الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكّراديس (1)، بعيد ما بين المنكبين، كثير شعر الرأس حسن الثغر، فيه سمرة، وقيل كان في وجهه شيء من آثار الجدري، رضي الله عنه، وعن الزهري: كان حسن الوجه والثغر، مربوعاً، أصلع، أرْوَح (2) يخضب بالصفرة، وكان شد أسنانه بالذهب، وقد كسي ذراعية الشعر.
وقال سيف عن خليفة بن زفر ومجالد قالا: استخلف عثمان لثلاث خلفون من المحرم سنة ثلاث وعشرين فخرج فصلى بالناس العصر، وزاد الناس يعني في أعطياتهم - مائة، ووفد أهل الأمصار، وهو أول من صنع ذلك.
و
قصة استخلافه:
أنه في أول يوم من سنة أربع وعشرين دفن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك يوم الأحد في قول وبعد ثلاث أيام بويع أمير المؤمنين عثمان ابن عفان رضي الله عنه.
كان عمر رضي الله عنه قد جعل الأمر بعده شورى بين ستة نفر وهم عثمان بن عفان، وعلى بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، وتحرّج أن يجعلها لواحد من هؤلاء على التعيين، وقال: لا أتحمل أمرهم حياً وميتاً، وإن يرد الله بكم خيراً يجمعكم على خير هؤلاء، كما جمعكم على خيركم بعد نبيكم صلى الله عليه وسلم، ومن تمام ورعه لم يذكر في الشورى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل لأنه ابن عمه خشي أن يراعي فيولي لكونه ابن عمه، فلذلك تركه - ولعله خشي أن يفتح باباً بأن يجعل الخلافة وراثية في بني عدى، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، بل جاء في رواية المدائني عن شيوخه أنه استثناه من بينهم، وقال: لست مدخله فيهم، وقال لأهل الشورى يحضركم عبد الله - يعني ابنه- وليس إليه من الأمر شيء - يعني بل يحضر الشورى ويشير بالنصح ولا يولى شيئاً- وأوصى أن يصلى بالناس صهيب بن سنان الرومي ثلاثة أيام حتى تنقضي الشورى، وأن يجتمع أهل الشورى ويوكل بهم أناس حتى ينبرم الأمر، ووكل بهم خمسين رجلاً من
(1) الكراديس: جمع كردوس: وهو كل عصم نام ضخم، وكل عظمين التقيا في مفصل نحو المنكبين والركبتين والوركين.
(2)
أروح الرجلين: أي في رجليه اتساع دون الفحج، والفحج: الانفراج.
المسلمين وجعل عليهم مستحثاً أبا طلحة الأنصاري، والمقداد بن الأسود الكندي، وقد قال عمر بن الخطاب: ما أظن الناس يعدلون بعثمان وعلي أحداً، إنهما كانا يكتبان الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينزل به جبريل عليه.
