الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنشد بعده وهو، الإنشاد الثالث والثمانون:
(83)
قد قيل ما قيل إن حقًّا وإن كذبا
تمامه:
فما اعتذارك من قول إذا قيلا
على أن كان بعد إن محذوفة، والتقدير: إن كان حقًا وإن كان كذبًا، واسم كان ضمير يرجع إلى ذلك، والمشار إليه بذلك البرص الذي في استه.
وهذا البيت من قطعة للنعمان وهي:
شرِّد برحلك عنيّ حيث شئت ولا
…
تكثر عليَّ ودع عنك الأقاويلا
فقد رميت بداء لست غاسله
…
ما جاور السَّيل أهل الشَّام والنِّيلا
فما انتفاؤك منه بعد ما قطعت
…
هوج المطيّ به أكناف شمليلا
قد قيل ذلك إن صدقا وإن كذبا
…
فما اعتذارك من شيء إذا قيلا
فالحق بحيث رأيت الأرض واسعةً
…
وانشر بها الطَّرف إن عرضًا وإن طولا
قوله: شرد، أي: فرق وأبعد، والرحل: المأوى قال في "المصباح": رحل الشخص: مأواه في الحضر، ثم أطلق على أمتعة المسافر، لأن هناك مأواه، وقوله: فقد رميت، أي: قذفت، وأراد بالداء، كما يأتي بيانه. وروي بدله:"فقد ذكرت به والركب حامله" والهاء في: به، وحامله، للبرص أيضًا، وقوله: ما جاور السيل إلخ "ما" ظرفية دوامية، وجاور. روي بالراء والزاء المعجمية، والسيل: هو الماء الجاري بدفع شديد من الأمطار، وهو فاعل، وأهل الشام مفعوله، وقوله: والنيلا، أي: وأهل النيل، وهو نيل مصر، فلما حذف المضاف قام المضاف إليه مقامه. والهوج: جمع هوجاء، وهي الناقة الشديدة السريعة، كأن بها هوجًا، وهو الطيش والحمق والسرعة، والمطي: جمع مطية، فعيلة بمعنى مفعولة، وهي من الإبل ما يركب مطاه، والمطا: الظهر، وشمليل، كقنديل،
هو كما قال أبو عبيد البكري في "معجم ما استجم": اسم بلد: وأنشد هذا البيت. ولم يصب العيني في قوله: هي الناقة الخفيفة، وقلده السيوطي فقال مثله.
وسبب هذه الأبيات ما رواه السيد المرتضى في أماليه المسماة بـ "غرر الفرائد ودرر القلائد": أن عمارة وأنسًا وقيسًا والربيع، بني زياد العبسي، وفدوا على النعمان بن المنذر، ووفد عليه العامريون بنو أم البنين، وعليهم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب، وهو ملاعب الأسنة، وكان العامريون ثلاثين رجلًا، وفيهم لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب وهو يومئذ غلام له ذوائبة، وكان الربيع بن زياد العبسي ينادم النعمان، ويكثر عنده، ويتقدم على من سواه، وكان يدعى الكامل لشطاطه وبياضه وكماله، فضرب النعمان قبة على أبي براء، وأجرى عليه وعلى من كان معه النزل، وكانوا يحضروا النعمان لحاجتهم فافتخروا يومًا بحضرته، فكاد العبسيون يغلبون العامريين. وكان الربيع إذا خلا بالنعمان، طعن فيهم وذكر معايبهم، ففعل ذلك مرارًا لعداوته لبني جعفر، لأنهم كانوا أسروه، فصد النعمان عنهم حتى نزع القبة عن أبي براء وقطع النزل، ودخلوا عليه يومًا فرأوا منه جفاء، وقد كان قبل ذلك يكرمهم، ويقدم مجلسهم، فخرجوا من عنده غضابًا وهموا بالانصراف، ولبيد في رحالهم يحفظ أمتعتهم، ويغدوا بإبلهم فيرعاهم، فإذا أمسى انصرف بها.
