الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقال له: إني أرى أن تقر عمالك على البلاد، فإذا أتتك طاعتهم استبدلت بعد ذلك بمن شئت وتركت من شئت، ثم جاءه من الغد فقال له: إني أرى أن تعزلهم لتعلم من يطيعك ممن يعصيك، فعرض ذلك علي على ابن عباس فقال: لقد نصحك بالأمس وغشك اليوم، فبلغ ذلك المغيرة فقال: نعم نصحته فلما لم يقبل غششته ثم خرج المغيرة فلحق بمكة، ولحقه جماعة منهم طلحة والزبير: وكانوا قد استأذنوا عليًا في الاعتمار فأذن لهم، ثم إن ابن عباس أشار على علي باستمرار نوابه في البلاد، إلى أن يتمكن الأمر، وأن يقر معاوية خصوصًا على الشام وقال له: إني أخشى إن عزلته عنها أن يطلبك بدم عثمان ولا آمن طلحة والزبير أ، يتكلما عليك بسبب ذلك، فقال علي: إني أرى هذا ولكن اذهب أنت إلى الشام فقد وليتكها، فقال ابن عباس لعلي: إني أخشى من معاوية أن يقتلني بعثمان، أو يحبسني لقرابتي منك ولكن اكتب معي إلى معاوية فمنه وعده، فقال عليك والله إن هذا مالا يكون أبدًا، فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين الحرب خدعة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله لئن أطعتني لأوردنهم بعد صدرهم ونهى ابن عباس عليًا فيما أشار عليه أن يقبل من هؤلاء الذين يحسنون إليه الرحيل إلى العراق، ومفارقة المدينة، فأبى عليه ذلك كله، وطاوع أمر أولئك الأمراء من أولئك الخوارج من أهل الأمصار.
وهذا موجز لما حدث في سني عهده رضي الله عنه:
ثم دخلت سنة ست وثلاثين من الهجرة:
استهلت هذه السنة وقد تولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الخلافة، وولى عى الأمصار نوابًا، فولى عبيد الله بن عباس على اليمن، وولى سمرة بن جندب على البصرة، وعمارة بن شهاب على الكوفة، وقيس بن سعد بن عبادة على مصر، وعلى الشام سهل بن حنيف بدل معاوية، فسار حتى بلغ تبوك فتلقته خيل معاوية، فقالوا: من أنت؟ فقال: أمير، قالوا: على أي شيء؟ قال: على الشام، فقالوا: إن كان عثمان بعثك فحيهلا بك، وإن كان غيره فارجع. فقال: أو ما سمعتم الذي كان؟ قالوا: بى، فرجع إلى علي. وأما قيس بن سعد فاختلف عليه أهل مصر فبايع له الجمهور، وقالت طائفة: لا نبايع حتى نقتل قتلة عثمان، وكذلك أهل البصرة، وأما عمارة بن شهاب المبعوث أميرًا على
الكوفة فصده عنها طلحة بن خويلد غضبًا لعثمان، فرجع إلى علي فأخبره، وانتشرت الفتنة وتفاقم الأمر، واختلفت الكلمة، وكتب أبو موسى إلى علي بطاعة أهل الكوفة ومبايعتهم إلا القليل منهم، وبعث علي إلى معاوية كتبًا كثيرة فلم يرد عليه جوابها، وتكرر ذلك مرارًا إلى الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر، ثم بعث معاوية طومارًا (1) مع رجل فدخل به على علي فقال: ما وراءك؟ قال جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القود كلهم موتور، تركت سبعين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق، فقال علي: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ثم خرج رسول معاوية من بين يدي علي فهم به أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان يريدون قتله، فما أفلت إلا بعد جهد، وعزم علي رضي الله عنه على قتال أهل الشام، وكتب إلى قيس بن سعد بمصر يستنفر الناس لقتالهم، وإلى أبي موسى بالكوفة: وبعث إلى عثمان بن حنيف بذلك، وخطب الناس فحثهم على ذلك، وعزم على التجهز، وخرج من المدينة، واستخلف عليها قثم بن العباس، وهو عازم أن يقاتل بمن أطاعه من عصاه وخرج عن أمره ولم يبايعه مع الناس، وجاء إليه ابنه الحسن بن علي فقال: يا أبتي دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين، ووقوع الاختلاف بينهم، فلم يقبل منه ذلك، بل صمم على القتال، ورتب الجيش، فدفع اللواء إلى محمد بن الحنفية، وجعل ابن العباس على الميمنة، وعمرو بن أبي سلمة على الميسرة، وقيل جعل على الميسرة عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وجعل على مقدمته أبا ليلى بن عمرو بن الجراح ابن أخي أبي عبيدة، واستخلف على المدينة قثم بن العباس ولم يبق شيء إلا أن يخرج من المدينة قاصدًا إلى الشام، حتى جاءه ما شغله عن ذلك كله.
أقول: وهو خروج عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم عليه مطالبين بقتل قتلة عثمان، ومسيرهم إلى البصرة، وما جرى هنالك من وقائع مما ألجأ عليًا رضي الله عنه إلى المسير إلى البصرة، وكانت موقعة الجمل التي انتهت بانتصار علي رضي الله عنه.