والمقصود أن القوم خلصوا من الناس في بيت يتشاورون في أمرهم، فكثر القول، وعلت الأصوات وقال أبو طلحة: إني كنت أظن أن تدافعوها ولم أكن أظن أن تنافسوها ثم صار الأمر بعد حضور طلحة إلى أن فوض ثلاثة منهم ما لهم في ذلك إلى ثلاثة، ففوض الزبير ما يستحقه من الإمارة إلى علي، وفوض سعد ماله في ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف، وترك طلحة حقه إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال عبد الرحمن لعلي وعثمان: أيكما يبرأ من هذا الأمر فنفوض الأمر إليه والله عليه والإسلام ليولين أفضل الرجلين الباقيين فأسكت الشيخان علي وعثمان، فقال عبد الرحمن: إني أترك حقي من ذلك والله عليّ والإسلام أن اجتهد فأولّي أولاكما بالحق، قالا: نعم! ثم خاط بكل واحد منهما بما فيه من الفضل، وأخذ عليه العهد والميثاق لئن ولاه ليعدلن ولئن ولي عليه ليسمعن وليطعين، فقال كل منهما: نعم ثم تفرقوا، ويروى أن أهل الشورى جعلوا الأمر إلى عبد الرحمن يجتهد للمسلمين أفضلهم ليوليه، فيذكر أنه سأل من يمكنه سؤاله من أهل الشورى وغيرهم فلا يشير إلا بعثمان بن عفان، حتى أنه قال لعلي: أرأيت إن لم أولك بمن تشير به علي؟ قال: عثمان، وقال لعثمان: أرأيت إن لم أولك بمن تشير به؟ قال: بعلي بن أبي طالب، والظاهر أن هذا كان قبل أن ينحصر الأمر في ثلاثة، وينخلع عبد الرحمن منها لينظر الأفضل والله عليه والإسلام ليجتهدن في أفضل الرجلين فيوليه، ثم نهض عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يستشير الناس فيهما ويجمع رأي المسلمين برأي رؤوس الناس وقوداهم جميعاً وأشتاتاً، مثني وفرادي، ومجتمعين، سراً وجهراً، حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الوالدان في المكاتب، وحتى سأل من يَرِدُ من الركبان والأعراب إلى المدينة، في مدة ثلاثة أيام بلياليها، فلم يجد أثنين يختلفان في تقديم عثمان بن عفان، إلا ما ينقل عن عمار والمقداد إنهما أشارا بعلي بن أبي طالب، ثم بايعا مع الناس على ما سنذكره، فسعي في ذلك عبد الرحمن ثلاثة أيام بلياليها لا يغتمض بكثير نوم إلا صلاة ودعاءاً واستخارة، وسؤالاً من ذوي الرأي عنهم، فلم يد أحداً يعدل عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما كانت الليلة يسفر
صباحها عن اليوم الرابع من موت عمر بن الخطاب جاء إلى منزل ابن اخته المسور بن مخرمة فقال: أنائم يا مسور؟ والله لم أغتمض بكثير نوم منذ ثلاث، أذهب فادع إلي علياً وعثمان قال المسور: فقلت بأيهما أبداً؟ فقال بأيهما شئت، قال فذهبت إلى علي فقلت أجب خالي، فقال: أمرك أن تدعو معي أحداً؟ قلت: نعم! قال: من؟ قلت: عثمان ابن عفان، قال: بأيبنا بدأ؟ قلت: لم يأمرني بذلك، بل قال أدعو لي أيهما شئت أولاً، فجئت إليك قال: فخرج معي فلما مررنا بدار عثمان بن عفان جلس علي حتى دخلت فوجدته يوتر مع الفجر، فقال لي كما قال لي على سواء، ثم خرج فدخلت بهما على خالي وهو قائم يصلي، فلما انصرف أقبل على علي وعثمان فقال: إني قد سألت الناس عنكما فلم أجد أحداً يعدل بكما أحداً، ثم أخذ العهد على كل منهما أيضاً لئن ولاه ليعدلن، ولئن ولي عليه ليسمعن وليطيعن، ثم خرج بهما إلى المسجد وقد لبس عبد الرحمن العمامة التي عّممه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقلد سيفاً، وبعث إلى وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ونودي في الناس عامة الصلاة جامعة، فامتلأ المسجد حتى غص بالناس، وتراص الناس وتراصوا حتى لم يبق لعثمان موضع يجلس إلا في أخريات الناس - وكان رجلاً حيياً رضي الله عنه ثم صعد عبد الرحمن بن عوف منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوق وقوفاً طويلاً، ودعا دعاء طويلاً، لم يسمعه الناس ثم تكلم فقال: أيها الناس ثم تكلم فقال: أيها الناس، إني سألتكم سراً وجهراً بأمانيكم فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين إما علي وإما عثمان، فقم إلىٌ يا علي، فقام إليه فوقف تحت المنبر فأخذ عبد الرحمن بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم لا ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي، قال فأرسل يده وقال: قم إلى يا عثمان، فأخذ بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم نعم قال: فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان فقال اللهم أسمع وأشهد، اللهم أسمع وأشهد، اللهم أسمع وأشهد، اللهم إني قد خلعت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان، قال وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه تحت المنبر، قال فقعد عبد الرحمن مقعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأجلس عثمان تحته على الدرجة الثانية، وجاء إليه الناس يبايعونه، وبايعه إلى بن أبي طالب أولاً.