فأتاهم تلك الليلة وهم يتذاكرون أمر الربيع، فقال لهم: ما لكم تتناجون، فكتموه وقالوا له: إليك عنا، فقال: أخبروني، فلعل لكم عندي فرجًا فزجروه، فقال: والله لا أحفظ لكم [متاعًا] ولا أسرح لكم بعيرًا أو تخبروني. وكانت أم لبيد عبسية في حجر الربيع، فقالوا له: إن خالك قد غلبنا على الملك وصدَّ عنا وجهه، فقال لهم: هل تقدرون أن تجمعوا بيني وبينه غدًا حين يقعد الملك، فأرجز به رجزًا ممضًا مؤلمًا لا يلتفت
إليه النعمان بعده أبدًا؟ قالوا له: وهل عندك ذاك؟ قال: نعم. قالوا: فإنا نبلوك بشتم هذه البقلة، وقدّامهم بقلة دقيقة القضبان، قليلة الورق، لاصقة فروعها بالأرض، تدعى: التَّربة فاقتلعها من الأرض، وأخذها بيده، وقال: هذه البقلة الترَّبة التفلة الرذلة التي لا تذكي نارًا ولا تسر جارًا، عودها ضئيل، وفرعها ذليل، وخيرها قليل، بلدها شاسع، ونبتها خاشع، وآكلها جائع، والمقيم عليها قانع، أقصر البقول فرعًا، وأخبثها مرعى، وأشدها قلعًا، فحربًا لجارها وجدعًا! ألقوا بي أخا عبس، أرجعه عنكم بتعس ونكس، وأتركه من أمره في لبس.
فقالوا: نصبح ونرى فيك رأينا، فقال لهم عامر: انظروا إلى غلامكم هذا، فإن رأيتموه نائمًا، فليس أمره بشيء وإنما تكلم بما جرى على لسانه، وإن رأيتموه ساهرًا، فهو صاحبكم؛ فرمقوه بأبصارهم، فوجدوه قد ركب رحلًا يكدم واسطته حتى أصبح، فلما أصبحوا قالوا: أنت والله صاحبه، فحلقوا رأسه، وتركوا له ذؤابتين، وألبسوه حلة، وغدوا به معهم، فدخلوا على النعمان، فوجدوه يتغدى ومعه الربيع ليس معه غيره، والدار والمجالس مملوءة بالوفد، فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريين، فدخلوا عليه والربيع إلى جانبه، فذكروا للنعمان حاجتهم، فاعترضهم الربيع في كلامهم، فقام لبيد، وقد دهن إحدى شقي رأسه، وأرخى إزاره، وانتعل نعلًا واحدة، وكذلك كانت الشعراء تفعل في الجاهلية إذا أرادت الهجاء، فمثل بين يديه ثم قال:
يا ربَّ هيجاهي خير من دعه
…
إذ لا تزال هامتي مقزَّعه
نحن بنو أمِّ البنين الأربعة
…
ونحن خير عامر بن صعصعه
المطعمون الجفنة المدعدعه
…
والضَّاربون الهام تحت الخيضعه
مهلًا أبيت الَّلعن لا تأكل معه
…
إنَّ أسته من برص ملمَّعه
وإنَّه يدخل فيها إصبعه
…
يدخلها حتّى يواري أشجعه
كأنَّما يطلب شيئًا ضيَّعه
فلما فرغ لبيد التفت النعمان إلى الربيع يرمقه شزرًا قال: أكذاك أنت؟ قال: كذب والله ابن الحمق اللئيم، فقال النعمان: أفٍّ لهذا الطعام، لقد خبث علي طعامي، فقال الربيع: أبيت اللعن! أما إني قد فعلت بأمه، لا يكني، وكانت في حجره، فقال لبيد: أنت لهذا الكلام أهل، أما إنها من نسوة غير فعل، وأنت المرء قال هذا في يتيمته. وفي رواية أخرى: إنها من نسوة فعل، وإنما قال ذلك لأنها كانت من قوم الربيع، فنسبها إلى القبيح، وصدقه عليها تهجينًا له ولقومه.
فأمر الملك بهم جميعًا، فأخرجوا، وأعاد على أبي براء القبة، وانصرف الربيع إلى منزله، فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه به، وأمره بالانصراف إلى أهله، فكتب إليه: إني قد تخوفت أن يكون قد وقع في صدرك ما قال لبيد، ولست برائم حتى تبعث من يجردني ليعلم من حضرك من الناس أني لست كما قال، فأرسل إليه: إنك لست صانعًا بانتفائك مما قال لبيد شيئًا، ولا قادرًا على ردِّ ما زلَّت به الألسن، فالحق بأهلك؛ ثم كتب إليه النعمان في جملة ما كتبه، أبياتًا جوابًا عن أبيات كتبها إليه الربيع مشهورة:
شمِّر برحلك عني حيث شئت ولا
…
تكثر عليَّ ودع عنك الأقاويلا
قد قيل ذلك إن حقّا وإن كذبا
…
فما اعتذارك من شيءٍ إذا قيلا
وقد جاءنا هذا الخبر من عدة طرق، وفي كل زيادة على الآخر، ولم نأت بجميع الخبر على وجهه، بل أسقطنا منه ما لم نحتج إليه. انتهى كلام المرتضى،