أمر ربه، قال تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (المائدة- 67) فما كان له أن يتردد في إجابة من دعوه ليعلمهم الإسلام، وليقضى الله أمرا كان مفعولا.
هذا في يوم الرجيع، أما يوم بئر معونة، فما كان مخدوعا، بل كان يقظا، وخشى على من أرسلهم من خشونة أهل نجد، وجفوتهم، وأنهم أعراب غلاظ، وما وافق حتى عقد عهدا بالجوار، وكان مكتوبا بدليل أنه قدمه رسول النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل فمزقه بسيفه، وبدليل أن بنى عامر رفضوا أن يصرخوا ابن الطفيل إذ استصرخهم حفظا للجوار.
ولكن الغدر والخيانة جعلاه يستصرخ بغيرهم، كما أصرخوه، وكان ما كان من قتل الأطهار العباد الزهاد الذين يحتطبون بالنهار، ويقومون بالليل.
ولقد أدرك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غدر الغادرين، وربما ظن بقلبه الطاهر الربانى أنه لم يكن حريصا في إرسالهم، فقنت ثلاثين يوما استغفارا لربه، فما كان غير حريص، ولا مخدوعا في هذا.
وإنه مهما يكن الأمر في هذا، فإنه من المؤكد أن مسارعة عامر بن الطفيل لهذا الغدر، ما كانت إلا لإشاعة أن المؤمنين هزموا في أحد، فتكشفت قلوب الغادرين والمداهنين لقريش، الذين ظنوا فيهم القوة، والله ولى المؤمنين.