وقال ابن كثير: بعد أن ذكر مجريات الأمور حتى نهاية المعركة وأقام علي بظاهر البصرة ثلاثًا صلى على القتلى من الفريقين، وخص قريشًا بصلاة من بينهم، ثم جمع ما
(1) طومارًا: جمعها طوامير، وهي الصحيفة.
وجد لأصحاب عائشة في المعسكر وأمر به أن يحمل إلى مسجد البصرة. فمن عرف شيئًا هو لأهلهم فليأخذه، إلا سلاحًا كان في الخزائن عليه سمة السلطان، وكان مجموع من قتل يوم الجمل من الفريقين عشرة آلاف، خمسة من هؤلاء وخمسة من هؤلاء، رحمهم الله ورضي عن الصحابة منهم وقد سأل بعض أصحاب علي عليًا أن يقسم فيهم أموال أصحاب طلحة والزبير، فأبى عليهم، فطعن فيه السبأية وقالوا: كيف يحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا أموالهم؟ فبلغ ذلك عليًا فقال: أيكم يحب أن تصير أم المؤمنين في سهمه؟ فسكت القوم، ولهذا لما دخل البصرة فض في أصحابه أموال بيت المال، فنال كل رجل منهم خمسمائة، وقال: لكم مثلها من الشام، فتكلم فيه السبأية أيضًا ونالوا منه من وراء وراء.
أقول: ثم إن عليًا رضي الله عنه نهد إلى أهل الشام فالتقوا في أواخر السنة السادسة والثلاثين وكان قتال ودخلت سنة سبع وثلاثين والقتال مستمر.
وقال ابن كثير: استهلت هذه السنة وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه متواقف هو ومعاوية بن أي سفيان رضي الله عنه، كل منهما في جنوده بمكان يقال له صفين بالقرب من الفرات شرقي بلاد الشام، وقد اقتتلوا في مدة شهر ذي الحجة كل يوم، وفي بعض الأيام ربما اقتتلوا مرتين، وجرت بينهم حروب يطول ذكرها، والمقصود أنه لما دخل شهر المحرم تحاجز القوم رجاء أن يقع بينهم مهادنة وموادعة يؤول أمرها إلى الصلح بين الناس وحقن دمائهم.
أقول: ولكن القتال استمر بعد ذلك فترة طويلة حتى إذا تضايق أهل الشام رفعوا المصاحف وتم الاتفاق على التحكيم، وكان قد قتل خلال ذلك عمار بن ياسر فعرف أن الحق بجانب علي رضي الله عنه، وقد ذكر ابن كثير مختصرًا لهذه الأيام فقال:
وجرت بينهم أمور طويلة، ورغب أكثر الناس من العراقيين وأهل الشام بكمالهم إلى المصالحة والمسالمة مدة لعله يتفق أمر يكون فيه حقن لدماء المسلمين، فإن الناس تقانوا في هذه المدة، ولا سيما في هذه الثلاثة الأيام المتأخرة التي آخر أمرها ليلة الجمعة وهي ليلة الهرير. كل من الجيشين فيه من الشجاعة والصبر ما ليس يوجد في الدنيا مثله، ولهذا لم
يفر أحد عن أحد، بل صبروا حتى قتل من الفريقين فيما ذكره غير واحد سبعون ألفًا. خمسة وأربعون ألفًا من أهل الشام، وخمسة وعشرون ألفًا من أهل العراق. قاله غير واحد منهم ابن سيرين وسيف وغيره، وزاد أبو الحسن بن البراء -وكان في أهل العراق- خمسة وعشرون بدريًا، قال: وكان بينهم في هذه المدة تسعون زحفًا واختلفا في مدة المقام بصفين فقال سيف: سبعة أشهر أو تسعة أشهر. وقال أبو الحسن بن البراء مائة وعشرة أيام. قلت: ومقتضى كلام أبي مخنف أنه كان من مستهل ذي الحجة في يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من صفر وذلك سبعة وسبعون يومًا فالله أعلم، وقال الزهري: بلغني أنه كان يدفن في القبر الواحد خمسون نفسًا. هذا كله ملخص من كلام ابن جرير وابن الجوزي في المنتظم.
ثم تراوض الفريقان بعد مكاتبات ومراجعات يطول ذكرها على التحكيم، وهو أن يحكم كل واحد من الأميرين -على ومعاوية- رجلاً من جهته. ثم يتفق الحكمان على ما فيه مصلحة للمسلمين. فوكل معاوية عمرو بن العاص، وأراد علي أن يوكل عبد الله بن عباس -وليته فعل- ولكنه منعه القراء وقالوا: لا نرضى إلا بأبي موسى الأشعري.
ثم أخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما، والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كليهما عهد الله وميثاقه أنهما على ما في هذه الصحيفة، وأجلا القضاء إلى رمضان وإن أحبا أن يوخرا ذلك على تراض منهما، وكتب في يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين، على أن يوافى علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في رمضان، ومع كل واحد من الحكمين أربعمائة من أصحابه، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح.
وتفرق الناس إلى بلادهم من صفين، وخرج معاوية إلى دمشق بأصحابه، ورجع علي إلى الكوفة على طريق هيت فلما دخل الكوفة سمع رجلاً يقول: ذهب علي ورجع في غير شيء فقال علي: للذين فارقناهم خير من هؤلاء وأنشأ يقول:
أخوك الذي إن أحرجتك ملمة
…
من الدهر لم يبرح لبثك راحما