فولى الخلافة بعده فتح الله على يديه كثيراً من الأقاليم والأمصار، وتوسعت المملكة الإسلامية، وامتدت الدولة المحمدية، وبلغت الرسالة المصطفوية في مشارق الأرض ومغاربها، وظهر للناس مصداق قوله تعالي:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} (1)، وقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)} (2).
وقد كان رضي الله عنه حسن الشكل، مليح الوجه كريم الأخلاق، ذا حياء كثير، وكرم عزير، يؤثر أهله وأقاربه في الله، تأليفاً لقلوبهم من متاع الحياة الدنيا الفاني، لعله يرغبهم في إيثار ما يبقي على ما يفنى، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي أقواماً ويدع آخرين، يعطي أقواماً خشية أن يكبه الله على وجوهم في النار، وبكل آخرين إلى ما جعل الله في قلوبهم من الهدي والإيمان، وقد تعنت عليه بسبب هذه الخصلة أقوام، كما تعنت بعض الخوارج على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإيثار.
أقول: إن استعانة أمير المؤمنين ببعض أقاربه قد يكون فيه مصالح منها الضبط ومنها قوة الولاء ومنها الجرأة على المصارحة بواقع الحال، ولكن الناس ألفوا سنة عمر الذي كان يستبعد أن يولي أحداً من أقاربه فلم يسلم بعضهم لعثمان بهذا الاجتهاد، وهو على كل حال من الأحوال اجتهاد خلية راشد يشكل سابقة من سوابق الحكم في الأمة الإسلامية، وعلى أمراء المؤمنين أن يجاهدوا أنفسهم فلا يميلوا مع الهوى ويتخيروا من سنن الخلفاء الراشدين ما هو الأنسب للصالح العام.
وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل عثمان رضي الله عنه:
قال البخاري في التاريخ: ثنا موسي بن إسماعيل ثنا مبارك بن فضالة قال: سمعت الحسن يقول: أدركت عثمان على ما نقموا عليه، قل ما يأتي على الناس يوم إلا وهم يقتسمون فيه خيراً، يقال لهم: يا معشر المسلمين أعدوا على أعطياتكم، فيأخذونها وافرة، ثم
(1) النور: 55.
(2)
التوبة: 33.
يقال لهم: أغدوا على أرزاقكم فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم اغدوا على السمن والعسل، الأعطيات جارية، والأرزاق دارة، والعدو متقي وذات البين حسن، والخير كثير، وما من مؤمن يخاف مؤمناًن ومن لقيه هو أخوه، بمعني أن الإخاء وافر بين المسلمين- قال الحسن: فلو أنهم صبروا لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والرزق والخير الكثير، بل قالوا: لا والله ما ناصبرها: فو الله ما نصابرها: فوالله ما وردا - أي ما حققوا الدنيا وخيرها - وما سلموا، والأخرى كان السيف مغمداً عن أهل الإسلام فسلّوه على أنسهم، فوالله ما زال مسلولاً إلى يوم الناس هذا، وأيمن الله إني لأراه سيفاً مسلولاً إلى يوم القيامة.
وقد روي هذا من غير وجه أنه صلى بالقرآن العظيم ي ركعة واحدة عند الحجر الأسود أيام الحج، وقد كان هذا من دأبه رضي الله عنه، ولهذا روينا عن ابن عمر أنه قال في قوله تعالى:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} (1) قال: هو عثمان بن عفان، وقال ابن عباس في قوله تعالى:{هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) قال: هو عثمان: وقال حسان:
ضحّوا بأشمطَ عنوان السجود به
…
يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا
وقال سفيان بن عبينة: ثنا إسرائيل بن موسى سمعت الحسن يقول قال عثمان: لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي على يوم لا أنظر في المصحف، وما مات عثمان حتى خرق مصحفه نم كثرة ما يديم النظر يه، وقال أنس ومحمد بن سيرين: قالت امرأة عثمان يوم الدار: اقتلوه أو دعوه، فو الله لقد كان يحيي الليل بالقرآن في ركعة، وقال غير واحد: إنه رضي الله عنه كان لا يوقظ أحداً من أهله إذا قام من الليل ليعينه على وضوئه، إلا أن يجده يقظان، وكان يصوم الدهر، وكان يعاتب فيقال: لو أيقظت بعض الخدم؟ فيقول: لا الليل لهم يستريحون فيه، وكان إذا اغتسل لا يرع. المئزر عنه، وهو في بيت مغلق عليه، ولا يرفع صلبه جيداً من شدة حيائه رضي الله عنه.
(1) الزمر: 9.
(2)
النحل: 76.
ومن مناقبه الكبار وحسناته العظيمة أنه جمع الناس على قراءة واحدة، وكتب المصحف على العرضة الأخيرة، التي درسها جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سني حياته، وكان سبب ذلك أن حذيفة بين اليمان كان في بعض الغزوات، وقد اجتمع فيها خلق من أهل الشام، ممن يقرأ على قراءة المقداد بن الأسود وأبي الدرداء، وجماعة من أهل العراق، ممن يقرأ على قراءة عبد الله بن مسعود وأبي موسى، وجعل من لا يعلم بسوغان القراءة على سبعة احرف، يفضّل قراءته على قراءة غيره، وربما خطاً الآخر أو كفره، فأدي ذلك إلى اختلاف شديد، وانتشار في الكلام السيئ بين الناس، فركب حذيفة إلى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها كاختلاف اليهود والنصارى في كتبهم، وذكر له ما شاهد من اختلاف الناس في القراءة، فعند ذلك جمع عثمان الصحابة وشاورهم في ذلك، ورأي أن يكتب المصحف على حرف واحد، وأن يجمع الناس في سائر الأقاليم على القراءة به، دون ما سواه، لما رأي في ذلك من مصلحة كف المنازعة، ودع الاختلاف، فاستدعي بالصحف التي كان الصديق أمر زيد بن ثابت بجمعها، فكانت عند الصديق أيام حياته، ثم كانت عند عمر، فلما توفي صارت إلى حفصة أم المؤمنين، فاستدعي بها عثمان وأمر زيد بن ثابت الأنصاري أن يكتب وأن يملي عليه سعيد بن العاص الأموي، بحضرة عبد الله بن الزبير الأسدي وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وأمرهم إذا اختلفوا في شييء أن يكتبوه بلغة قريش، كتب لأهل الشام مصحفاً، ولأهل مصر آخر، وبعث إلى البصرة مصحفاً وإلى الكوفة بآخر، وأرسل إلى مكة مصحفاً وإلى اليمن مثله، وأقر بالمدينة مصحفاً، ويقال لهذه المصاحف الأئمة، وليست كلها بخط عثمان، بل ولا واحد منها، وإنما هي بخط زيد بن ثابت، وإنما يقال لها المصاحف العثمانية نسبة إلى أمره وزمانه، وإمارته، كما يقال دينار هرقلي، أي ضرب في زمانه ودولته.
قال أبو عمر بن عبد البر: دفنوا عثمان رضي الله عنه بحش كوكب - وكان قد اشتراه وزاده في البقيع - ولقد أحسن بعض السلف إذ يقول وقد سئل عن عثمان: هو أمير البررة، وقتيل الفجرة، مخذول من خذله، منصور من نصره.